حياتنا "غزّة" تغز في نكبتنا

 تصادف ذكرى النكبة هذه السنة أحداث مروّعة لم تسجّل في دفاتر الذكرى بعد. كيف نحيي يوم الأرض والنكبة والنكسة وما تلا وتخلل من أحداث كارثية على تاريخنا المعاش وسط هذه الحرب الدامية الغاشمة على غزة.

ذلك الشعب الذي انتكب في 1948 يعتصر منذ سبعة شهور ويسحق بلا رحمة ولا هوادة ونشهد بأم أعيننا مجازر وإبادة ممنهجة لتصفية عرقية بدأت في نكبة وتصب اليوم في شلال دم ساحق يودي بغزة.

لا عودة نرفع شعارها هذه السنة، ولا ذكرى نتوقف أمام يومها لنترك للتمنيات آفاقاً نحلم باختراقها وتخيلها. فنحن نعيش أحداث نكبة متجددة لا تكف عن مطاردتنا بينما تتم محاولات خلعنا وطردنا وسحقنا تحت تراب هذا الوطن الكليم والمضرج بدماء أبنائه.

كيف نقف هذا العام، ونرفع شعارات احتجاج أو مطالبات بحقّ عودة في وقت صار الحق فيه لا يحمل في معانيه أكثر من مجابهة تطبيق قوانين عنصرية إقصائية عرقية، تحق الظلم وتبدد الحق، كغبار وسط نيران البطش المشتعلة بجثث أهل غزّة.

هل تبدو النّكبة نافذة صغيرة على الخراب الذي كان ينتظر هذا الشعب على مدار ثمانية عقود من الاحتلال؟ كيف تخوننا المصطلحات وسط سفك الدماء وتحلل الجثث ودمار العمران وانتشار الخراب في كل معالم الحياة؟ أم أنّ الكلمات تخجل من التشكل وسط الألم والوجع الضاغط على قلوبنا فيخرسنا بصمت العجز والترهيب والرعب؟

تقطّعت غزّة وتبدّدت معالمها، وصارت نكبة أهلها تلوّح بأوصالها المقطّعة لنا استغاثة تحفر في قلوبنا بئراً، نَسحق في عمقه عجزاً، تعبّر عنه تمتمة صدى صرخات لا تقوى على الخروج، لتحيي من جديد ذكريات نكبة تطفو الى سطح الذكريات. كل هذا وأهل غزّة ينتظرون عودة لبلدة او مدينة حملت المخيمات المكتظة أسماءها، وحفرت ذكريات الأجداد في الوجدان معالمَ لحاراتها وشوارعها ومدارسها.

لو كانت الشاشات أمامنا في زمن النّكبة الدّامي ترصد وتصور الأحداث، هل كنا سنشاهد ذات المشاهد التي يعيشها أهل غزة اليوم؟

هل تمّ اختزال الإبادة التي بدأت في 1948 بكلمة نكبة؟ ما قام به المحتل من مجازر وإباحة واستباحة وقتل وعربدة وطرد تم دفنه في تلك البئر السّحيقة من ذاكرتنا الفلسطينيّة الجمعيّة ليتوه طيفه أمامنا في كلمة نكبة.

لطالما تساءلت عن صمت أهلي عن أحداث النكبة، كنت أحمد الله على أنني نشأت في عائلة لم تذق وبال النكبة، ولكنها انحدرت نحو تهجير طوعي أو قسري لا أعرف. لكني أعرف اليوم معنى الصمت الذي يصكّ صداه ليصمّ الآذان ويصمت القلوب. معنى الوطن الذي يُختطف من أبنائه ليعيشوا في تيه الغربة والاغتراب.

  كيف لنا أن نعرف ما جرى من مشروع إبادة اكتفينا بتسميته بالنكبة؟، وما زلنا نستعيد ذكرى هذا المشروع بنفس المسمّى.

ربما نحتاج إلى تفكيك تلك الكلمة ورميها في أعماق الذاكرة التي حدّدت معالمها.

بينما كان المحتل يُبيد ويشتت ويطرد، كانت ماكنته الإعلامية تحصد التعاطف لما ارتكبته النازية من مجازر. صارت مجازرنا وإبادتنا وشتاتنا نكبة، ليستمروا بإشعال نيران ذكرى المحرقة بمدافن نعيشها على شكل بيوت ننتظر إعلان وفاتنا بموت رحيم أو حتى يحين موعد الأجل الذي لا يطاوله طاغوت المحتل.

نحن شعب لا نزال نحيا إبادة لا تتوقف، إبادة تشهد محطات بين الفينة والأخرى. كقطار محطته الأخيرة محو هذا الشعب من الوجود من أجل وجوده. كانت النكبة إحدى محطاته، والنكسة، ويوم الأرض، والانتفاضة، وأوسلو، وانقسام غزة، واتفاقيات تطبيع وتطويع، وعمليات يتم التسابق على وضع اسم لها.

كَبُرت وكلمة نكبة كانت تشكّل محور كارثة بدت دوماً أكبر من حروف تلك الكلمة. وكأنّها طَوّعت حروفها لتعبّر عن أبعاد المأساة التي تَسابق صنّاع الكلمات على احتوائها في تغريبة شكّلت اغترابنا عن واقع هذه الكارثة الإنسانيّة الكبرى. كارثة تتواصل في تفاقمها لتسحق في طريقها ما تبقّى من صمود لهذا الشعب المنكوب في مصابه المتجدد، في حرب إبادة يسعى أطرافها لخنق ما تبقّى منه بعد سحقه وجرفه وقتله في كل فرصة من جديد.

تحط ذكرى النكبة هذا العام كظل ثقيل ملبّد بخذلان شتاء قاس مدمر عتيد. فلا ربيع تزهر فيه نباتات اشتاقت للحياة وسط تراب فجع بالدماء.

حياتنا ليست نكبة مستمرة، كامرأة أثقلها الحزن والكلم على ابن اقتلعته أضراس الظلم من حضنها. حياتنا غزّة تغزّ في أرجائنا، لا نقوى على جلوس أو نهوض. حياتنا غزّة تغزّ في أوصالنا، لا نكاد نتحسس مكان النّزيف حتى ينفجر وريد. حياتنا غزة تغز في نكبتنا، كتلك المرأة الكليمة بثقل حزنها، بألم ووجع وقهر يعجزها ويخمد نور نارها برماد يرمد النظر فيطفئ القلوب وينكبها.


الصورة: للمصوّر - الصحفي معتز عزايزة.

نادية حرحش

باحثة، كاتبة وناشطة . ولدت ونشأت في القدس . درست العلوم السياسية والمحاماة (عضو نقابة المحامين الفلسطينيين) . حاصلة على شهادات عليا في حل النزاع والتفكير الاستراتيجي، التنظيم المجتمعي ، الفلسفة الاسلامية والدراسات المقدسية. كاتبة صحفية في وكالة وطن للانباء (رام الله ) ،رأي اليوم (لندن) ،مجلة ٧ أيام (مصر). تعمل محاضرة في مجال الصراع الفلسطيني الاسرائيلي والحضارات العالمية والفلسفة الاسلامية . لها أبحاث في الفلسفة الاسلامية والمرأة والشأن الفلسطيني.  

شاركونا رأيكن.م