نداء- افتحوا أبواب التفكير الإبداعي في المدارس

في نهاية العام الدراسي الماضي، طلبت من الطلاب، خلال تواجدي في غرفة الصف، تقديم أفكار لحل مشكلة اجتماعية بسيطة: وصول الكراسي المتحركة الخاصة بمحدودي الحركة إلى ساحة الألعاب الموجودة في الطابق الثاني من المدرسة. كان الهدف من هذه المهمة تشجيع التفكير الإبداعي ورؤية كيفية تقديم الطلاب حلولًا جديدة لمشكلة معروفة. للأسف، كانت النتائج مخيبة للآمال. ركز معظم الطلاب على الحلول التقليدية مثل تركيب مصعد أو إضافة منحدر، وكانوا يواجهون صعوبة في تقديم أفكار جديدة. هذا الوضع ليس عرضيًا، بل يعكس مشكلة بنيوية أعمق بكثير.

أبدأ بالمعطيات الصعبة التي تشير إلى واقع مقلق: في امتحان "بيزا" 2022، تفوقت %13 فقط من الطالبات في جهاز التعليم العربي في التفكير الإبداعي، مقارنة بـ %44 من الطالبات في جهاز التعليم العبري في إسرائيل. بين الطلاب الذكور، الوضع أسوأ: %9 فقط من الطلاب العرب تفوقوا، مقارنة بـ %36 من الطلاب الناطقين بالعبرية في المدارس الحكومية. ليست هذه الفجوات مجرد أرقام؛ إنها تشير إلى واقع مرير حيث يُهمّش طلاب المجتمع العربي، بشكل يجعلهم غير قادرين على مواجهة تحديات المستقبل ويُحكم عليهم بالفقر المستمر.

هذا الواقع ليس عشوائيًا. تركّز منظومة التعليمي العربي على المواد العلمية وحفظ المعلومات، على حساب تطوير مهارات التفكير الإبداعي. تعمل المنظومة بناءً على مناهج دراسية محددة مسبقًا، وتركز على التعليم الوجاهي أحادي الاتجاه. ونحن جميعًا نعلم كيف يميل المعلمون ومدراء المدارس العرب إلى "تقديس الكتاب"، والتركيز على التحصيل والدرجات بدلاً من سيرورة التعلم نفسها.النتيجة هي أن الطلاب العرب يُوجَّهون إلى حفظ المعلومات كوسيلة نجاح في الامتحانات، ويأتي هذا على حساب التفكير المستقل، النقدي والإبداعي. أضف إلى ذلك أن الخوف من الأخطاء أو الابتعاد عن "الإجابة الصحيحة" يمنعهم من استكشاف خيارات أخرى ويعوق إبداعهم.

تداعيات هذا الواقع مدمرة في المجتمع العربي، الذي يواجه الفقر والعنف. بدلاً من تمكين الطلاب من تطوير تفكير إبداعي يمكن أن يخرجهم من دائرة الفقر، يوجههم جهاز التعليم العربي لتحقيق إنجازات أحادية الأبعاد، ويحدّ من قدرتهم على التعامل مع تحديات الحياة العصرية والمهارات المطلوبة في القرن الحالي السريع القفزات والتطورات خاصة التكنولوجية. سيجد الطلاب الذين يواجهون صعوبة في التفكير الإبداعي صعوبة في الاندماج في سوق العمل المتطور، حيث يشكل الابتكار والإبداع محركيّ النمو الرئيسين فيها.بدون القدرة على تقديم أفكار متنوعة وإبداعية، وتقييمها وتحسينها، سيجد طلاب المجتمع العربي أنفسهم في وظائف أقل مكافأة، بدون فرصة للترقي في السلم الاجتماعي والاقتصادي.

 من المهم أن نذكر أن هناك علاقة وثيقة بين مهارات القراءة والكتابة والقدرة على التفكير الإبداعي وتقديم أفكار جديدة. يجد الطلاب الذين يواجهون صعوبة في هذه المهارات صعوبة في التعبير عن أنفسهم بوضوح ودقة، مما يؤدي إلى نقص في التفكير الإبداعي. القراءة تغذي وتثري المفردات، وتعزز القدرة على فهم المفاهيم المعقدة وتطبيقها، وتَطوُّر المرونة الإدراكية - عنصر حاسم في التفكير الإبداعي وحل المشكلات المعقدة. عندما لا يتمكن الطلاب من مهارات القراءة والكتابة، فإنهم يكونون مقيدين بحلول تقليدية، وغير قادرين على التعبير عن أفكار إبداعية بنوها من طبقات معرفية واسعة سابقة. وفقًا لبيانات اختبار التنور اللغوي القُطري في إسرائيل لعام 2022، %12 فقط من طلاب الصف الرابع العرب (مقارنة بـ %59 في المدارس اليهودية) و %25 من طلاب الصف الثامن العرب في الدولة (مقارنة بـ %50 في المدارس الناطقة بالعبرية) وُجدوا في مستوى أداء عالٍ في مهارات اللغة. لم توقظ هذه النتائج أحدًا في اتجاه تغيير "إبداعي" ومُجدٍ لتغيير لهذا الواقع.

يركز تقييم التفكير الإبداعي في إطار اختبار "بيزا" على ثلاثة جوانب: تقديم أفكار متنوعة، وتقديم أفكار إبداعية، وتقييم الأفكار وتحسينها. يعكس كل جانب من هذه الجوانب مهارات معرفية مختلفة، ويمكن لتقييمها أن يكون أداة قوية لصانعي السياسات التعليمية. ليس التفكير الإبداعي مجرد سمة شخصية؛ إنه مهارة تستند إلى المعرفة والممارسة، وتُمكّن الأشخاص من تحقيق نتائج أفضل وأكثر فعالية في مواجهة التحديات وحل المشاكل وتعدي الحواجز.

في عالم تعتمد فيه المنظمات والشركات المحلية والعالمية بشكل متزايد على الابتكار وإنتاج المعرفة، هناك حاجة ملحة للتغيير في نظام التعليم العربي في الدولة. الحل واضح: يجب إجراء تغيير عاجل في النهج التعليمي في النظام التعليمي العربي. يجب أن يتوقف النظام عن التركيز فقط على حفظ المعرفة ويضع تركيزًا كبيرًا على تطوير التفكير الإبداعي من سن مبكرة. يجب تدريب المعلمين ليكونوا قادرين على دمج التفكير الإبداعي في الفصول الدراسية، وتقديم مناهج تحتوي على مهام مفتوحة تشجع على تقديم أفكار متنوعة وإبداعية، وتطوير مناهج مرنة تسمح للطلاب بالبحث والاكتشاف بأنفسهم. كل هذه الأمور معًا ستمنح طلاب المجتمع العربي الأدوات اللازمة للخروج من دائرة الفقر، والتقدم نحو الارتقاء في السلم الاجتماعي والاقتصادي، والعثور على مكانهم المستحق في سوق العمل المستقبلي.

أخيرًا، تغيير واقع التعليم العرب ليس سهلًا، وهو مرتبط بنواحٍ متعددة لم أذكرها في هذا المقال المقتضب، بدءًا من محتوى مناهج التعليم ومستوى تأهيل المعلمين، وحرية التعبير عن الهوية والانتماء، مرورًا بمسؤولية الأهل، وصولًا البنى التحتية وظروف المباني والتجهيزات وغيرها الكثير. في عصر العولمة سريع التغيرات، المسؤولية تقع على عاتق وزارة التربية والتعليم بمستوياتها كافة، وتقع علينا جميعًا كأفراد ومجموعات ومنظمات، علينا جميعًا بناء شبكة داعمة تضمن تزويد كل طالب وطالبة، أعني بملاءمة فردية، بالأدوات اللازمة التي تستطيع أن تكفيه للاندماج المستقبلي في درجات سلم التوظيف الوسطى والعليا في الدولة وخارجها.

د. ميسون أرشيد شحادة

باحثة ومحاضرة في الكلية الأكاديمية سخنين

متيل قندلفت
مقالة رائعة!
الاثنين 2 أيلول 2024
فؤاد موسى
مقال رائع يضع الإصبع على الجرح. كل الإحترام دكتورة. إنما يبقى السؤال، هل نستطيع إحداث التغيير المنشود في هذه الدولة التي تسعى إلى تخليد الوضع المزري القائم ؟
الاثنين 2 أيلول 2024
رأيك يهمنا