جِهَاز التَّرْبية والتَّعْليم العرَبيِّ فِي إِسرائيل: تحدِّيَات مُتعاظمة، عَجْز قديم وَأمَل جديد

"Nothing is new, but everything has changed”

ونحْن على أَعتَاب سنة دِراسِيَّة جَدِيدَة، أسْتحْضرُ فِي هذَا المقَال بعْضًا مِن التَّحدِّيات الماثلة أَمَام جِهَاز التَّرْبية والتَّعْليم العرَبيِّ فِي إِسْرائيل، فَمِنهَا مَا هُو " قديم "، " مَعرُوف " و" مَألُوف " وَمِنهَا مَا هُو مُسْتَجِد وقيْد التَّشَكُّل يَستدْعِي الانْتباه، البحْث والتَّمْحيص. مع هذَا، فَإِن كُلًّا مِن هَذِه التَّحدِّيات الرَّاهنة تَحْتاج إِلى اِسْتراتيجيَّات مُغَايرَة كُلِّيًّا لِلتَّعاطي مَعهَا.

 فجهاز التَّعْليم الفلسْطينيِّ العرَبيِّ فِي إِسْرائيل لَا زال يُرَاوِح مكانه أَمَام سِياسَات الفصْل، الضَّبْط، السَّيْطرة، التَّمْييز والتَّهْميش اَلتِي لَطَالمَا اِنْتهجتْهَا السُّلطات الإسْرائيليَّة المتعاقبة. فَعلَى سبيل الذِّكْر لَا الحصْر، لَا زَالَت المدارس العربيَّة تُعَانِي مِن نَقْص شديد فِي الميزانيَّات، ساعات التَّعْليم والْغرف التَّدْريسيَّة، إِلى جَانِب الإقْصاء والتَّهْميش فِي التَّأْثير على المناهج والْكتب التَّعْليميَّة اَلمعِدة لِجهاز التَّعْليم العرَبيِّ فِي إِسْرائيل.

 فِي هذَا السِّيَاق لَا مَنَاص أَمَام لَجنَة مُتَابعَة قضايَا التَّعْليم العرَبيِّ مِن مُوَاصلَة التَّصَدِّي لِهَذه المعوِّقات، واسْتئْناف النِّضَالالجماهيريِّ اَلشعْبِي والْقضائيِّ لِمواجهة هَذِه السِّياسات السُّلْطويَّة الظَّالمة المجْحفة، حَتَّى لَو تَعَاظمَت وازْدادتْ، وَذلِك لِأَنه يُسَكننَا دائمًا وأبدًا أملا دائمًا فِي تَحقِيق الرِّفْعة لِهَذا المجْتمع.

بِموازاة هَذِه التَّحدِّيات اَلجلِية، المتواصلة مُنْذ نَشأَة الدَّوْلة والمتزايدة وطْأتهَا فِي السَّنوات الأخيرة، يَشهَد مُجْتمعنَا الفلسْطينيُّ تغْييرات جَذرِية عَمِيقَة، مُتسارعة ومتعاظمة تُلْقِي بِظلالهَا على هذَا المجْتمع بِشَكل كبير. هَذِه التَّحدِّيات المسْتجدَّة تَحدَّث ضِمْن جُملَة مِن اَلأُمور مِنهَا: اِنتِشار وَاسِع لِوسائل التَّواصل الاجْتماعيِّ وألْعَاب الفيدْيو، هَيمنَة ثَقافَة السُّوق وانْتشار ثَقافَة الاسْتهْلاك، إِلى جَانِب تغْييرات جَذرِية على مَفهُوم اَلأُسرة فِي الغرْب، يُصْدرهَا لَنَا مِن خِلَال بَرامِجه التِّلفزْيونيَّة والْأفْلام السِّينمائيَّة.

إِنَّ هَذِه التَّغْييرات بَاتَت تُشكِّل خطرًا مُتزايدًا على وعْينَا اَلجمْعِي، مدارسنَا، أًسرُنا، مُعلِّمينَا، أطْفالنَا ومجْتمعنَا عُمومًا. وهِي بِهَذا لَا تَفرِض فقط مَفاهِيم جَدِيدَة غَرِيبَة عن ثقافتنَا، بل بَاتَت أيْضًا تُؤثِّر بِشَكل مُتَزايِد على مُجمَل العلاقات دَاخِل الأسْروالْمجْتمع عُمُوم، بِمَا فِي ذَلِك العلاقات القائمة مَا بَيْن المدْرسة والْأهالي مِن جِهة، وَبيَّن الَّذين يقومون بِالْأدْوار التَّرْبويَّة فِيالمجْتمع (خَاصَّة اَلأُسرة والْمربِّين) والطُّلَّاب، مِن جِهة أُخرَى.

مِن أَبرَز التَّغْييرات اَلتِي أفْرزتْهَا هَذِه التَّحدِّيات على المجْتمع الفلسْطينيِّ فِي إِسْرائيل هُو بَوادِر تَفكُّك اَلأُسرة العربيَّة مع تَزايُد نِسب الطَّلَاق بِشَكل مُطرِد وَمقلِق. كَذلِك فَإِن اَلهُوة الشَّاسعة اَلآخِذة بِالازْدياد مَا بَيْن البالغين وأبْنَاء الشَّبيبة فِي المجْتمع العرَبيِّ، تُسْهِم فِي حُدُوث تَراجُع وانْحسار وَقصُور كبير فِي دَوْر الأهالي والْمربِّين على السَّوَاء، إِلى جَانِب تَضاؤُل قُدْرتِهم فِي التَّأْثير على حَيَاة الأبْناء. أَطلَق عَالَم الاجْتماع البولنْديِّ زِيجْمونْتْ باوْمَان على هَذِه السَّيْرورة مُصطَلَح " الحداثة السَّائلة " وَالتِي بِحَسب مَا أَشَار إِلَيه مِن شأْنهَا أن تُؤدِّي إِلى تَميِيع القيم والْأخْلاق، وَذلِك مِن أَجْل تَحقِيق رَغَبات الإنْسان ومصالحها لمادِّيَّة.

وَإِن كَانَت هَذِه التَّغْييرات اَلمُشار إِليْهَا أَعلَاه عَالمِية كَونِية مِن شأْنهَا أن تُؤثِّر على كَافَّة المجْتمعات، أَدعِي أَنهَا فِي حَالتِنا الفلسْطينيَّة تُصْبِح أَكثَر وَطأَة وأكْثر تأْثيرًا على مُجْتمعنَا مِن سَائِر المجْتمعات اَلأُخرى. وَذلِك نَتِيجَة غِيَاب سُلطَة مَركزِية تُعنَىبِ الْمجْتمع الفلسْطينيِّ فِي إِسْرائيل وتسْعى لِرَصد هَذِه التَّغْييرات مِن أَجْل اِسْتحْداث اَلخُطط والْبرامج لِمواجهتهَا والتَّعاطي مَعهَا. فالسُّلْطة فِي إِسْرائيل، خَاصَّة تِلْك اليمينيَّة الحاليَّة، مَا فَتئَت تُخطِّط لِإحْكَام السَّيْطرة على هذَا الجهَاز كمَا أسْلفْنَا الذِّكْر أَعلَاه.

كَذلِك فِي ظِلِّ نُدرَة المراكز البحْثيَّة التَّرْبويَّة والاجْتماعيَّة فِي المجْتمع العرَبيِّ فِي إِسْرائيل، فَإِن إِسْقاطات هَذِه الظَّاهرة على مُجْتمعنَا مُرَشحَة لِأن تَكُون أَكثَر عُمْقًا وأكْثر وبالا، وَذلِك لِأنَّهَا قد تُؤدِّي إِلى تَغيِير عميق فِي المفاهيم وَحتَّى فِي السُّلوكيَّات المجْتمعيَّة دُون أن يَكُون لَديْنَا اَلقُدرة على فَهْم واسْتيعاب مَا يَحدُث.

فمثلا بِالنَّظر إِلى الأحْداث الرَّاهنة، يَبدُو لِي أَننَا لَم نَرتِق لِمسْتَوى الحدث الجلل والْمقْتلة الحاصلة فِي غَزَّة لَيْس فقط سِياسِيًّا واجْتماعيًّا وَإِنمَا أيْضًا تَربوِيا وأخْلاقيًّا. أَعتَقد بِأنَّ التَّغْييرات العميقة اَلتِي طَرأَت على هُويَّتِنَا الجمْعيَّة الوطنيَّة والدِّينيَّة، وَالتِي كَشَفتهَا حَرْب الإبادة المسْتمرَّة على غَزَّة، تَفرِض عليْنَا أن نَقِف وَقفَة جَادَّة ومتجدِّدة مع مَسْأَلة مُخرجَات جِهَاز التَّرْبية والتَّعْليم العرَبيِّ اَلتِي نَصبُو إِليْهَا.

فَمِن غَيْر المعْقول أن تَستَمِر حَالَة الانْفصام والْفَصْل القائمة بَيْن جِهَاز التَّرْبية والتَّعْليم الفلسْطينيِّ فِي إِسْرائيل وبيْن المقْتلة الحاصلة فِي غَزَّة. فالغالبيَّة اَلعُظمى لِلْمدارس تَتَعامَل مع الموْضوع وَكأَن كُلَّ شَيْء طَبيعِي وَكأَن شيْئًا لَم يَحدُث.

فَأَمام كُلِّ هَذِه المقْتلة يَطفُو إِلى السَّطْح - مِن جديد - سُؤَال " مِن نَحْن؟ " وماذَا نُريد ؟ بِكلمَات أُخرَى عليْنَا أن نُحدِّد مُجَددا مَلامِح هُويَّتِنَا الجمْعيَّة، وَفِي جَوهرِها الإجابة عن مَسْأَلة علاقتنَا بِشعْبِنَا الفلسْطينيِّ ومشْروعه الوطَنيِّ الأخْذ بِالتَّشكُّل مُجَددا.

فَفِي هذَا السِّيَاق أنَا لَا أَعتَقد بِأنَّ المجْتمع العرَبيَّ الفلسْطينيَّ أَصبَح أقلَّ وَطَنيَّة أو إِنَّه اِنسلَخ عن هُويَّته الفلسْطينيَّة ولَا أَنَّه أَصبَح أقلَّ تديُّنًا، بل إِنَّ تَمظهُر هَذِه اَلهوِية وَطرُق التَّعْبير عَنهَا قد تَغيرَت بِشَكل جَذرِي، وعليْه عليْنَا أن نَفهَم بِشَكل مُعمَّق هَذِه التَّغْييرات، وَذلِك بِصَرف النَّظر عن مَوقفِنا القيَميِّ مِنهَا، حَتَّى نَتَمكَّن مِن تَوجِيه دَفَّة هذَا المجْتمع إِلى برِّ الأمَان.

فِي ظِلِّ فَوضَى المفاهيم اَلتِي نحْياهَا عليْنَا أن نَكُون أَكثَر نَباهَة وجهوزيَّة أَمَام هَذِه التَّغْييرات فضلاً عن ضرورة تَكثِيف الأبْحاث العلْميَّة الإمْبيريَّة، وَدعْوَة مُؤسسَات المجْتمع المدَنيِّ إِلى إِجرَاء اَلمزِيد مِن الحوارات والنَّدوات الاجْتماعيَّة حَتَّى نَتَلمَّس اَلطرِيق نَحْو تَصوُّر تَربَوِي مُتَجدد نُحدِّد مِن خِلاله مَلامِح المجْتمع الفاضل اَلذِي نُريده، لِيكون دِرْع واقٍ مِن تأْثيرات هَذِه التَّغْييرات الجارفة، عَلَّه يُشكِّل لَاحقًا مرْجعًا ومنْهَلا لِكافَّة المؤسَّسات التَّرْبويَّة والْعاملين فِيهَا.

وَحتَّى لَا يَبقَى مِثْل هذَا التَّصَوُّر حبيس اَلكُتب (كمًّا أَهدَاف التَّعْليم العرَبيِّ الرَّائعة اَلتِي صاغهَا اَلمجْلِس التَّرْبويُّ العرَبيُّ قَبْل أَكثَر مِن عقْديْنِ مِن الزَّمَان) سَنكُون بِحاجة لِجمْلة مِن الأفْكار العمليَّة الجديدة اَلتِي تَبدَّد الرُّكود القائم فِي مدارسنَا وتفْعلهَا مِن جديد.

عمرو اغبارية

مُرَب، مُدرِّس ومحاضر فِي كُليَّة التَّرْبية فِي الجامعة العبْريَّة وَناشِط اِجتماعي

رأيك يهمنا