نادوني باسمي فقط، فكوني "دكتورة" أصبح مُخجلًا!
آخر ما ظننته حينما اخترتُ أن أسلُك هذا الدّرب المهنيّ - هذا الذي أكّدوا لَنا أنّه نهج حياة وليس عَمل فَحَسب- أن يأتي يوم وأشعر فيه أنّ هذه المهنة هي المُعيق والعائق في ممارسة رسالتي تجاه هذا العالم، تجاه مجتمعي، شعبي وناسي…
لكنّ هذا اليوم أتى، عاصفًا بثوابت عالمي والكثير ممّا اعتقدته مسلّمات عقائديّة غير قابلة للزعزعة أو للنقاش تحت مُسَمّى "اختلاف وجهات نظر"، على جميع الصعد، وأوّلها الإنساني- المهنيّ، وهُما في حالتي- مترابطان متلاصقان لا يفترقان، ولو شاء من شاء أن يفصلهما عن بعضها.
أن تبعُد عَنّي منظومةٌ طبيّة تنهار وتتهاوى مسافةً لا تتعدّى مائتي كيلومتر، وأجد نفسي عاجزة مُكَبّلة الأيدي عن إنقاذ أرواح الأبرياء الّتي تُزهق لنقص المُعدّات والأدوية الأساسيّة- فهذا كابوس ما بعده كابوس.
يعتريني الخجل وأنا أُعرّف عن نفسي بأنّني طبيبة، ويُنظَرُ إليّ بعين الإعجاب والتقدير، وأنا أعتَصرُ ألمًا على مَن لا أستطيع أن أكتُب لهم وصفة طبية لأبسط الأدوية التي أكتبها للعشرات يوميًا…
عن أي مضمون صحّي توعويّ سأتحدّث وشعبٌ كامل قابعٌ تحت ظروف يهرب فيها من موت محتوم ليلقى آخر؟!
أن تُوضَع انسانيّتنا المقرونة بمهنيّتنا تحت الاختبار فتفشل.
أن تكون مبادئنا تحت المُساءلة لأنّها غير مُنحازَة، أن تقرأ "قَسَم الطّبيب" وتُصاب بالصدمة لأنّ هذا الذي وضعته تحت وسادتك كي تتجرّعه جوارحك هو أيضًا باتَ ميثاقًا كاذبًا عندما دقّت ساعة الامتحان.
لا أتجرّعُ شيئًا من وسادتي منذ شهور سوى المزيد والمزيد من الدموع والغصّات، من خلف شاشة هاتفي أجهش بالبكاء الممزوج بمرارة العجز والقهر والحسرة، أنفجر باكية في نوبات هلع مفاجئة، تتجرّع الوسادة وأنا الدموع والوجع- وننام علّنا نصحو على خبر يجفف دموعي ويجففها هي الأخرى…
هذه كُلها عيّنات من أوضاع أنا لا أُحسَد عليها، لا ولا أُحسَد على لقب "دكتورة" - فهذه الحرب الّتي قلبت الموازين وبدّلت الأحوال، قد ألقت لعناتها على الكثير من النِعَم.
مَن وَصَل بالقراءة إلى هُنا قد يقول في قرارته "يا للوقاحة! ما بالها هذه "تتبكبك" وهي تكتب من خلف الشاشة على أريكة منزلها الذي لم تتأثر جدرانه ولا محتوياته ولا مَن يقطنونه…
تلك الّتي استمرّت بممارسة حياتها ضمن "العادي" ولَم يُطاولها شيء فعليًا من أضرار هذه الحَرب المَهولة!"
أنا لا أحاول أن أضع نفسي موضع الضحيّة، لا تسيؤوا فهمي..
إنّما هذه مُشاركة صادقة، شفّافة خالية من الأقنعة والتجميل ومحاولات لتبرير استمرارنا بحياتنا العاديّة - ولو كان اضطراريًا- تحت ظرف استثنائي بمفاهيم تاريخيّة، عالميّة، إنسانيّة، طبيّة، اجتماعيّة، ثقافيّة وموضوعيّة.
هذه محاولة دحض الشعور "بالامتياز" أو "حسن الحظّ" أو النظرة إلينا بهذا الشكل كوننا لا نعيش المأساة بالمفهوم الفعليّ على أجسادنا ولا تسقط الصواريخ والقذائف فوق رؤوسنا.
مَن يعتقد بأنّنا "نَفَدنا" بهذه البساطة السطحيّة فكريًا ووجوديًا- فهو موهوم!