التاء المكسورة في كلمة جوع - نص منزوع السياق

ليس من السهل الكتابة عن الأحداث وهي جارية، ولهذا لن نكتب عنها. إنّما أيضا ليس على الطبيب تقمّص دور الصحفي أو المصوّر، بل عليه الاشتباك مع المرض أو الخطر الصحيّ، ومنعه أو معالجته أو على الأقل التخفيف من عواقبه وأضراره. لكنّ الحروب كأيام استثنائية في كل شيء، تخلق وقائعَ ليس منها الطبيعي والعادي والمألوف، فهي تعلّم من جديد من يريد أن يتعلّم، وتعيد تربية من يجرؤ على ذلك. لست من محبّي التدقيق في فئة من فئات المجتمع دون أخرى، وكل فئات المجتمع تدفع الثمن في الحرب. ولا أؤمن بالفَضل المطلق للأمومة على الأبوة، ولا بوهن أجساد النساء على وهن أجساد الرجال، فكل بما عَمِل وكل بما عُمِل به. فالمجتمع عندي جسد له خلية هي الأسرة، لبنة الحماية الأولى العاطفية والجسدية والنفسية. ولهذا، سأحاول أن يكون التركيز هنا تركيزًا واعيًا ألّا خصوصية تحمي المرأة أو الحامل من تبعات الحروب ولا تشفع لها. إنّ التقاطعات في حياة المرأة والرجل مع العمر والمرض والعجز والجغرافيا والسياسة والزمان والمكان كثيرة، منها ما يكون من مسببات الصحة ومنها ما يكون من مسببات المرض. ويتقاطع جسد المرأة وتتقاطع نفسيتها وروحها مع الحرب في الموت والمرض والحزن والفقدان والتشرد والجوع. 

لنبدأ بالتبعات المباشرة للحرب على الحامل، اذ تتعرض الحامل لكل المخاطر التي يتعرض لها باقي أفراد مجتمعها من قتل وإصابات. ولكن هشاشتها الجسدية تكون أكبر، وذلك نتيجة تغيّرات حيوية متعلقة بتضخم الدورة الدمويّة وجهاز التنفس وجهاز المناعة وتغيّرات أخرى عديدة. هذه التغيرات هي جزء من حالة التكيّف الضرورية للحمل السليم. تنزف الحامل سريعًا وكثيرًا، وتنخفض قدرة الجسد على المقاومة في حالات الإصابة والجروح. الرحم المتضخمة حاملة الجنين وحاميته، تتعرّض وتعرّض المرأة والجنين لارتفاع احتمال الإصابة والنزيف والتدهور نحو الموت. مصدر الحياة، نقطة القوة، كما العادة، هي هي نقطة الضعف.

يمكن طرح سؤال حول ضرورة رعاية الحمل بالمتابعة والفحوصات، فقد استطاعت البشرية أن تستمر دون الطب الحديث، وحملت النساء وولدت منذ القديم وحتى اليوم، وهذا صحيح ولكنهن متن أيضا ومات أطفالهن. الرجاء في طب التوليد يكمن في "القيمة المضافة " التي تكسبها المرأة الحامل والأسرة كحالة خاصة، وبالتالي يكسبها المجتمع ككل نتيجة تراكم مكاسب أفراده الصحيّة. ولهذا حتى المجتمعات قليلة الإمكانيات تجتهد أن توفّر طب ولادة متقدّم. فلا شك أن الوفرة المادية والطب الحديث بعلمه وأدواته – جراحة، نقل الدم، أدوية الضغط والسكر، والمضادّات حيوية- خفّض من وفاة الأمهات والمواليد واستطاع منع مضاعفات طويلة الأمد لكليهما. هذا مثبت وممثّل بأحسن حالاته في نسب الوفيات واختلاف أسبابها في المجتمعات الغنيّة مقارنة بالفقيرة. موت امرأة أو طفلها أثناء الولادة تحوّل إلى حدث استثنائي في ظل توفر الطب الحديث. لكن، ماذا عن الحروب وماذا عن الحروب الطاحنة، تلك التي لا تشبه إلّا نفسها، فكم من حرب طاحنة يستطيع مجتمع واحد أن يمرّ؟ تمرض الحوامل ويمتن ويمرض المواليد ويموتون بعلاقة طردية مع حجم تدمير المنظومة الصحية. هذه إصابة في مقتل، مقتل إضافيّ للمجتمع المنكوب.

يّفتتح فصل التغذية في كتب طب الولادة بسرد قصص الحوامل اللواتي تعرضن للجوع في الحروب العالميّة، ويفصّل في أثر الجوع على الأمهات والمواليد، بما فيه آثار بعيدة المدى قد تطاول الأجيال القادمة، وإن توفّرت أسباب الرعاية الكافية والتعويض لاحقًا، بعد الحرب، إذا كان لها ما بعدها. وأحد التفاسير الممكنة هي تأثيرات فوق جينية epigenetic imprint   تطبع في الناجين لتنتقل الى أولادهم. فلنقترب إلى سوريا واليمن لنضرب مثالًا، ارتفعت نسب الولادات المبكرة ووفاة الأجنّة داخل الرحم، وتزايدت أعداد المواليد بأوزان منخفضة في سنوات الحرب في كلا البلدين. وتعجّ كل المقالات العلمية وغير العلمية بأهمية الاستهلاك الصحيح لمركبات الغذاء والإضافات الغذائية بأنواعها للحفاظ على صحة الحامل والجنين. فماذا عن الجوع المتواصل المستمر؟ أيكون الجوع أشدّ من القتل؟ قد يكون أشدّ وأنكى. فيترجم الجوع بالنقص في السعرات الحرارية ومن ثم في نقص المركبات الغذائية الأساسية ومن ثم المكمّلات، فلا تكسب المرأة وزنًا ولا يكسب جنينها، وبعض هذا قد يضر بتخلّق الجنين الجسدي والذهنيّ. كما وأنّ شحّ المرافق الصحيّة وانعدامها يمنع إجراء فحوصات واكتشاف الحالات المرضية للمرأة والجنين، وليس المقصود الحالات التي تحتاج إلى أجهزة طبيّة متطورة، فهذا قد يعدّ طمعًا في ظروف الحرب. وإنما المقصود تشخيص أمراض من بديهيّات طب الولادة، أمراض يمكن منعها أو معالجتها مثل سكري الحمل أو تسمّم الحمل (مرض ضغط دم عال). وتتضافر كلّ العوامل السابق فترفع نسب الوفيات والتعقيدات بعيدة الأثر. يمرض المجتمع لجوع الأم مرضًا قد يمتد أعوامًا طويلةً. وإذا شُفي جسد المرأة فكيف تشفى روحها؟ وكيف تشفى أرواح من بعدها؟

في أيام الوفرة والرخاء النسبية، نمازح الحامل ناصحين ألا تأكل من أجل اثنين، ولكن بماذا ننصحها في أيام العوز والجوع، ومن يقدّم النصيحة والكل حائر لا يجد جوابًا. مقام الأم في كل المعادلات الصحية عالٍ ومهم، هذا ما نعرف ونريد له أن يكون. ولكن كيف يمكن فرز الحوامل عند اشتداد الحروب لحمايتهن؟ فالحروب السابقة علّمتنا ما يكفي لنعرف النتائج ونترقبها. وبماذا نفعت المعرفة؟ فكتابة المقالات وتوثيق الإحصائيات السابقة أو اللاحقة لا تنفع امرأة ولا تحميها، إذا لم يصدر قرار، ولم يصدر قرار.

 هل تختلف معاني الموت؟ وان اختلفت فما معنى موت المرأة الحامل؟ هل لها نصيب من قدسية ليس من نصيب الآخرين؟ وهل  لكل الحوامل نصيب من القدسية؟ ومن يجيب؟ موزّع الموت أم ذائقه؟ فما هو سر هذا الخجل أو من الأدقّ القول ما هو سرّ هذا العار الذي يعلو صوته ويعلو ويعلو فلا نسمع غيره؟

د. نيڤين سمارة

طبيبة نساء وأخصائية في مشاكل الإنجاب والإخصاب الخارجي. تحضر حاليا للقب ثاني في مجال الاخلاقيات الطبية

شاركونا رأيكن.م