مَنْع المُحامين مِن زِيارة الأسيرات والأسرى الفلسطينيين: انتِهاك صارِخ لِحُقوق مَحمِيَّة

يَشهد العالم، وكذلك المنطقة العربية، العديد من الأزمات السياسية والأمنية. في ظلّ النزاعات والحروب المستمرة، يَبرز دور حقوق الإنسان وضماناتها كمحور أساسيّ في الحفاظ على كرامة الفرد، لكِن تَحدُث في بعض الأحيان، تطوّرات تثير قلقًا كبيرًا. تَصِلنا -مِن خلال عملنا في صندوق المدافعين عن حقوق الإنسان- العديد من القضايا التي تعالج انتهاكات حقوق المدافعين والمدافعات عن حقوق الإنسان. يتمّ عَمَلنا في الصندوق من خلال التوجّه للخط الساخن الفعّال 24 ساعة، ومن ثمّ تحويل الملف لمحامٍ أو مُحامية من طاقم المحامين العاملين معنا، ويتمّ التّنسيب بحسب موضوع المَلفّ والمكان الجغرافي.
مَن هُنّ وَهُم مُدافعو حُقوق الإنسان؟ يُعرَّف المُدافِع عن حقوق الإنسان بموجب إعلان الأمم المتّحدة بشأن المدافعين عن حقوق الإنسان (1998)[1] بأنه أيّ إنسان يعمل، بشكل فرديّ أو بالاشتراك مع آخرين، على تعزيز وحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية، ويشمل ذلك الحُقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
الحماية بموجب القانون الدولي - يضمن إعلان الأمم المتحدة حقّ المُدافعين في تَلقّي المَعلومات ومشارَكَتها، والمشارَكة في الأنشطة السلميّة، والسّعي إلى تحقيق العَدالة للمتضرّرين مِن الانتهاكات.
خِلال الصِراع الأخير في غزة، وَرَدَتنا في صندوق المدافعين عن حقوق الإنسان تقارير متعدّدة حول استهداف واعتقال بعض المحامين في ظروف مختلفة. أوّلها الاعتقالات بسبب التّعبير عن التّضامن أو الاحتجاج، وأوّلهم المحامي أحمد خليفة الذييَعمل أيضًا مَع طاقم المُحامين بالتنسيق مع الصندوق، وتتم مرافقة ملفّه مِن خلال المحامية أفنان خليفة. أحمد خليفة هو محامي حقوق الإنسان وعضو مجلس مدينة أم الفحم، اعتُقل بسبب ترديده هتافات تضامنيّة مع غزة. قضى ثلاثة أَشهر في السجن وستة أشهر أخرى في ظروف مقيّدة. كان اعتقاله جزءًا من حملة قمع أوسع نطاقًا ضد المواطنين الفلسطينيين الذين عبّروا عن معارضتهم الحربَ.
كان المحامي أحمد خليفة واحدًا مِن عدد لا بأس به من المحامين الذين استُهدفوا في الحرب الأخيرة. وقد تُسلِّط هذه الحوادث الضوء على البيئة المعقَّدة والخطيرة في كثير من الأحيان التي يعمل فيها المهنيّون القانونيون أثناء أوقات الصراع، إذ يواجهون تحدّيات تتعلق بحرّية التّعبير واتهامات بدعم مجموعات معيَّنة.
لكن أريد اليوم تسليط الضوء على واحدة من القضايا المثيرة للجدل التي تخصّ أيضًا بشكل مباشر حُقوق محامي ومحاميات الدفاع، وبشكل غير مباشر حقوقَ الأسرى والأسيرات. بدأت ظاهرة منع المحامين الفلسطينيين من الدخول إلى السجون وزيارة الأسرى في العام 2023، وتَفاقم المَنع في العام 2024 وحتى يومنا هذا. جاءَت هذه الظاهرة كجزء من تداعيات النّزاع الدائر، وفي إطار توتّرات سياسية وأمنية متزايدة شهدتها المنطقة، مما أثار سلسلة من الأسئلة حول أثر ذلك على حقوق الأسرى وإمكانيّة حُصولهم على العدالة. يُعتبر هذا القرار علامة على تَصاعد التوتر بين "حكومة بن غفير" من جهة والمجتمع المدني الفلسطيني بشكل عام والحقوقي بشكل خاص من جهة أخرى، حيث يُشير إلى قَلَق متزايد تجاه دعم المحامين ومنظمات حقوق الإنسان للأسرى.
الخلفيّة والأبعاد القانونية والأخلاقية
في العام 2023، دَخَلت البلاد مرحلةً جديدة من الصراع في الحرب على غزة حيث استؤنف الأَسْر الجماعيّ في ظلّ الاحتجاجات، مما أدى لزيادة في عدد الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، بما يشمل السجون العسكريّة. ومع تصاعد الأحداث، اتّخذت سلطات السجون قرارًا بمنع عدد لا بأس به من المحامين من زيارة المعتَقَلين والأسرى الفلسطينيين بدون أيّ مبرّر يستدعي المنع فعليًا، وبدون منح الممنوعين الحقّ في عقد جلسة استماع، وهي حقّ أساسي يتيح للمحامي الذي مُنِع من الزيارة إمكانية تغيير القرار من خلال طَرح ادعاءاته، وهذا ما فاقم الجدل المثُار في الأوساط الحقوقية. كما نَعلم أنّه من الناحية القانونيّة، يُعتبر الحقّ في الحصول على محامٍ حقًّا أساسيًّا تضمَنُه القوانين الجنائية بموجب المادة 34 من قانون الإجراءات الجنائية 1996، والقوانين الدولية، بما في ذلك المعاهدات الدولية الخاصة بالحقوق المدنيّة والسياسية.
تُلزم المعاهَدة الدولية الخاصة بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966، قانونيًا، الدول المتعهِّدة مثل إسرائيل، بحمايةَ الحقوق المدنية والسياسية لكلّ فرد، دون تمييز على أساس العرق أو الجنس أو اللغة أو الدين. وتَضمن الاتفاقية الحقّ في الحياة والحريّة والأمن والخصوصية والحماية من التعذيب وغيره من المعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة. وتضمن المعاهدة الحرّية من العبودية، والحق في محاكمة عادلة؛ بمعنى أنها توفّر الحماية ضد الاعتقال أو الاحتجاز التعسفي؛ الاعتراف بحرية الفكر والضمير والدين وحرية الرأي وحرية تكوين الجمعيات؛ وضمان حقّ في التجمّع السلمي والحقّ في الهجرة. وقّعت إسرائيل على الاتفاقية في العام 1966 وصدّقت عليها في العام 1991، ما يعني أن الدولة المتعهّدة مُلزَمة ببنود الاتفاقية. يُعدّ مَنْع المحامين من زيارة الأسرى انتهاكًا صارخًا للحقوق الأساسية التي تكفَلها القوانين المحلية والدولية. يُعتبر الحقّ في الدفاع عن النفس جزءًا من حقوق الإنسان الأساسية، ويجب أن تُتاح لكل فرد فرصة الحصول على مساعدة قانونية. كما يمنع هذا الحقّ حرمان العائلات من معرفة أوضاع أفراد عائلاتهم وبناتهم وأبنائهم في السجون الإسرائيلية تحت ذريعة الأمن والمَصلحة العامة، مما يعكس انتهاكًا للحقوق الأساسية. وفقًا للمعاهدة الدوليّة الخاصة بالحقوق المدنية والسياسية، يُعتبر هذا الحق أساسيًا في إطار تحقيق العدالة، حيث يضمن للمعتقلين حقّهم في الدفاع عن أنفسهم وتلقّي الدعم القانوني.
في أوائل شهر تشرين الثاني 2023، أرسلت إلى رئيس المحكمة العسكرية، رسالة شكوى تنص على أن شروط دخول محامي الدفاع للسجون أصبحت أكثر صرامة، وتلتها رسائل وشكاوى عديدة انتهى بعضها في المحاكم الإدارية. وفي حينها ردّ وزير الأمن القومي (السابق) بن غفير حيث نَشَر في العديد من وسائل الإعلام الإسرائيلي بأنه "في الأسابيع الأخيرة، ألقت الشرطة القبض على عدد لا بأس به من المحامين العرب بتهمة دعم الإرهاب". كما شهدت السنة الأخيرة تحولًا جذريًا في واقع السجناء الأمنيين في إسرائيل، وذلك تنفيذًا لسياسة مفوّض مصلحة السجون المقدم "كوبي يعقوبي" لمنع المحامين والمحاميات من الزيارات. وبهذا أصبحت رسالة سَلام من الأم القلقة، وخَوف أهالي المعتقلين والمعتقلات بمثابة دعم للإرهاب!
توجَد أحيانًا أسباب قانونية متعددة لمَنع المحامين من دخول السجون وزيارة الأسرى، رغم أن العديد منها يمكن أن يُعتبر انتهاكًا للحقوق الأساسية. من بين الأسباب الشائعة التي تذرّعت بها سلطات السجون الأسباب الأمنية، وحماية المعلومات الحسّاسة، والتقليل من التأثير الخارجي على الأسرى، وزيادة السيطرة على المعتقلين والحفاظ على النّظام داخل السجن. على الرغم من هذه الأسباب، يُعتبر المنع غالبًا انتهاكًا لحقوق المعتقلين الأساسية، ويجب أن تكون أيّ قيود على حقّ الزيارة قانونية مبرَّرة ومتناسِبة مع الحاجة الأمنية، مع ضرورة وجود رقابة قانونية لضمان عدم تجاوز هذه القيود.
تداعيات قرار المَنع
لا يُمكِن إنكار أن هذا القرار له تداعيات متعددة تؤثر على الأسرى ومحاميهم والمجتمع بشكل عام، ويجب التنويه بأن عددًا صغيرًا من المحامين أو المحاميات باشَر في تقديم اعتراضات على هذه القرارات التعسّفية من خلال إجراءات في مصلحة السجون أو المحاكم الإدارية أو محكمة العدل العليا، وذلك لأسباب شخصيّة وأخرى مهنية، وبرأيي، خوف المحامين من التنكيل بهم وإيذائهم بالإساءة لسمعتهم. يجب التنويه إلى أن غالبية هذه القضايا انتهت بالتوصل لحلول وسط، وإلغاء المنع، وبالتالي المباشرة بالزيارات بعد الوصول لاتفاق مع النيابة وهذا بحدّ ذاته يقطع الطريق أمام مراكمة عدد من القضايا التي قد تشكّل منبرًا لتقديم التماس إلى المحكمة العليا وتسليط الضوء على هذه الانتهاكات.
لكن في ما يتعلق بالأسرى، فقد أدّى هذا القرار ويؤدّي إلى آثار سلبيّة متعددة، منها:
تَفاقم الأوضاع الصحية والنفسية: يمتلك الأسرى حقوقًا تضمن لهم تلقّي الدعم النفسي والقانوني. منع زيارة المحامين تحرِم الأسرى من الحصول على الرعاية القانونية والنفسية. لا يؤدي حِرمان الأسرى من زيارة المحامين فقط إلى انعدام الشفافية في ما يتعلق بأوضاعهم، بل يُؤدي أيضًا إلى تفاقم الأمور النفسية والسياسية داخل السجون.
فقدان الثقة بالعدالة: عدم قدرة الأسرى على التواصل مع محاميهم قد يسبب فقدان الثّقة في النظام القضائي، مما يزيد من الشعور بالظلم والإجحاف في المجتمع. ويؤدي منع الزيارات إلى خلق حالة من الضبابيّة بشأن أوضاع الأسرى، مما يسبب قلقًا لعائلاتهم والمجتمع.
انتشار الفَساد والممارسات غير العادلة: يُعزز المَنع انتشارَ الفساد داخِل السُجون، في ظل غياب الرقابة الخارجية التي يمكن أن تكون رادعًا لأيّ ممارسات غير قانونية. يعزّز ذلك من مشاعر الاحتقان بين المجتمع المدني والسّلطات، مما يؤثر سلبًا على الاستقرار الاجتماعي.
ينبغي التنويه إلى أن السماح للمحامين بزيارة الأسرى والحفاظ على حقوق الإنسان قد يسهم في تعزيز الاستقرار الاجتماعي. إن عدم الاعتراف بحقوق الأُسرة الأساسيّة قد يؤدي إلى تفشي مشاعِر العِداء والاحتقان بين السلطات والمجتمع. لذلك، يُنظر إلى مَنح المحامين الحقّ في زيارة موكّليهم كخطوة إيجابية تعكس التزام الدولة بحقوق الإنسان.
وللحدّ من آثار هذه الظاهرة، يجب اتخاذ خطوات عدّة، منها إعادة النّظر في السياسات الحكومية، واعتراض المُتضررين العَلَني على منع زيارات المحامين، كما تحتاج سلطات السجون إلى مراجعة القوانين التي تحدّ من حقوق المحامين والأسرى، والعمل على تحسين الأوضاع داخل السجون. وتشجيع المنظمات الحقوقيّة على مراقبة الأوضاع داخل السجون، لضمان سلامة النظام القضائي وحقوق الإنسان. وكذلك زيادة الوعي المجتمعي بالحقوق الأساسيّة، لأنه من الضروري نشر الوعي حول حقوق الأسرى وأهمية الحصول على الدعم القانوني، لتقليل تأثير الظلم والاحتقان الاجتماعي.
منذ اندلاع الحرب على غزة وحتى يومنا هذا، وفي ظلّ تفاقم الأوضاع في الضفة الغربية في المدن والقرى والمخيمات، تُسجَّل هذه الظاهرة كمؤشر على تدهور حقوق الإنسان في ظلّ الأزمات، مما يدعو المجتمع الدولي إلى التحرّك لضمان حقوق الأسرى والمحامين، ومنع تفشي هذه الظواهر التي تُقيد الحرّيات وتعيق العدالة. يتوجب على المنظمات الحقوقية متابعة هذه القضية والعمل على تعزيز مبدأ الشفافية وتقديم الدّعم للأسرى وعائلاتهم.
أثارت هذه الظاهرة ردود فعل قويّة من منظمات حقوق الإنسان، حيث أدانت العديد من الهيئات المحلية والدولية هذا القرار، مُطالبةً باحترام حقوق الأسرى ورؤية تحسينات جذرية في الطريقة التي تُعالج بها قضاياهم. عمومًا، تسود حالة من الغضب والقَلَق في صفوف عائلات الأسرى نتيجة عجزهم عن معرفة تفاصيل حالة أحبائهم.
إن مَنع المحامين من زيارة الأسرى يمسّ بشكل كبير بقدرتهم على ممارسة عملهم ويقوّض من قيم العدالة وحقوق الإنسان التي تكفلها كلّ المواثيق الدولية. يحتاج العالم اليوم إلى وضع سياسات تصون كرامة الأفراد وتضمن حقوقهم الأساسية، خاصة في أوقات الأزمات. على المجتمع الدولي بأسره أن يكافح ضد هذه الممارسات لضمان العيش بحريّة وكرامة. على الجميع العمل من أجل تحقيق العدالة والأمن لكلّ الأفراد، ومنع مثل هذه الانتهاكات التي تقوّض أسس المجتمعات المتحضّرة وركائزها.
[1] الأساس القانوني: إعلان الأمم المتحدة بشأن المدافعين عن حقوق الإنسان (1998)، معترف به من قبل هيئات مثل المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بحالة المدافعين عن حقوق الإنسان والمحاكم الإقليمية لحقوق الإنسان.

المحامية روضة سليمان مرقس
ناشطة ومحامية مختصّة في مجال حقوق إنسان ومركزة الشؤون القانونية في صندوق المدافعين عن حقوق الإنسان - Human Rights Defenders Fund.