غَزّةُ للحَياة: زُهورٌ تُطِلّ مِن شُقوق الرَّدْم.. و"تُبَرْعِمُ" نِساء

لَفَتَت نظري قبل أيام صورة نُشِرت على أحد المواقع، التقطها مواطن غزّي، تُظهر تفتُّح براعم وأزهار فوق أكوام رَدْم البيوت التي فجّرتها قنابل الجيش الإسرائيلي وصواريخه في قطاع غزة؛ صورةٌ تحمل في طيّاتها الكثير من المعاني، وربما نَبَتت هذه الزهور على دماء الشهداء من الأطفال والنساء، ضحايا هذه الحرب الشّرسة التي لم تُبقِ أخضرَ ولا يابسًا في غزة وجباليا وباقي مدن القطاع. دفعتني هذه البَراعم المُزهْرة للكتابة عن الأمل الذي بثّته نساء وصبايا قطاع غزة، ذلك الأمل الذي خرج وما زال يخرج من بين الرَدْم والدّمار. حَمَلت هؤلاء النساء، بَناتُ شَعبي، وما زلن يَحمِلن كلّ المآسي ووَجَع الفقدان، فَقَدن أولادهن وشركاءهن وإخوتهن، دُمّرت بيوتهن، وفُقد أقاربهن، وعِشن الرّعب والجوع في الخيام وفي أَصعب ظروف، ومع ذلك لم يتوقّفن عن النّضال مِن أَجل الحياة. نُشاهدهن في نشرات الأخبار وعلى المنصّات الاجتماعية، عائدات إلى ما كان يومًا بيتهن، إلى أحبّتهن وجيرانهن، مصمّمات على العَودة رغم أنّهن لا يعرفن ما الذي ينتظرهنّ. يَسِرن على الأَقدام حاملاتٍ أطفالهن وحقائب النزوح وما خفّ حَمْله، فنستغرب من أين تأتيهن هذه العزيمة والإصرار؟ كيف يَجِدن القوّة على الاستمرار والسّعي لاستعادة الحياة “العاديّة” رغم كلّ هذا الدمار؟

لم يَكْتَف جنود الاحتلال الإسرائيلي بالقتل والدّمار، وإنما اهتمّوا بأن يُبرِزوا "أخلاقيّات وآداب" هذا الجيش فانتشرت، أيضًا، على المنصات فيديوهات لجنود نفّذوا أوامر القتل والهدم والتدمير، وتفاخَروا بها، إلى جانب جنود يحتلون بيوتاً نزح أصحابها وحوّلوها  إلى ثكنات عسكرية، قلبوها رأسًا على عَقِب، وفوق هذا كلّه، وما زاد من قَرَفنا واشمئزازنا، هو ما نشره وينشره هؤلاء الجنود من مشاهد تُظهر اعتداءاتهم على حُرمة البيوت وتحويلهم هذا الاعتداء إلى عرض “كوميدي” ساخر، عبر ارتداء ملابس النساء الداخليّة والاستهزاء بهن، ونشر هذه الأفعال المشينة ببجاحة على المنصّات الاجتماعية!

لَم تَغِب عن أذهاننا صُور النساء ضحايا هذه الحرب. وأكثر الصُوَر رسوخًا في ذاكرتي، بعد أكثر من 500 يوم من الحرب، هي صور الأطفال والنساء القتلى، وممرات المستشفيات التي صمدت رغم استهدافها، وقد صُبغت هذه الممرات بدماء الشهداء، فيما يملأ صوت عويل الفاقدين أرجاءها. أما الأطفال الناجون، فيتجوّلون بين الجُثث والجرحى وكأن هذه المَشاهد أصبحت جزءًا من روتين حياتهم اليومي، مَشاهد سترافقهم طوال حياتهم، ولا يمكن حمايتهم من آثارها النّفسية العميقة. فكيف ستتصرف الأمهات مع هذه الصّدمات التي تلقّينها هُنّ وأولادهن؟ كيف يمكن مواساة الوالدة التي تودّع طفليها المريضين المسافرين للعلاج بمصر فيما تُمنع من مرافقتهما، دُموعها ووجعها ووجع كلّ نساء غزة الذي لم يأخذ حيّزاً إعلامياً في القنوات الاسرائيلية التي تماشت مع توجيهات الحكومة وقيادتها بتجريد كلّ فلسطيني من صفة الإنسانية وتشريع القتل والتهليل له!

انتَشَر منذ الإعلان عن اتفاقية وقف إطلاق النار، وبدء عودة النازحين إلى الشمال وإلى ما تبقى من بيوت، العديد من الفيديوهات التي توثّق لحظات رجوع العائلات إلى أحيائها. عاد بعضهم لِيَجد بيته قائمًا لكنّه أُصيب بالشظايا، وبعضهم وَجَد بقايا جدران قد تتيح لأسرته الاحتماء بإحدى الغرف المتبقّية، بينما لم يجد آخرون سوى أكوام من الركام حيث كانت منازلهم يومًا. أشاهد هذه الفيديوهات بلهفة وتأثَّر كبيرين كأنني أبحث عن الأمل والقوّة من شَعب منكوب من خلال هذه اللقطات التي تُبثّ! امرأة تواسي زوجها الذي وقف متحيراً أمام بيتهم المهدّم ولم يتبقّ منه غير الحيطان وتقول له: "الحمد لله، بقيت الحيطان"! امرأة أخرى تَنشر فيديو لمراحل "تنظيف بيتها" أو ما تبقى منه/ وتكتب: "بِخَرابْها، بْكُلْشي إحنا راضيين وصابرين ومَبسوطين، حتّى لَو بْغرفة مهدومة ومكسّرة..."، لكن هذه القوّة والآمال والتفاؤل لا يُمكن أن يعوّض ويغطّى على حجم المأساة والحرب البشعة التي لم يعهدها التاريخ، الاحتلال الذي جَعَل حتى الأجنّة ببطون الأمهات الغزيات، هدَفًا يجب القضاء عليه!

لم تكن هذه الحرب مجرّد عدوان عسكري، بل كانت عدوانًا على الحياة، والكرامة، والأمل. عندما نتذكر الاستهدافات في بداية الحرب التي بدأت بتفجير الجامعات والمستشفيات والبنية التحتيّة والمباني الكبيرة وقتل أكثر من 17 ألف طفل، نَفهم أنهم لم يقصدوا هذا الهَدم فقط، بل كان استهدافاً للروح والصُمود المتجذّر والإرادة في نفوس الفلسطينيين والحُلًم الذي لم ينجحوا في إطفائه.

ومع ذلك، ورغم كلّ هذا الدمار، وكما تَنبُت الأزهار من بين الركام ينهض الفلسطينيون من تحت الرّماد، يحملون جِراحهم وذكرياتهم، ويعيدون بناء حياتهم رغم كلّ شيء. هُم بحاجة ماسّة لدعمنا نَحنُ هُنا ولدعم كلّ شعبنا في كلّ أماكن تواجده ودعم الدول الصّديقة في العالم والتي لا تتماشى مع أحلام ترامب ونتنياهو وأصحابهم الرأسماليين بـ"تطهير غزة" أو شرائها وتحويلها إلى "ريفييرا" للأغنياء، أو ربما لتحقيق أطماع سموتريتش وبن غفير وأشكالهم بتحقيق الحلم الصهيوني الاستيطاني والاستيلاء على باقي أراضي الشعب الفلسطيني.

ستظل غزة تنبت الزهور، وتظل نساؤها وصباياها رمزًا للصمود، مصمّمات على انتزاع الحياة من بين الأنقاض.


اللوحة المرفقة لروان العناني، بعنوان "نساء غزة".

نسرين مرقس

السكرتيرة العامة لحركة النساء الديموقراطيات في إسرائيل. حاصلة على لقب ماجستير في التربية، محاضرة وموجهة مجموعات، ومطوّرة لبرامج تربوية لا-منهجية وتعمل في كلية التربية "أورانيم" وعضوة المجلس التربوي العربي

روضة مرقس مخول
مقال محرك للمشاعر، ويحث على العمل وعدم اختيار التضامن من وراء الشاشات طريقاً للتعبير عن معارضتنا كنساء للحرب والقتل والتجويع وللاحتلال. وكما كتبت نسرين، "ستظل غزة تنبت الزهور، وتظل نساؤها وصباياها رمزًا للصمود، مصمّمات على انتزاع الحياة من بين الأنقاض".
السبت 1 آذار 2025
وسام شقور
ابكاني مقال رفيقتي العزيزه باحساسك سردت بقلمك كل معانا شعبنا بصموده ومان دور المرأه رغم المعانات وفقدن كل شئ كل شئ من احبه جردو من الامومه عائلات باكملها محيت عن بكرة ابيها ومن سجل العائلات لا يمكن وصف القهر والمأسي التي عاشوها والتي سيحيوها بدون احبتهم وفلذات اكبادهم بدون منازلهم وجيرانهم دون حياتهم اليوميه التي نعيشها نحن في ظل القهر الدموع التي تسيل عندما نرى حجم الدمار والموتى الملقين في الشوارع وتحت الانقاذ ولا يسعنى ان نفعل شئ حتى برغيف من الخبز لا يمكننا ايصاله ليسدو جوعهم به آخ يازمن نقارب على الثمانين سنه وشعبنا ما زال يعيش النزوح الموت والدمار كله من اجل طمع يظنون انهم رؤساء يستطيعون ان يمحو شعب وسرقة حياتهم وارضهم تحياتي رفيقتي يوجد الكتير والكثير للكتابه كي لا ننسى ولا ينسو
السبت 1 آذار 2025
وفاء ابو النيل
مقال تقشعر له الأبدان من ظلم وتنكيل النساء والاطفال ونحن بلا حول ولا قوه الا ان نتضرع لرب الكون وان نصلي لأجل اطفالنا ونسائنا ان يعيشوا ما تبقى لهم بأمان واستقرار
السبت 1 آذار 2025
ايه
مقال رائع وكل الاحترام للحركة النسوية لمحاولة كل ما بها لتسليط الضوء عنساء وسكان غزة ،، نساء غزة يستحقن الحياة اكثر مننا يستحقن كل شيئ بالعالم ولكن تخاذل العالم عنهن كان جداً صعب ارجو من الله ان يرحم جميع سكان غزة بهذا الشهر الفضيل يا رب وتنعم عليهم بلطفك ،، مهما احببنا خيرك الجميل من الشتاء الا اننا ندعيك يومياً ان لا تمطر كي لا يبرد الاطفال بغزة يا رب يا رب
السبت 1 آذار 2025
د مريم مرعي
رغم معرفتنا ومتابعتنا والمنا واستنفار هممنا لكل ما يجري من جرائم بحق شعبنا في غزة والصفة إلا ان كلماتك الرقيقة عن الأزهار التي استطاعت شق طريقها من بين الدمار وما تحتويه من معاني رمزية و مشاعر مرهفة وتصميم على البقاء والعطاء هو فعلا ما نراه اليوم بالطاقات المتدفقة بين اهلنا بالداخل رغم اعتصار قلوبهم بالألم الفاجع الذي الم باهلنا إلا انهم يندفعون بعزم وقوة للإسهام في مساندتهم لاستعادة معاني الـحياة والامل
السبت 1 آذار 2025
د. فاتنة خازن
مشكورة على هذا المقال المؤثر الذي يصف بصدق معاناة المرأة في غزة صمودها وكفاحها من اجل الحفاظ على بيتها اسرتها وأطفالها وبنفس الوقت يصف دورها المادي والمعنوي في دعمها لشريك حياتها وشعبها المكلوم ربما مستقبلاً تستطيعين ارفاق المقال بشهادات حية من بعض النساء من غزة اللاتي صمدن هذه الظروف المعيشية البشرية الصعبه المستحيلة وكيفية تدبيرهن وتعاملهن اليومية مع اولادهن ومعاناتهن النفسية لكن بالطبع هذا منوط بتيسر الوضع الأمني وامكانية التواصل معهن وواضح انه ليس بالامكان القيام بذلك الآن لكن بوسعي القول ان المرأة الفلسطينية حتى الآن وعلى مدى عصور منذ النكبة أثبتت للجميع انها ليست فقط عامود البيت والاسرة لكنها ايضاً الكائن الحضاري الجبار الحامل بشجاعة هموم شعبه والمواسي لجراحه والمحافظ على حضارته والدافع بمجتمعه نحو السلام والأمان والأمل بغد أفضل. وكل عام والمرأة الفلسطينية ونساء العالم أينما تواجدن بخير
السبت 1 آذار 2025
منال فاتنه ابو خيط
مقال اكثر من رائع يجسد حياة المراة الغزاويه المؤمنه القويه الصامده الصابره ويبعث الأمل للجميع أن النصر لقريب
السبت 1 آذار 2025
نسرين مرقس
شكراً على تعليقاتكن ، قرأتها كلها وتأثرت منها
الأحد 2 آذار 2025
رأيك يهمنا