مَن يُضَمِّدُ الجِراح النَّفسِيّة بَعد العُدوان؟

 يُخلِّف كلّ عدوان تشنّه دولة الاحتلال الإسرائيلي على غزة، آثارًا نفسيّة، قريبةَ المدى وبَعيدَته، على كلّ الفئات العمريّة، لكنّه شديد التّأثير والضرر على الأطفال، على نحو خاص.

لن يكون سهلًا على أطفال غزة، الذين شاهدوا كلّ هذا الكم الهائل من الرعب والدمار وعايشوه، أن يَنسوا تلك التجربة القاسية، التي سترافِق الناجين منهم من الموت، طيلة حياتهم، حتى وإن حاول اختصاصيون "معالجتهم"، ناهيك عمّن فَقَدوا كلّ أُسَرِهم أو مُعظَمَها.

في كلّ قوانين العالم، وفي المواثيق الدولية، هناك نصوص واضحة تتناول حماية الطفولة والأطفال، خصوصًا في أوقات الحروب والصّراعات. وفي العدوان الإسرائيلي الاحتلالي على غزة، سقط عشرات آلاف الأطفال والنساء والمدنيين، بين شهيدٍ وجريح، وهو ما يتعارض مع القانون الدولي الإنساني والمواثيق الدولية الأخرى.

لا تُراعي دولة الاحتلال الإسرائيلي تلك القوانين والمواثيق، وتنتهكها بشكل واضحٍ ومُبَرمَج، مدعومة من زعيمة الإمبريالية العالمية (الولايات المتحدة)، ودول الغَرب الرأسمالي عمومًا، وتُفلت من المسؤولية والعقاب بفضل ذلك الدعم اللامحدود.

لم يكن بمقدور بعض الأطفال الذهاب إلى الحمام، رغم حاجتهم إليه، خوفًا من أن يعودوا فلا يجدوا بعضًا من أفراد عائلاتهم، أو ربما هم أنفسهم لا يَعودون، حيث حَدَث أكثر من مرّة أن قُصفت عمارات سكنية بصواريخ الحقد الاحتلالي، فقتلَت أطفالًا وهم على بُعد خطوات من والديهم، أو اغتالت أحد أفراد الأُسرة، على مرأى ممن بقي منهم حيَاً بالصدفة.

سيكون صعبًا وضعُ الأطفال الذين فَقَدوا كلّ أفراد عائلاتهم أو مُعظمهم، مَن فقدوا أصدقاءَهم، مَن سمعوا أصوات الانفجارات، ومَن شاهدوا وسمعوا انهيار عمارات سكنيّة على ساكنيها، مَن أُصيبوا بجراح، مَن دُمَرت بيوتهم، مَن سَمِعوا أزيز الصاروخ يَقترب مِنهم، فَفَتَك بمنازلهم، أو مَنازل جيرتهم، أو حتى أولئك الذين شاهدوا كلّ هذا أو بعضه على شاشات التلفزة، مِن أطفال فلسطين والعالم خارج غزة.

جاء في الأنباء الواردة من غزة، أن كثيرًا مِن الأطفال كانوا يضعون الوسائد على آذانهم، حتى لا يَسمعوا صوت الانفجارت والصواريخ وانهيار الأبراج السَكنيّة، وهدير الطائرات، وكان بعضهم يَلتصق بالأم أو الأب ولا يريد مفارقتهما لحظة واحدة.

طيلة أيام العدوان، الذي ما زال مستمرًا، كان كمٌّ هائلٌ مِن الرعب، وحياة بلا ماء ولا كهرباء، بلا خروج مِن الخيام بعد أن تم تدمير المنازل، ومع كثير مِن الدمار والصواريخ والقصف المدفعي، من الجوّ والبرّ والبحر، وهذه تجربة ليس بمقدور الكبار نسيانها، ناهيك عن الصغار.

سيكون وَضْع الأطفال الناجين من تحت الرُكام، هو الأَصعب!

كيف لِطِفل عاش كلّ تلك الأهوال، أن ينساها؟

ليس الأطفال في غزة فقط هم مَن يحتاجون إلى الدّعم النفسي بعد العدوان، فكلّ الفئات العمرية مِن كلا الجنسين، شاهدوا لحظات رُعب قاسية وعاشوها، وبعضهم فَقدوا أعزاء على قلوبهم، أو فَقدوا منازلهم، أو كلا الأمرين.

أطفال الضفة أيضًا ليسوا بمنجاة من تلك الآثار النفسية المدمّرة، فهم رأوا أو سَمعوا، عن بطش الاحتلال وعنفه في القدس، وجنين وطولكرم والخليل ورام الله وباقي مدن فلسطين، وفي غزة بالطبع، وشاهدوا عيانًا أو على شاشات التلفاز، كيف يجثُم جنود الاحتلال على رِقاب الشبان والصَبايا في مدن الضفة وقراها ومخيماتها، ويجرّونهم في الشارع، ويوجّهون لهم اللّكمات، كما شاهدوا عُنف المستوطنين وتنكيلهم بالقُرى المجاورة لمستوطناتهم، وعن عنف جنود الإحتلال على الحواجز، الذين يُطلقون النار على عابريها، بقصد القتل، بسبب أو بدونه.

الاحتلال مسؤول عن كلّ هذا الخراب والدمار، فهو الذي يحاصر غزة ويدمّرها، وينكّل بالضفة ويُطلق "مستوطنيه" لينكلوا بالمواطنين، يُصادر الأرض ويَهدم البيوت، ويَنصب الحواجز العسكريّة، ويُغلق مداخل القرى والمدن، ليحوّلها إلى سجونٍ كبيرة، وما لَم يَنته هذا الاحتلال، فلَن تشهد المنطقة هدوءًا ولا سلامًا.

الأعراض والأمراض النفسية، من الآثار القبيحة والمدمرة للعدوان الاحتلالي في غزة والضفة، بكبارها وصغارها، وهي أضرار بعيدة المدى، وغير منظورة، ولا يتم "حِسابها" من جُملة الخسائر التي خلّفها العدوان، فالكلّ مُنشغل بإحصاء الخسائر البشرية والمادية المنظورة.

أما الأضرار النفسية المستمرة التي خلفها العدوان على أطفال فلسطين وأهلها فَمَن يعالجها، أو يعوضهم عنها؟!


الصورة: للصحفّي - المصوّر هاني الشاعر.

عدنان داغر

صحفي وكاتب فلسطيني مستقل. مقيم في رام الله

رأيك يهمنا