أَنْ تَقرَأَ "الطَّنطوريّة" في غَزة المَنكوبَة: كَأَنّني "رُقَيَّة"!

مِن المُؤلم والغَريب كيف لرواية كـ "الطَّنطورية"[1] أن تُشعرك بالألم والعَجز في كلّ مرّة تتّخذ قرارًا بقراءة فصولها القاسية، أذكُر أن المرّة الأولى التي قرأت بها "الطنطورية" كانت على شاطئ بحر غزة في صيف العام 2019، وَقتَها كان الناس في قطاع غزة يعيشون أوضاعًا مأساوية، وكانت التقارير الأمميّة آنذاك تؤكّد أن غزة في العام 2020 ستصبح مكانًا غير قابل للعيش فيه، وأذكر جيدًا أن أهالي القطاع كانوا يُحاولون التّعافي من آثار الحصار والحروب المتكرّرة التي ندبَت بأهلها مِن رفح جنوبًا إلى بيت حانون شمالًا.
تملّكتني الجُرأة في كانون الأول/ ديسمبر 2024 بأن أُعيد قراءة "الطنطورية" بعد 432 يومًا من حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة، لكن هذه المَرّة كانت أَشدّ قسوة لأن أحداثها تجسّدت أمامي واقعًا يوثّق الأحداث اليوميّة التي يعيشها الفلسطيني في غزة؛ فَبَطلة الرواية "رقيّة" أُجبرت على مُغادرة بلدتها، كَما أُجبرنا تمامًا بعدما ارتكب جنود الكتيبة 33 من لواء إسكندورني الإسرائيلي مذبحة الطنطورة ليلة 22 أيار/ مايو 1948 والتي ارتقى خلالها 270 إلى 290 شهيدًا من سكان القرية الواقعة بالقرب من حيفا على شاطئ البحر الأبيض المتوسط.
ففي ذروة المجازر اليومية التي تُرتكب يوميًا في أحياء جباليا وبيت حانون وبيت لاهيا ورفح وخان يونس والنصيرات والزيتون والشجاعية، والتي تَرصُدها شاشات التلفزيون ببثّ مباشر وعلى منصات التواصل الاجتماعي، فإن أهل غزة لم يَجدوا مُعينًا يُنهي مسلسل الإبادة بحقّ الأطفال والخُدّج والنساء والعائلات الكاملة التي مُسِحَت من السّجل المدني ولا منقذًا حقيقيًّا يوقف مشاهد المجاعة ووقوف الجائعين أمام التكيات طلبًا للقمة تشبع بطونهم الجائعة، مِمّا يثير تَساؤلي المُستمر: هل نَحن وحيدون على هذا الكوكب أم أن الضمائر الحيّة باتت ضَمائر مستتِرة عاجزة وغائبة؟!؛ وحاولت "رُقيّة" أن تواجه الواقع بطرح أسئلة مشابهة طوال رِحلة الهجرة والنزوح بعيدًا عن قرية الطنطورة، ومنها: هل سَيَجد أهلها الفرصة ليعودوا إلى أرضهم التي سلبت منهم رغمًا عنهم؟ وهل سيعيدون أمجادَ الفرح والصيد والزراعة كما كان الحال قبل تلك الليلة التي قَلَبت الحياة رأسًا على عقب؟
لم أتخيّل يومًا أن تصبح غزة عنوانَ النكبة الجديدة، فمَشهد الخِيام المتناثِرة تحت المطر في ساحة الجندي المجهول وسط مدينة غزة ومن خَلفِها مشهد التدمير الممنهج للأبراج والبيوت يجعلك تشعر بأن مساحة الحرّية التي نحاول كفلسطينيين الحصول عليها تتآكل شيئًا فشيئًا؛ وأن الحواجز العسكرية قد عادت مجددًا بعد اندحار الاحتلال في العام 2005 لتصبح حقيقة واقعة يواجهها أهل غزة مرّة أخرى، فحاجز "نتساريم" عاد ليَقسم غزة إلى جزئين شمالي وجنوبي، فيما حاجز "موراغ" بالجنوب سلَب محافظة رفح من شقيقتها محافظة خان يونس وجَعَلها وحيدة تصارع الزمن والحياة بدون سكّانها، ولن أنسى مزارع الفراولة والحمضيات في شمال القطاع وشرقه التي باتت حكرًا للمحتل على حساب أصحاب الأرض من المزارعين الذين لَن نَرى محاصيلهم تتسابَق نحو أسواق فراس والشيخ رضوان والشيخ زايد وسوق الأربعاء كما كانت من قَبل.
كلّما جسّد الفلسطيني ارتباطه المُقدّس مع الأرض سعَى الاحتلال لقَطع هذا الارتباط، ولَهَث بشكل مستمر في تكريس مسارات وخطط جديدة كَأَنْ تصبح غزة خالية من الفلسطينيين، وهو ما يحاول إثباته من خلال إصدار أوامر إخلاء البيوت والمناطق المأهولة بالسكان قَبل شنّ الغارات الجوية والمدفعية التي تُباغت الأحياء الآمنة خلال دقائق أو ساعات، وهو ما واجهتُه في بداية الحرب عندَما اضطَّررنا للنزوح من مدينة غزة إلى الجنوب، وفي تِلك الدقائق تَدخُل العائلة في صِراع اتخاذ القرار، فالبَعض يُريد البَقاء والتريّث، فيما يريد آخرون المغادرة أملًا بالنجاة، ليبدأ وَقْتها صراع جديد: ماذا يَحْملون معهم من أغراض وذكريات صَنَعوها طوال حياتهم؟ وكيف يُفرّطون بأشياء ثمينة سيضطرون لتركِها خلفَهم؟
هناك عشرات القصص لعائلات اضطرت للنزوح تاركةً أبناءها ينزفون في الشوارع وهي عاجزة عن حَمْلِهم أو مساعدَتهم بسبب غزارة القصف والرصاص، وهو أمرٌ يجعلهم غارقين في ألٍم وندٍم على فراق أحبّتهم بهذه الطريقة المأساوية، وهي الأحداث نفسها التي عايَشَتها "رُقَيَّة" في قرية الطنطورة عندما شاهدت جُثَثَ والدها وشقيقيها مكوّمة في أحد شوارع القرية دون قدرتها على فعل شيء حتى وَلَو طَبْع قبلة وداع أخيرة، لِتَنْزَح من قَريتها باتجاه الفريديس قرب حيفا تحت أزيز لا يتوقّف من الرصاص وقَصْف المَدافِع التي سَلَبت الأبرياء أرواحَهُم وجعلت الأرامل والأيتام يعيشون مصيرًا مجهولًا بعيدًا عن أرضهم وأحلامهم.
إن ارتباطَ الفلسطيني بأرضه لَن يمكّن المحتل مِن اقتلاعه من جذوره التاريخية مهما حاول؛ فبعد كلّ عدوان وحرب على غزة كان الناس يتهافتون بكلّ عنفوان ورغم الألم إلى تَرميم ما تبقّى مِن مَلامح بيوتهم – إن بقيت – بما يعكس إصرارهم على الحياة؛ والكثير مِنهم يَنصب خيمته فوق ركام بيته ليرسّخ فكرة أنه باقٍ هنا فوق أرضه، بل ويعيدون صُنع مراسم الفرح والزواج لتأكيد قُدرَتِهم على الاستمرار، وأنّ المحتلّ لن يَقدر على هَزيمة الفلسطيني.
إن مشاهد القتل والترويع ومخَطَّطات التّهجير القَسري بحقّ الفلسطينيين رَسَمت ملامح النكبة الجديدة التي ستُمثّل محطة تاريخية فارقة تثبت تجرّد العالم من مفاهيمه الواهية كالإنسانية والقانون الدولي الإنساني، فدماء الأبرياء التي تَسيل في غزة ستبقى شاهدة على أن النكبة مستمرة ولم تَنته!
[1] رواية للأديبة المصرية رضوى عاشور، صدرت سنة 2010، عن دار الشروق المصرية.
الصورة: للمصوّر - الصحفي معتز عزايزة.

ساجي الشوا
إعلامي فلسطيني من سكان مدينة غزة، حصل على درجة البكالوريوس بالعلاقات العامة والإعلام من الجامعة الإسلامية بغزة.
شغل منصب مسؤول العلاقات العامة والاتصال بعدد من مؤسسات المجتمع المدني المحلية والعربية منذ عام ٢٠١٠، إلى جانب حبه لمجال الراديو فعمل مقدماً للبرامج المتخصصة بقضايا الشباب والمجتمع بعدد من الإذاعات المحلية وترأس قسم البرامج والتدريب براديو ألوان من عام ٢٠١٣ حتى أواخر ٢٠١٩.
يحب مجال التدريب فعمل كمدرب متخصص بمواضيع الكتابة الصحفية والعمل في بيئة الراديو والبودكاست وساهم في تدريب حوالي ٣٠٠٠ صحفي وصحفية منذ عام ٢٠١١ إلى اليوم.
شارك في تقديم الاستشارات لعدد من المؤسسات حول كيفية تطوير الخطط التسويقية والإعلانية الخاصة بالعلاقات العامة والتعامل مع الجمهود وله عدة مشاركات إعلامية بالتلفزيون والراديو والمؤتمرات تناولت قضايا الشباب والنساء وقضايا المجتمع.