"خَيْطُ" النَكبة.. مِن تَلّ التّرمس إلى رَفَح: ماضي أَبي قَد صَارَ حاضِري

أَذكُرُ أَبي.. في بيتنا القديم في مخيّم الشابورة، مُضّجِعًا على سريره بعد أن أَقعَدَه المَرَض، أَحمل باقة وَردٍ حمراء، وفي ليلة شتويّة أَضَعها في حُضنه ليبتسِم، أَلتقط صورةً فيبدو وجهه كوردة اقتُلعت مِن ديارها قَبل سَنوات سحيقة، تُماثل عُمره، وقد التَحَف طاقية الصّوف التي لَم تُفارقه إلا في أيام الصّيف القائظة، يرتَبِك أبي مَع لَمعة فلاش الجوال ويبدو كَشاب لا يزال يركُض هاربًا من صوت براميل القنابل المتفجّرة التي كانوا يُلقوها على النازحين مُكرَهين في طريقهم للنجاة مِن قُراهم ومدنهم الأصليّة في فلسطين.
يَلْمع الضوء في عينيه فيَنخَرط في سرديّة الماضي البَعيد الذي لا يزال ماثلًا نابضًا بالألم في قلبه وروحه، أَراه يحدّق في ذلك الطّلاء متعدّد الطبقات أمامه في غرفة المخيم التي كنّا في تلك اللحظة نجلس فيها، يشير لي: "أرى هنالك على الحائط وجه أمي وأبي يجلسان أمام شوالات الحصاد، يُحصيان غلّة العام كلّها، يعملان ليل نهار، لأنخرط معهما في العمل مبكرًا"، يقطع حديثه ويشير للأعلى "هناك.. هل تَرين؟ تَلمع النجمة الكبيرة، لقد كانت نَجمتي في قريتي التي وُلِدت فيها في تلّ التّرمس!".
أُحدّق في الحائط وأَرى نَكبَة عاشها أَبي وأُمي بينما وُلِدت في المخيم هُنا بعدَما كانا ناجيين من القَتل والمَجازر التي كان أَبشعُها صدى في قلوبهم.. مذبحة دير ياسين!
توقّف أبي عن الكلام والتّحديق في الحائط، فالطّلاء بدأ يتساقَط كأنّه قطرات مطر تتساقط من السماء! لم أفهم لماذا يتوقف أحيانًا عن السردية الواجبة لأعرفها ويَعرفها جيلي!
البَوح مَغارَة أحزان يَلتقي فيها ماضي أَبي وحَاضري!
احترَمتُ ذلك الصّمت أيامًا طويلة، كان الصّمت يَغمره ولا يَرغَب في البَوح، لم أفهَم فقد كنتُ صغيرة، كم هو مؤلم أن تَبوح بكلّ ما رأيت وما عشت من آلام وفقدان ونزوح وتشريد! الآن فقط وبعد أن عايشت إبادة جماعية لعشرات آلاف الأبرياء من أهلنا في غزة، فَهِمت لماذا كان أبي يصمت كثيرًا ويحدّق في جدران الحائط المهترئ، لقد كان الأمر وكأنك تَسقط في فراغ لا متناهٍ بلا جاذبية لأرض أو كوكب، يبدو جَسَدُك تائهًا بين المجرّات، تبدو صغيرًا جدًّا، تلتمس يدًا أو كلمة أو مُعجزة تُعيدك لذاتك التي ذَبَحوها أمامَك، ماضيكَ حاضِرُك مستَقبَلُك معلّق ببريق نَجمة، تأمل أن تجد من يحتضنك لتعود مجددًا إلى حاضرك! غزة الآن تائهة مذبوحة تَغرق في بحر من الدماء كما غَرِقت قرانا ومدننا دمًا ونزوحًا وتشريدًا في نكبة الـ 48 التي بات اسمها الآن النكبة الأولى، فلم نَكن نَعلم أن هنالك نكبة أبشع مما شهدناه!
أعود لمحاولاتي التي لا تَهدأ مع أَبي وذكريات النّكبة الأولى، التقطتُ يومًا كانت فيه الذكريات تَنهمر كما المَطر مِن مُقلَتيه، فأخذت جِهازي لأسجّل كلّ كلمة يقولها إذ لَم أعرف متى سيمكنه البوح!
"مشينا مسيرة أيام طويلة، بالكاد نلتقط أنفاسنا، أَنا وأمّك وأخوتك الكبار كانوا صغارًا، أخذنا مفاتيح بيوتنا وتسرّبنا مع انقشاع الفجر، كنّا نرتعد خوفًا من عصاباتهم التي تأتي في ليل دامس لِتَحرق البيوت بأصحابها، وتُدمّر الحقول الخَصبة، وتَقتل مَن تراه منّا أطفالًا ونساء وشيوخًا، كانوا يُرهبوننا، حتى الحيوانات قَتَلوها، كنّا نحاول أن نلتقط أنفاسنا لكنّهم أعدموا العائلات وقتَلوها بدم بارد، أشاعوا الرّعب والخَوف في نفوسنا، لَم نكن نَملك غير مَعاول الزراعة ودفاتر للتعليم والقراءة، قُرانا كانت صغيرة ومتفرقة وأخبار كلّ القرى نلتقطها، عَلِمنا أنهم قادمون ينهَشون الحياة من بين أيدينا، وظننا أن هنالك من سيحمينا، فأَغلَقنا على الحصاد كلّه وأخذنا أطفالنا وركضنا دون أن نحمل شيئًا إلّا صُرّة الملابس وبعض الطعام لأطفالنا، قلنا أيامًا قليلة وسنرجع سيكون الحقّ عاد لأصحابه وسينالون ممن قَتَل أصحاب الأرض، لكنّا مع خروجنا وسيرنا عبر تل الصافي[1] وصلنا إلى مشارف شمال غزة وظللنا نسير وقد أنهَكَنا الجوع والعطش والخوف، وبكى صغارنا كثيرًا (إخوتك) لكنّنا لم نتوقف، وبقينا نسير، توقفت بعض العائلات في غزة، لكني لم أطمئن وبقيت أسير وعائلتي وعائلة أختي (عمّتك) جنوبًا حتى وصلنا إلى رفح".
قاطَعته للمرّة الأولى: يا أبي لماذا لم تتوقف!!
اعتدل في جلسته ليجيبني متجاهلًا سذاجتي:
"لقد هربنا من الموت ولم يعد هنالك أَمن ولا أمان، إننا بلا حول ولا قوّة، وقد أوصلت إخوتك وأمك إلى رفح، ولو كانت هنالك مدينة أَبعَد لما توقّفت عن السير.. لا تَعرفين معنى أن تُقتل عائلتي أمامي وأنا لا أفعل شيئًا!!
طأطأت برأسي وشعرت أني لم أحترم ألمه الكبير، وهذا ما حَدَث، لقد توقف عن الكلام مرة أخرى!
العَينُ تَرى والقَلب نيرانُه لا تَنطفئ!
شَرِبت حكايا والدي منذ نعومة أظافري عن النكبة والمجازر الإسرائيلية بحقّ شعبنا، كنت أُشاكسه كثيرًا وأُمازِحُه قائلة: لقد هربتم! لم يكن يقول شيئًا.. لكنّه في إحدى المرات قال أو كأنه صدى صوته: "الّلي ايده بالميّة مِشّ زيّ الّلي ايده بالنار...!"
اليوم عرفت فقط أنه "الّلي ايده بالميّة مِشّ زيّ الّلي ايده بالنار"، فأيدينا وقلوبنا في النار، وكلّ من في غزة يحترق كلّ يوم ألف مَرّة، داخلها أو خارجها، لا نَجَاة من المَحرقة، لم يَنجُ أَحد من الفلسطينيين ولا حتى ممن لديه ضمير وقلب لا يزال يَشعر، لم ينجُ أحد منهم، فَمَن يَقْبل بقتل آلاف الأطفال كلّ يوم؟ مَن لديه قلب لمشاهدة أطفالنا يحترقون، ورجالنا ونساؤنا، كلّنا نحترق ونكبتنا في غزة أم النكبات!
الآن أَعيشُ كلّ كَلِمة رواها والدي عمّا عايشه في نكبة 48، إنها كابوس يُلاحق الفلسطينيين، المشهد عارٍ إلّا مِن مَقْتَلة وبَحر من الدماء، فقد أصبحت غزة دمارًا لا مَثيل له في التاريخ، والمأساة الأكبر أنها لا تزال تَجري تحت أعين الأبجدية الدولية والحقوقية...! بل أنهم يحاصرون حياتنا وصوتنا وأفعالنا، إنهم يحدّقون فينا كأننا أَتَينا من عالم موازٍ، وكأنّنا لسنا أصحاب الأرض التي اغتيلت وقَتلوا أهلها، غزة التي هي كلّ القرى والمدن الفلسطينية التي تم تهجيرها في الـ 48، فجيراننا في المخيم كانوا من يافا، والآخرون من حمامة وزرنوقة وأسدود وغيرهم من اللد وحيفا والرّملة والقسطينة وغيرها..
احتَضَنَت غزّة كلّ النازحين -مكرهين من الاحتلال الغاشم منذ أن جاؤونا مِن بَعيد بِسُفُن لا تُشبهُنا، لم نُدرك نحن البسطاء أننا تم تقديمنا على طبق من ذهب لاحتلال غاشم بعد أن غدرونا وأداروا ظهورهم لنا، والآن التاريخ يُعيد نفسه، غزّة التي احتضنت كلّ المهجّرين المكلومين مِن قُراهم الأصلية في فلسطين، الآن يُذبحون جميعهم وأصبحوا يُطلقون علينا الغزيين، حتى المواطنين أهل غزة الأصليين احترقوا الآن وبات الجميع سواسية في القتل والتدمير والتعذيب والتجويع والتعطيش والحصار والخوف اللامتناهي، كلّنا يتمّ طَحننا كبذور القمح، غزة التي أَحبّت الجميع واحتضنت الجميع قتلوها وأهلها ولا يزالون في نكبة تعد أُمّ النكبات، لا بيت قائم، ولا مشفى، لا مدرسة، ولا كنيسة ولا جامع، لا بحر يضحك ولا دبكة تُشعل الأرض لهيبًا في غزة، وفي ذكرى نكبتنا الأولى نحدّق في المجهول ونغفو كأموات ينتظرون دورهم في الحياة!
على العَهد يا أَبي...!
أُجبِر أَبي على النزوح من قريته الصّغيرة تل التّرمس وهي إحدى قرى قضاء غزة،[2] لم يكن يتجاوز عدد سكانها في العام 1945 (760) مواطنًا، كانت تل التّرمس قبل عام 1948 قائمة على تلّ منخفض في السهل الساحلي، وكان وادي المرج يَمرّ عبر تخومها الجنوبية، وكانت طرق فرعية تربطها بالقرى المجاورة، وبطريق عام يؤدي إلى المجدل في الجنوب الغربي. لقد أُنشأت تل التّرمس منذ ما يزيد على قرن من الزمن، وكان سكانها يزرعون الحبوب والخضروات والفاكهة، عُرِفت بزراعة الحمضيات والموز والحبوب.[3]
وُلِد أَبي في قرية تلّ التّرمس وتزوّج هناك وأنجب إخوتي الكبار، لكنّه أُجبر على النزوح ليعيش بقية حياته في مخيم الشابورة برفح، حيث جاءت بي الحياة في مخيم اللاجئين هربًا من بَطش الاحتلال الإسرائيلي، عِشت طفولتي في رفح التي اختارها أَبي ليَنجو بعائلته، لقد رَحَل أَبي ومقلَتاه لَم تَكُفّا عن الحلم بالعودة لقريته، في إحدى المرّات القلائل وفي إحدى الرحلات[4] إلى القدس مررنا بطريقنا قريبًا من قرية تل التّرمس التي دُمّرت كلّ بيوتها وأقيمت على أجزاء من أراضيها مستوطنة إسرائيلية[5] ليُشير أبي ونحن بالباص:
![]() | ![]() |
---|
قرية تل الترمس قبل وبعد نكبة 48
"هُنا ولدت يا ابنتي، هنا كنّا نعيش حياة بسيطة وجميلة"، فالقرية كانت تعتمد على الزارعة، كانت المرّة الوحيدة التي رأى فيها أبي قريته من بَعيد، أذكر عينيه المغرورقتين بالدموع والألم، لم يتوقّف عن الحديث عنها وشوقه لها حتى رحيله في مخيم الشابورة برفح، التقطتُ مسيرة التهجير كابنة أبي التي تنفّست قصص التّهجير مع الرّضعة الأولى، وعِشت حياتي في رفح رغم أن عملي يوميًّا في مدينة غزة إلا أني كنت أفضل البقاء في رفح حيث عاش أبي بقيّة عمره، وعائلتي الممتدة لا تزال في رفح ما بَين نزوح وفقدان كلّ في عذابه الخاص!
لم يَعرف أَبي أن رفح الآن أُعلنت أراضي إسرائيلية وتم تدميرها ولا يزال التّدمير مستمرًّا، لم يعرف أبي أنّهم لاحقوه في ملجأه الذي اعتقد أنه آمن، لم يعرف أنهم دمروا بيت المخيم الذي احتضنن ذكرياتنا وأشواقنا وأحلامنا بالعودة، لم أَجِد الوقت الكافي لأخبر أبي أنهم دمّروا البيت الذي شيّده مع أمي بيديه بالطين والحجارة والزينكو، ليحمينا ونحن صغار!
![]() | ![]() |
---|
رفح قبل وبعد "حرب الإبادة"
تصوير أحمد شلهوب
لم أجد الوقت الكافي لأُحافظ على قبر أبي بعد أن عاثت دبابات الاحتلال الإسرائيلي بشواهده وشواهد قبر أمي، ولا أريد أن أُخبره عن حسرتي وقهري ووجعي لأني لم أحمِ قبره ولا بيته ولا ذكرياته، لم أخبره أنني غدوت مجبَرة على النزوح في بلاد غريبة لا أعرفها ولم أُحبّها، لم أُخبره عن قلبي المشتعِل ما بين رفح وغزة وتلّ الترمس ونهر الدماء الذي لا يزال طازجًا بآلاف الشهداء والأطفال والأمهات والشبان والرّجال، لكنّي أَعِدُه أني سأحمي القصة والرواية التي رَواها وسأظل أرويها!
[1] بينما كانت الهدنة الأولى في الحرب تشارف على نهايتها، كانت القوات الإسرائيلية على الجبهة الجنوبية تخطط لهجوم كبير إلى الجنوب من الرملة وفي اتجاه النقب، أطلقت عليه اسم عملية أن – فار. ومن المرجّح أن تكون تل الترمس سقطت في بداية هذه العملية، أي في 9-10 تموز/ يوليو 1948 تقريباً، على يد الكتيبة الأولى في لواء غفعاتي. وربما كان سكانها ضمن أقلية من سكان المنطقة ممن طُردوا خلال هذه العملية – عبر شريط تسيطر إسرائيل عليه – في اتجاه غزة، لا شرقاً في اتجاه الخليل (الموسوعة التفاعلية للقضية الفلسطينية.palquest.org/ar/place/22282)
[2] صورة المستعمرة التي بنيت على أنقاض أجزاء من قرية تل التّرمس https://ar.wikipedia.org/wiki/
[3][3] الموسوعة التفاعلية الفلسطينية palquest.org/ar/place/22282
[4] أذكر في طفولتي، أي قبل أربعين عامًا أننا كنّا بعد صلاة الفجر نلتقي في رحلات جماعية للأهالي تنطلق من رفح، كانت تنظم أيام الجمعة للصلاة في الحرم القدسي والعودة في اليوم نفسه، ولصغر عمري وقتها كنت أتعلق بأبي وأمي لأذهب معهم في هذه الرحلات التي توقفت في ما بعد تمامًا.
[5] أقيمت مستعمرة تيموريم (127125) على أراضي القرية، في سنة 1954. https://www.palestineremembered.com/Gaza/Tall-al-Turmus/ar/index.html
الصورة: للمصوّر - الصحفي بلال خالد.
