من قال إنه ليس الوقت المُناسب؟
كلّ يومٍ يمرّ على العدوان على غزّة يفاقم في داخلنا الشعور بالعجز، اليأس، الغضب والحزن والخذلان. هول الحدث أفقدنا القدرة على التعبير والتحليل، وحوّل الصمت الذي يخيّم على فلسطينيي الداخل من صمتٍ فرضته المؤسسة الإسرائيلية عنوةً بالتهديد والاعتقالات التعسفية العشوائية، إلى صمتٍ طوعيٍّ في بعض الأحيان، نابعٍ من الشعور بعبثيّة كل شيءٍ، ولربّما أيضًا من الامتناع عن نشر مشاهد لا نريد أن نصدّق أنها تحدث بالفعل. في الصمت تكمن أحيانًا مقولات وصرخات هي أبلغ من كل الكلام.
أجلس على شرفتي، أرقب جنون الطقس، هذا البياض القاتم وزخّات المطر العنيفة في بلادنا، أجلس لأكتب مقالي هذا بعد محاولات عديدة متكررة فشلتُ بها. ماذا عسايَ أكتب - كحقوقيّة مثلًا - عن النساء في ظل الحرب؟ هل أكتب عن انتهاك حقوق الأسيرات الغزّيات وإذلالهن بأبشع الطرق؟ أو عن حصيلة النساء الشهيدات؟ أو عن عدد الأرامل والمعيلات الوحيدات لعائلاتهن الآخذ بالازدياد مع كل يومٍ يمرّ على العدوان الهمجيّ؟ عن النساء الحوامل اللاتي يتمنّين أن يتأخر مخاضهن لئلّا يلدن في خيمة؟ عن جبروت نساء غزة وإبداعهن في سبل النجاة والرباط؟ أو عن انتهاك إسرائيل لمعاهداتٍ ومواثيق دوليّة وُجدت لحماية النساء في حالات الحرب، وقد أيقنّا أن لا قيمة لقانونٍ دوليٍّ في حروبٍ ضحاياها ليسوا بيضًا بعيونٍ ملوّنة؟
أجلس على شرفتي وقد أخفت الغيوم جبل الطّور من أمامي وكأنه لم يكُن، وأفكر في نفسي كيف أخفى الاستعمار غزة عنّا، تمامًا كما تفعل الغيوم بالجبل، وجعلها تبدو كأحجية أو معجزة من نسج الخيال. ألجأ لملفٍ كنتُ قد ملأته روابط لشهادات وصور ومقاطع فيديو نُشرت في الفضاء الرقميّ، علّها تلهِمني فأجيد الكتابة.
"تشكّل النساء نصف إجمالي سكّان قطاع غزّة"، يستوقفني هذا المعطى وقد اعتدنا مؤخرًا على كثرة التعاطي مع النِّسب والمعطيات والأرقام، وكنت قد انشغلتُ منذ شهرٍ من خلال عملي في "إيتاخ معكِ - حقوقيات من أجل العدالة الاجتماعية"، على مواد لحملةٍ رقميةٍ أطلقناها تنادي بضمان التمثيل اللائق للنساء - نصف المجتمع - في السياسة المحلّية، وتحثّ الجمهور على دعم المرشّحات في انتخابات السلطات المحلّية.
ومن ثمّ استوقفني منشور دوّنتُه هو أيضًا في الملف، تقول صاحبته:
"أنا بعتذر إني بطرح هالموضوع بهيك وقت بس شو يعني نلف عكل صيدليات رفح عشان أولويز وما نلاقي؟"، أسرح في خيالي وألعن هذا العالم الظّالم بنبرةٍ تمزج بين الألم والغضب وقلّة الحيلة. بعدها تعيدني ذاكرتي لمواقف عديدة من الأسابيع الماضية سمعتُ بها جملةَ "ليس هذا هو الوقت المناسب"، وذلك خصوصًا عند الحديث عن أهميّة مشاركة النساء في السياسة ومواقع صنع القرار ووضع السياسات. أحقًا ليس الوقت مناسبًا؟
على مدار أعوامٍ طويلةٍ منذ النكبة، عملت إسرائيل على قمع التنظيم الشعبي في أوساط فلسطينيي الداخل كوسيلة لمحو هويتهم ودمجهم في المجتمع الإسرائيلي، مع الحرص على خفض مستوى مطالبهم ليصل حدّ المطالبة بالعيش فقط، مع ارتفاع منسوب الإجرام المنظّم وتهديد الأمن الشخصيّ. هكذا، تحوّل الفلسطينيون داخل الخط الأخضر من شعبٍ أصلانيّ له امتداد في كل أنحاء فلسطين التاريخية والشتات، إلى "أقليةٍ قوميةٍ" جلّ ما تريده هو العيش بأمان ليس أكثر. وتباعًا مع الوقت، بشكلٍ تلقائيٍ صرنا نتعاطى مع الأحداث العينيّة على نحوٍ منفصلٍ عن مطالب كبيرة ترفعها شعوب الأرض، كمراعاة حقوق وحريّات الأفراد والجماعات، تعزيز مكانة النساء في المجتمع وتمثيلهن في مواقع القوة والتأثير، نزاهة الحُكم والشفافية وما شابه، غالبًا بادّعاء "مش وقته". في الادّعاء هذا ترسيخ مبطّن - قد لا نكون واعين له - للسقف المنخفض الذي وضعته إسرائيل لنا. أليست كل الأوقات مناسبة لتمكين شعبنا وتعزيز حصانته إن كنّا نسعى للحرية والعدالة؟
وإن تمعّنّا قليلًا بتبعات الحرب الجارية على النساء الفلسطينيات في الداخل، نجدها قاسية جدًا، إلا أنها تفتقر للمعالجة والحلول. في الشهور الأخيرة كان هناك دور كبير للسلطات المحلّية في التعامل مع القضايا والاحتياجات اليومية الناجمة عن حالة الحرب، ورغم ذلك، وفي إطار العمل في مشروع "المستشارات"، المشترك لجمعيتيّ إيتاخ معكِ ومحامون من أجل إدارة سليمة، أدركنا أن النساء واحتياجاتهن وتحدّياتهن، بقيت كالعادة في الهامش، ولم تحظَ باهتمامٍ كافٍ وحلولٍ حقيقيةٍ لها، خصوصًا في ظلّ شحّ التمثيل النسائي في السياسة المحلّية (إذ أنه لا يتعدى ال-2% من إجمالي الأعضاء في السلطات المحلّية العربية!).
طالبات جامعيات أُبعِدْن عن مقاعد الدراسة بسبب آراءٍ عبّرن عنها؛ عاملات فُصلنَ من أشغالهن؛ فنّانات وشابات اعتُقلن بهدف الترهيب؛ أمّهات اضطررن لترك عملهنّ للبقاء مع أطفالهنّ في البيت في فترة التعلّم عن بُعد؛ نساء حوامل أو مرضى توقّفن عن متابعة الفحوصات والعلاجات بسبب المضايقات العنصرية المحتمَلة في المدن اليهودية (حيث المشافي والمراكز الصحية)؛ نساء محجّبات يخفن التجوّل بالحيز العام أو حتى الذهاب للعمل لتجنّب المضايقات والملاحقة؛ تراجع المدخولات والأوضاع الاقتصادية والحاجة لمعونات تموينية؛ الصدمة وتراجع الصحة النفسية - وأحيانًا الجسدية في أعقابها - بسبب مشاهد الحرب القاسية والخوف من المستقبل - هذه جميعها بعضٌ من التحدّيات التي واجهتها وتواجهها النساء الفلسطينيات في الداخل والتي لم تلقَ الاهتمام اللازم للتعامل معها ومعالجتها.
لا أكتب هذا لأوجّه إصبع الاتهام لجهةٍ أو أخرى بما آل إليه حال شعبنا في الداخل، لكنّي أقول، وبكلّ وضوح: الصمت - الآن تحديدًا - هو رفاهية قد ندفع ثمنها لاحقًا. لكل فردٍ منّا دور يستطيع من خلاله المساهمة في تطوير وتمكين شعبنا من أجل تحقيق غايتنا المنشودة؛ هذه الأدوار تكامليّة وأي خللٍ في أحدها يعيق السيرورة ويطيلها.
التمثيل اللائق للنساء في السياسة ليس ترفًا أو "شعارات رنّانة نسويّة"، بل مطلب جوهري وإنساني من الدرجة الأولى، إن أصرّينا عليه وحقّقناه نكون قد خطونا خطوة كبيرة هامّة بالاتجاه الصحيح. بحسب دراسات أجريت في هذا الشأن، تبيّن أن النساء يتمتعن بنقاط قوة عديدة، منها نظرتهن الشمولية للأمور، حرصهنّ على المصلحة العامّة والحفاظ على الإدارة السليمة، اتّباعهن أساليب عمل ترتكز على العمل الجماعي وبناء الشراكات والتعاونات، تقديم حلول إبداعية ومبتكرة لمشاكل المواطنين والمواطنات، وقدرتهنّ على التأثير على الجوّ العام السياسي بشكل إيجابي. هذا الأمر برز كذلك في الساحة الدولية، حيث كان لحركات نسائية في إيرلندا الشمالية، كولومبيا وغيرها من الدول، دور هام في حلّ نزاعات سياسية دامية امتدت على مدار أعوام.
النساء هنّ إحدى أكثر الفئات تضررًا من الحروب. النساء قادرات على إيجاد حلول وقيادة نضالات يمكنها ضمان مستقبل أفضل وأكثر سلامًا وأمانًا للأجيال القادمة. لكنّ النساء لسن جزءًا من مواقع التأثير وصنع القرار. ليس هناك وقت أنسب للإصرار على تغيير هذه المعادلة المجحفة بحقّنا جميعًا، كأفراد وكمجتمع، لكي نكون قادرين وقادرات على منع الاستفراد والفتك بنا بعد سنوات من الآن. هذا ليس الحل، لكنّه حتمًا جزء منه.