من بيت العائلة إلى بيت النص!
أربع صور مجتزأة من سيرة وصيرورة شخصية
"عندَما نسمعُ صوتَنا الداخليَّ ونتبَعُه، نستطيعُ أنْ نمضيَ في طريقِنا الخاصِّ بنا"
إيليتشي لي
(1)
صورتان: أبي يكتبُ... أمي تقرأ
أ- أبي يكتبُ
في 28 حزيران 1967 يكتب أبي رسالة إلى أخي، وفيها يقول:
"... نزلت يوم الاثنين الموافق 5/6/1967 من رام الله الى نابلس، وهناك لما سمعت بالحرب رجعت الى رام الله في نفس اليوم. وفي اليوم التالي الثلاثاء في حوالي الساعة السابعة صباحًا، بينما كنت جالسًا أكتب على الأريكة التي في الغرفة التي تنام فيها. وأخوتك لم يخرجوا بعد خارجا كعادتهم سمعت إطلاق رصاص آت إلينا من الشرق من أربع طائرات كما قيل لي فيما بعد وقنابل تتساقط علينا من جميع الجهات لم تبق إلا لوحان من 23 لوحًا من زجاج النوافذ، وقد فهمت فيما بعد أن السبب كان استهداف علم المدرسة التي ظنوها قد تكون مكانا مهما للحكومة وقد أصابت الدار ست قنابل سببت حريقا واحدا في الشقة التي تعلونا مباشرة والآخر في الشقة التي بجانبنا ولم يكن في الدار غيرنا لأن أم خلدون (صاحبة البيت) ما زالت غائبة بالمصادفة في بيروت لتطبيب زوجها، والآخرون (يقصد الكاتب خليل السواحري وزوجه اللذين كانا يسكنان الشقة العلوية (غائبون لظروفهم، وأما في القصف الثاني بعد الظهر من نفس النهار قد كان الهدف هو الجامع لمدفعية من النبي صمويل وغيره قد أصابت سطح الدار أربع قنابل فتحت أربع فجوات نافذات في ذات الشقة التي تعلونا وقد سلم الله الجميع، ولم أذهب بعد إلى نابلس….."
(من نسخة من الرسالة: أرشيف أبي)
**
ب- أمي تقرأ
في ذلك اليوم، ولثلاثة أيام، يُجبرنا أبي على البقاء بثيابنا بما في ذلك أحذيتنا، ولم يكن الأمر مفهومًا لثلاثة الأطفال في السابعة والخامسة والثالثة (بيت يُقصف، زجاج يتهاوى، فتحات تشقّ الجدران) لائذين جميعًا مع أم حامل في شهرها التاسع في نهاية الممر الضيق الذي يفضي إلى المطبخ والمرحاض. كأن "هناك" يبدو المكان الأكثر أمنًا في البيت. وأبٌ يقضي معظم وقته، وهو ينبش أوراقه ويرتّبها ويعيد ترتيبها مرة تلو الأخرى، ويُخربش حيث يجد مساحة ما فارغة فيها، وأمٌّ متعلقة بنجيب محفوظ ولا تكاد تتركه، يومها كان العنوان "اللص والكلاب" هو كل ما لفت نظري. وما بين ترتيب أوراق وتقليب صفحات، يعدُّ أبي "تنكة زيت فارغة" لتغدو فرنًا لبابور الكاز، وأمي تجهز عجينًا لتخبزه عليه. وكان أكلُنا على مدى أربعة أيام هذا الخبر الساخن وكسرة جبن وشرحة بطيخ نحيلة. (من ذاكرتي)
**
كنت حينها أحد هؤلاء الأطفال الثلاثة، ولا زلت أرى في شريط الذاكرة صورًا من بعض ما ورد في رسالة أبي لأخي عن تلك الأيام. أمَّا كل ذلك، فعرفته من تلك الرسالة التي اقتبست منها في المقدمة، بعد أن قرأتها، بعد أربعة عقود من كتابتها، حينما بدأت في نبش أرشيفه الورقي الهائل ولا زلت أنبشُ لأكتب شيئًا ما، يومًا ما عنها ومنها وفيها.
لم أحمل معي هاتين الصورتين من تلك الأيام فقط؛ أبي يكتب وأمي تقرأ. بل اتَّخَذتِ الصورتان هيئاتٍ متعددةً طوال عمريهما، فبقيتا حاضرتين، فذلك ما كانا يفعلانه، كلٌّ على حدة يوميًا تقريبًا؛ أبي يحمل قلم رصاص ويخربش ويدوِّن بين حين وآخر، وأمي تحمل بين كفيها رواية لمحفوظ أو السباعي أو محمد عبد الحليم عبد الله... . وهذا ما استمرّا عليه معظم حياتيهما تقريبًا. أمّا الغريبُ الذي لم أفسره بعد، فإنهما، كليهما، كانا يتقنان القراءة والكتابة، فأبي كان يوثق حياتنا بالكتابة وأمي توثقها بالصور.
(2)
أمي تنصتُ لقصائدي ... أبي يحفظها في أرشيفه
لا أجدُ خيطًا واضحًا مباشرًا لعلاقة ذلك باهتمامي بالقراءة والكتابة، لكن ما أدركه إلى حدّ بعيد أن تلك الصور تركت أثرًا ما في ما يخص التعبير، التعبير الذي يجتهد في أن يكون خاصًا وربما مختلفًا إلى حدّ ما.
ولأن أبي كان ينشغل كثيرًا في "توثيق" ما هو شخصي وما هو مهني فلم يترك شيئًا إلا حفظه ودوّنه بما في ذلك القصائد التي كنت أنشرها في الجرائد المحلية، وفوجئت بأنه يقصها ويسجل تاريخها ويحفظها في ملف باسمي حيث كان لكل من زوجته وأولاده وممتلكاته ووظائفه ملفًا يخصه.
أمّا أمي فهي التي كانت أول من يستمعُ لقصيدة جديدة لي، وكانت نظرتُها كافية لتقول لي دون أن تنبس بحرف: "أرسلِ القصيدة للنشر" أو "ألقِ بها في سلة المهملات".
(3)
"شرق المتوسط".. من خيمة في المعتقل إلى حجرة صف في المدرسة
حينما أصبحت مدرسًا للغة العربية في مدارس الفرندز غامرتُ باختيار رواية عبد الرحمن منيف "شرق المتوسط" لطلبة الصف الثامن. أمّا لماذا اخترتها، فإن لذلك قصة: في الانتفاضة الأولى كنت معتقلًا إداريًا في سجن النقب، وحينما سُمح للصليب الأحمر بإدخال 150 كتابًا للقسم الذي كنت فيه بعد شهور من مطالبتنا بالكتب، اختارني السجناء لأكون أمين مكتبة القسم. حملتُ الكتب إلى الخيمة، وأخذت في تسجيلها تمهيدًا لإعارتها للسجناء. ولأول مرة تقع عيناي على رواية "شرق المتوسط" وهي المرة الأولى التي أسمعُ فيها بعبد الرحمن منيف أصلًا. فتحتُ الرواية لأتصفح أولها كما كنت أفعل مع كل كتاب، وإذ بي أشرعُ في قراءتها دون توقف إلى أن أنهيتها في المساء.وما أن أنهيتها حتى كانت لدي قائمة بأسماء 54 سجينًا سجلوا دورًا لهم لقراءاتها. لعل انشغالي عنهم طوال ذلك اليوم هو الذي أشعل لديهم فضول قراءتها. لنعد إلى طلبة الصف الثامن، شرعنا في الرواية؛ نقرأ، نتخيل، نناقش، نعبّرُ، نكتب، ... وفي إحدى الحصص كنّا نناقش أسلوب الحوار الداخلي/ المنولوج في الرواية، وبخاصة تلك المناجاة التي كان يخاطبُ فيها "رجب" بطل الرواية السفينةَ "أشيلوس"-التي حملته منفيًا إلى فرنسا بعد أن قضى سنوات في سجن حجازي-لقد شكَّلت المناجاة هذه عنصرًا جوهريًا في بنية الرواية، وفي مضمونها، لأن "رجب" كان يبث مشاعره وأحلامه وآلامه وآماله ورغباته وتطلعاته لـ "أشيلوس". وفجأة تنهض إحدى الطالبات أثناء النقاش وتقول: "كل منّا لديها أشيلوس التي تخصُّها"، حينها اشتعلَ حوار ساخن متشعب داخل حجرة الصف، وقد أفضى إلى اقتراح أن يكتبَ الطلاب "مناجاة" لأشيلوس التي تخصه، ويبث عبر الكتابة ما يشاء من أفكار ومشاعر، ومن خلال استلهام حوار "رجب" الداخلي وأسلوب "منيف" في الكتابة-لا تقليدهما-كتب الجميع، وتحوَّل الأمرُ إلى مشروع إنتاج مجلة "كلمات" فَنَشر فيها الطلبة نصوصهم، وحرروها وصمموها فنيًا وحصلوا على تبرع لطباعة ألف نسخة منها وزّعوها على الأهل وعلى المجتمع المحيط بالمدرسة.
(4)
"أشيلوس" من الرواية إلى "كلمات"
لقد أتاحت لي تجربة "كلمات" هذه مع طلاب الصف الثامن الشروع في تأليف وحدات تعبير تفاعلية تستلهم الفنون الأدائية والبصرية والأدبية كمحفز للتعبير وملهم للكتابة. إذن، ما الذي يمكن اقتراحه هنا؟ نبدأ بفكرة "الهجرة/اللجوء" التي تتجلى بإحدى صورها في رواية عبد الرحمن منيف. لنتناول، انطلاقًا منها، شكلين من أشكال التعبير؛ بصري استند إلى مشروع الفنان التشكيلي الفلسطيني تيسير بركات "بحر بلا شطآن"، ولغوي استند على النص الأدبي "شرق المتوسط". وعبرهما ننتقل إلى نصوص طلاب الصف الثامن في "كلمات" ونحمل كل ذلك معنًا إلى صور فوتوغرافية تعبر عن حالات لاجئين عبر أزمنة وأمكنة مختلفة تتيح لكل من يتفاعل مع هذه الوحدة من اختيار شخصية من شخصيات واحدة من هذه الصور، وفي ضوء الصورة وأشخاصها وسياقها يقدح الأطفال مخيلتهم في رؤية العالم من منظور ذلك "اللاجئ" الذي تم اختياره والشروع في تأليف "مونولوج/ مناجاة/ حوار داخلي" من وجهة نظره وبث أفكاره ومشاعره، آلامه وآماله، نجاحاته وإخفاقاته، تطلعاته وأحلامه. وفي ضوء ذلك ألفتُ وحدة "في القوارب... في عُرض البحر، لنا أصوات".
***
(عَتَبة لذلك وما بعده)
"تعبير- حركة صورة صوت"
ستكون هذه الوحدة التي أشرت إليها ضمن الوحدات المنشورة في "تعبير" المنصة التي أطلقتها مؤخرًا (www.tabeer.ps). لا أحاول في هذه المنصة تكثيف تجربة الماضي عبر صفحاتها وحسب، بل في أن أجتهد كي تتحول إلى منصة تمنح الأطفال واليافعين ومن يعملون معهم من معلمين وكتّاب وفنانين ... فضاءً يرحّبُ بحرية التعبير ويتيح تحرير التعبير مما علق به مما هو مألوف وعادي ومستهلك إلى ما هو مبتكر واستثنائي وخلّاق.
[1] تم التعامل مع هذه الرسالة كوثيقة دون تدخل لغوي أو تحريري. (المحرر)
وسيم الكردي
شاعر، مختص في مجال التعلم الاستقصائي والدراما في التعليم، رئيس تحرير منصة "تعبير"