التعليم في المجتمع العربي: احذروا الوقوع في "مصيدة" نتائج البجروت

في الوقت الذي تحتفل فيه مدارس عديدة بحصول طلابها على نسبة نجاح مرتفعة، بل وغير مسبوقة، في امتحان "البجروت"،وأحيانًا تسجيلهم قفزات خيالية عن نتائج السنة التي سبقت نتائج العام المحتفى به، تكشف نتائج امتحانات وأبحاث دولية ومؤشرات أخرى عن صورة مأساوية للتعليم في المجتمع العربي الفلسطيني في إسرائيل. فهناك فجوة بين نتائج "البجروت" من جهة، ومن جهة أخرى نتائج اختبارات وامتحانات دولية وأخرى محلية تجريها السلطة القطرية للقياس والتقييم، ومؤشرات مختلفة كالتسرب العلني والخفي ونسبة الطلبة الذين يقبلون على التعليم العالي والمواضيع التي يستوفون شروط القبول لها، والمهارات التي يكتسبها الطلبة في المدرسة تحضيرًا للحياة عمومًا ولسوق العمل وللتعليم الأكاديمي وما بعد الثانوي على وجه الخصوص، وعدد الخريجين المنخرطين في العنف والجريمة.

تقول هذه الفجوة ببساطة أن امتحانات البجروت لا تعكس وضع جودة التعليم الحقيقي في المدرسة، لذلك من الأنسب أن تتوقف المدارس عن تسويق نسب النجاح في "البجروت" وَحدَها كإنجاز كبير. أقترح تبني مقاييس أخرى لنجاحات مدارسنا العربية بمقدورها أن تعكس إنجازًا حقيقيًا وتقدمًا في ما يلبي احتياجات مجتمعنا اليوم. أقترح مثلًا أن تحتفي المدارس بإنجازات جدية في العمل مع الطلبة المهمشين أبناء الطبقات المسحوقة والعائلات التي تعاني أوضاعًا اجتماعية واقتصادية صعبة ومن شح في رأسمالها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. فحقيقة الوضع اليوم هي أن النتائج الممتازة في التعليم يحصل عليها غالبًا أبناء العائلات المتوسطة والغنية بمواردها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

تؤكد أبحاث كثيرة- ونلمس ما تؤكده الأبحاث في الواقع- أن مكان الطالب/ة في الصف الذي تحدده صفوف الابتدائية الأولى يبقى في الغالب ثابتًا إلى نهاية المرحلة المدرسية؛ بمعنى أنه إذا كان موقعه في الهامش من حيث الإنجازات والقدرات في الصف الثالث مثلًا، فعلى الأغلب سيبقى في الموقع ذاته تقريبًا حتى نهاية الثانوية، هذا إذا لم يتسرب من المدرسة (بشكل كامل أو بما يسمى التسرب الخفي-العلاقة الضعيفة وربما المعدومة مع العملية التربوية والتعليمية حتى لو حضر الطالب/ة جسديًا إلى المدرسة). وهنا لا بد أن نسأل عن "نجاحات" المدارس في العمل مع هذه الشريحة من الطلاب، خصوصًا أن الطالب/ة يقضي سنوات طويلة من حياته في المدرسة. فلو عدنا إلى مثال الطالب من الصف الثالث. فهو سيعيش تسع سنوات إضافية في المدرسة بعد الصف الثالث إذا لم يتسرب. هل تستطيع المدارس أن تخرج الطالب من الهامش الذي يعاني فيه من تحصيلٍ متدنٍ، وحالة من الاغتراب والمعاناة وافتقار المعنى والأمل.

عندما نقارن وضع التعليم في مجتمعنا العربي من خلال الاختبارات الدولية-وخصوصًا اختبار "البيزا" من العام 2022 -التي نشرت في الأشهر الأخيرة، فإننا نحصل على مؤشرات لفهم وضعنا التعليمي مقارنة مع مجتمعات أخرى وكيانات عديدة في العالم، ونرى أن تحصيل الطلبة العرب الذين يتعلمون في جهاز التعليم الإسرائيلي تشابه إلى حدّ كبير وضع الطلبة في السلطة الفلسطينية. (الجدول رقم 1) الذي أعددته لإتاحة المعطيات وتسهيل المقارنات حسب نتائج اختبار “البيزا” الأخير (2022)، يشير إلى الصورة التالية: نتائج الطلبة اليهود تعتبر من الأفضل في العالم، خصوصًا في لغة الأم والتفكير الإبداعي (من أفضل 10 دول)، أما نتائج الطلبة العرب في إسرائيل فتحتل ذيل القائمة التي تشمل 81 دولة/كيان اقتصادي وهي متشابهة جدًا في جميع اختبارات "البيزا" في المواضيع الثلاثة الثابتة، وفي الموضوع الرابع الذي يتغير في كل اختبار الذي يجرى مرة كل ثلاث سنوات لطلبة في جيل 15 عامًا، وكان الموضوع "الضيف" في امتحان العام 2022 هو "التفكير الإبداعي".

أريد أن أتوقف عند نتائج الطلبة العرب في لغة الأم لأهميتها حيث يبتعد معدل الطلبة العرب بـ 110 نقاط عن معدل الطلبة في الدول الـ81 المشاركة في الامتحان و 136 نقطة عن نتائج الطلبة اليهود. واللافت أن نتائج العرب في لغة الأم موجودة في منحى انخفاض منذ العام 2012 حيث كانت نتيجة العرب آنذاك 401 نقطة. هناك 4 نقاط تقدم عن نتائج اختبار 2018، ارتفاع طفيف لا يغير من صورة الوضع، ويبقى البعد عن الوضع في العام 2012 35 نقطة أقل. حسب النتائج الأخيرة فإن ثلثي الطلبة يجدون صعوبة في لغة الأم مقارنة مع 20% من بين الطلبة اليهود، ونسبة الطلبة مع الكفاءة العالية تكاد تقترب من الصفر .

يَظهر وضع الطلبة العرب الصعب في لغة الأم ليس فقط في هذا الاختبار بل أيضًا في اختبارات أخرى، الأمر الذي يتطلب فحصًا شاملًا وتغييرًا جذريًا في التعامل مع اللغة العربية في وزارة التربية وفي المدارس وفي السلطات المحلية العربية وكافة المؤسسات. لغة الأم هي لغة التفكير ولغة الهوية وهي اللغة التي تصل الطالب/ة بالعملية التعليمية والتربوية. يقرر ضعف الطالب في لغته بشكل كبير مصيره في التعليم، ولكن أيضًا في الحياة.

فَحَص اختبار العام 2022 وَضْع الطلبة في التفكير الإبداعي، وكانت النتائج مشابهة إلى حدّ كبير لوضع الطلبة في بقية الاختبارات. وهنا لا بد من التأكيد على العلاقة بين لغة الأم والتفكير الإبداعي. ضعف الطلبة في لغة الأم يحدّ من تفكيرهم الإبداعي الذي يتسنى من خلال اللغة المتطورة والآفاق الواسعة التي تلعب اللغة فيها دورًا أساسيًا. كذلك لا بد من الإشارة إلى العلاقة بين النتائج المتدنية وسياسة السيطرة والضبط المنتهجة من قبل المؤسسة في مجال التعليم وغيره، حيث يقتصر جلّ اهتمام المدارس على الناحية الشكلية للتعليم المرتبطة بتمرير مواد محددة والتحضير لامتحانات، في ظل عدم وجود أجواء وشروط تشجع التعبير والتعامل مع القضايا والمضامين والهموم المجتمعية التي ممكن أن توسع الآفاق والخيال وتعزز إمكانيات نقد الواقع والتفكير في تغييره للأفضل. معلمٌ يشعر بالاغتراب والقمع والخوف، ويتبنى مفهومًا ضيقًا للتربية والتعليم كي يوفر الحماية لنفسه في ظل عمليات الضبط والمراقبة (يمشي "الحيط الحيط" ويخاف من الجدران التي لها آذان)، من الصعب وربما المستحيل أن يربي جيلًا مفكرًا ومبدعًا وناقدًا.

جدول رقم 1: نتائج الطلبة العرب في  اختبارات “البيزا” في العام 2022 مقارنة مع الطلبة اليهود ونتائح الطلبة في مناطق السلطة الوطنية الفلسطينية[1]

 

 

قراءة

رياضيات

علوم

تفكير إبداعي

عدد الدول والكيانات المشاركة

81

81

81

64

معدل دول OECD

476

472

485

 32.7

المعدل في إسرائيل 

474

458

465

32.3

ترتيب إسرائيل بين الدول

30

38

37

29

الطلبة العرب في إسرائيل

المعدل

366

380

386

21.1

 

ترتيب من بين الدول التي شاركت في الامتحان

69

65

66

54

طلبة ذوو أداء عالٍ

0%

1%

0%

11%

(دول OECD: 27%)

طلبة يجدون صعوبة

66%

68%

61%

61.2%

(دول OECD: 22%)

الطلبة اليهود

المعدل

502

478

486

35.2

ترتيب من بين الدول التي شاركت في الامتحان

10

24

27

9 (في 8 دول كان المعدل أعلى)

طلبة ذوو أداء عالٍ

13%

10%

7%

35+% (في 6 دول كانت نتائج أعلى)

طلبة يجدون صعوبة

20%

29%

24%

15.3%

السلطة

المعدل

349

366

369

18.5%

ترتيب من بين الدول التي شاركت في الامتحان

75

69

74

59

طلبة ذوو أداء عالٍ

0%

0%

0%

5.7%

طلبة يجون صعوبة

77%

80%

72%

69.5%

وضع الطلبة في لغة الأم حسب امتحان “البيزا” في الأعوام 2012-2022

(العرب -اللون الليلكي، اليهود- الأزرق، ومعدل الدول المشاركة-البرتقالي) 

مصدر الرسم: تقرير السلطة القطرية للقياس والتقييم (2022)

تسيطر وزارة التعليم الإسرائيلية على التعليم "للعرب" منذ أكثر من 76 عامًا. هي التي تحدد الميزانيات والتعيينات ومناهج التعليم.. إلخ. على الرغم من التحسن الذي طرأ عبر عشرات السنين بسبب عوامل مختلفة كالنضال المستمر لنيل حقوقنا في التعليم والتغييرات الطبقية المتسارعة في مجتمعنا في العقود الأخيرة، واحتياجات سوق العمل والضغوطات الدولية بسبب العولمة وانضمام إسرائيل إلى منظمات دولية أبرزها "منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية" (OECD)، فإن وضع التعليم وجودته في مجتمعنا العربي بقيت في وضع صعب مقارنة مع المجتمع اليهودي (وخصوصًا في التعليم الرسمي والتعليم الرسمي الديني) ومع دول العالم المختلفة، وهي أشبه بوضع التعليم في دول ذيل القائمة التي يسمونها دول "العالم الثالث". تؤكد هذه الحقيقة أن تغيير هذا الواقع يتطلب تغييرًا بنيويًا عميقًا في مكانة التعليم العربي، مبناه، مضامينه وأهدافه، وأن يتحرر من سجن السيطرة والضبط الذي يجعله أشبه بالجسد بدون روح، وأن يتبنى توجهات ومفاهيم جديدة تتماشى مع احتياجات مجتمعنا وإرادته ورغبته وهويته. من هنا جاء المطلب بإقامة مديرية تتمتع باستقلالية داخل وزارة التربية وسكرتارية تربوية للتعليم العربي تمامًا مثل النموذج القائم بالنسبة للتعليم الديني اليهودي الرسمي داخل وزارة التربية بحث يعبر هذا المبنى بشكل حقيقي عن إرادة المجتمع العربي. هذا التغيير لن يحدث وَحده، ويتطلب مبادرة وبناء من "تحت لفوق" لرسم الصورة التي نريدها للتعليم وتحقيق ما نصبو اليه. هذا يتطلب منا عملًا مجتمعيًا عميقًا لبناء قدرات مجتمعنا وتعزيز الشراكات بين مختلف الأطراف والقوى وتحرير وعي معلمينا وأخذ سلطاتنا المحلية دورًا مبادرًا وعميقًا في النهوض بالتعليم، ليس فقط بمفهوم بناء المباني وتقديم الخدمات، إنما أيضًا بمفهوم وضع رؤية وخطط بلدية تتماشى مع أهداف التعليم العربي التي وضعت من قبل المجلس التربوي العربي المنبثق عن لجنة متابعة قضايا التعليم العربي. هذا يتطلب أيضًا مواصلة بناء المؤسسات وتنظيم الأهالي والفاعلين في الحقل التربوي، ورفع صوتنا عاليًا بالمطالبة بحقوقنا المدنية والجماعية والعمل الدؤوب لتعزيز دور لجنة متابعة قضايا التعليم العربي كي تتمكن من القيام بدور أعمق وأكثر تأثيرًا في الحقل التربوي إلى جانب المرافعة والنضال لتحصيل الحقوق. 


[1] تقرير سلطة القياس والتقييم الإسرائيلية حول نتائج امتحان "البيزا" في العام 2022:

PISA-2022-report.pdf (education.gov.il)

التقارير حول نتائج امتحان "البيزا" في الدول المختلفة:

PISA 2022 Results (Volume I) | OECD

د. شرف حسّان

رئيس لجنة متابعة قضايا التعليم العربي ومعلم ومحاضر في كلية التربية "أورانيم"

Shifaa gbareen
بدون أدنى شك أن النتائج ليست مشجعة للأسف الصورة واضحة والتغيير يتطلب مجهود كبير لرفع المستوى على جميع الاصعدة والنهوض بمجتمعنا لأنها مسؤولية كل فرد ينتمي لهذا المجتمع
الأحد 1 أيلول 2024
علي جعيدة
المقال يعكس سياسة الدولة ضد العرب، سياسة فرق تسد، من حيث المساواة بالميزانيات بين المدارس العربية واليهودية، ومن حيث دمج الطلاب اليهود في أطر أكثر اللامنهجية، ومن ناحية كبت الطالب العربي في حرية التعبير عن الرأي المحدودة ذات الخطوط الحمراء...
الأحد 1 أيلول 2024
رأيك يهمنا