إنها الحرب على "الجبهة النفسية": كيف ننجو بأطفالنا وبأنفسنا؟
نجد أنفسنا، في ظل حرب مستمرة منذ أكثر من عشرة أشهر، نواجه تحديات متعددة تضغط على حياتنا اليومية، وتضعنا أمام امتحانات قاسية أحيانًا، وقد نتكبّد تضحيات صعبة أو قد نتصلّب بأفكارنا وقراراتنا! قد نشعر بالضغط والتوتر، وقد نتشتت ونشعر أن الأمور لن تسير كما خُطط لها، وقد نواجه أمورًا غير متوقعة من المحتمل أن تكسرنا، أو نتمسك بأفكار متشائمة وسوداوية ونشعر أنها النهاية! نعطي الأمور حجمًا أكبر مما يستحق ونشعر بثقل كبير... كل هذا وأكثر يؤثر على مناعتنا النفسية والجسدية وقد يؤدي إلى إجهاد سام... تتطلب الظروف الراهنة منا تماسكًا أسريًا وجهودًا خاصة للحفاظ على صحتنا النفسية.
باتت الحياة اليومية معركة تتجسد في كل منزل وتطال الأسر كافة. تعصف الأزمات بالناس، محملةً إياهم ضغوطًا متعددة تشمل الجوانب الاقتصادية، والاجتماعية، والنفسية، مما يهدد التماسك الأسري، ويؤثر على الصحة النفسية للأفراد، وخصوصًا الأطفال.
يتناول هذا الموضوع أهمية دعم الأطفال نفسيًا في مواجهة التحديات، وضرورة الحفاظ على بيئة أسرية مستقرة ومطمئنة على الرغم من الظروف الصعبة. كما يتطرق إلى كيفية تعزيز التماسك الأسري من خلال التواصل الفعال والدعم المتبادل، والتعامل مع الأزمات بشكل جماعي وبناء.
الضغوط الاقتصادية وتأثيرها على الأسرة
في ظل الحرب، يرتفع غلاء المعيشة بشكل كبير، مما يزيد الضغوط الاقتصادية على الأسر ويستنزف ميزانياتها، فيصبح تأمين الاحتياجات الأساسية تحديًا يوميًا يهدد استقرار الأسرة ورفاهيتها. لا يقتصر هذا الضغط الاقتصادي فقط على الجانب المادي، بل يمتد ليؤثر على العلاقات الأسرية، حيث يمكن أن ينشأ توتر بين الأزواج بسبب الصعوبات المالية. يستهلك القلق المستمر بشأن توفير الطعام والمأوى الطاقة النفسية للأفراد، مما ينعكس سلبًا على صحتهم النفسية ويضعف قدرتهم على تقديم الدعم اللازم لأفراد الأسرة، خاصة للأطفال الذين يحتاجون إلى بيئة مستقرة وآمنة.
الضغوط الاجتماعية وتفكك العلاقات الأسرية
تخلق الحرب نوعًا من العزلة الاجتماعية، حيث تقل فرص التواصل مع الآخرين، ويصبح الأفراد أكثر انعزالًا في محاولاتهم مواجهةَ التحديات اليومية. يمكن أن تُضعف هذه العزلة الاجتماعية الروابط الأسرية، حيث يزداد الشعور بالوحدة حتى بين أفراد الأسرة الواحدة. قد يشعر الأطفال، الذين يعتمدون على تفاعلهم مع أقرانهم ومعلميهم بالضياع في ظل غياب هذه الروابط الاجتماعية، مما يزيد من فرص ظهور مشاكل نفسية مثل القلق والاكتئاب.
الضغوط النفسية وتأثيرها على الصحة العقلية
بالإضافة إلى الضغوط الاقتصادية والاجتماعية، يأتي الخوف والقلق كجزء طبيعي من تجربة العيش في ظروف غير طبيعية. أصوات الطائرات والصواريخ، والدمار الذي تخلفه الحرب، والمشاهد الصعبة التي قد يشاهدها الأطفال والبالغون على حد سواء، تخلق صدمات نفسية عميقة. يمكن أن تؤدي هذه الصدمات إلى نوبات من القلق الحاد، بل وحتى نوبات هلع، حيث يشعر الشخص بعدم القدرة على التنفس أو السيطرة على خوفه.
الخوف والقلق وتأثيرهما على الحياة الطبيعية
في ظروف الحرب، يصبح القلق والخوف من الأمور الطبيعية، لكن عندما يتطوران ليصبحا عقبة أمام ممارسة الحياة اليومية، فإن الأمر يستدعي تدخلًا مهنيًا. أصوات الطائرات والصواريخ، أو مشاهدة صور الدمار والخراب، قد تؤدي إلى ظهور استجابات نفسية شديدة تجعل الشخص غير قادر على القيام بأنشطته اليومية المعتادة. الأطفال، بشكل خاص، يمكن أن يتأثروا بشكل كبير، حيث قد يرفضون الذهاب إلى المدرسة أو حتى اللعب، خوفًا من تعرضهم للخطر.
التماسك الأسري في سلم الأولويات
في مواجهة هذه الضغوط المتعددة، يصبح التماسك الأسري ضروريًا كخط دفاع أول. عندما تتكاتف الأسرة معًا، يمكنها أن تخفف من وطأة هذه الضغوط، وتخلق نوعًا من الحماية النفسية لأفرادها. يساعد التواصل المستمر بين أفراد الأسرة، ومشاركة المخاوف والقلق بشكل مفتوح، في تعزيز الروابط الأسرية وتخفيف التوترات. يحتاج الأطفال إلى الشعور بأنهم مفهومون ومحميون، وأن هناك من يستمع إليهم ويهتم لمشاعرهم.
نوبات الهلع والتحديات النفسية والتعامل معها
ما هي نوبات الهلع وكيف تظهر؟
يمكن للشخص أن يدرك أنه يعاني من نوبات هلع نتيجة التوتر المستمر عندما يواجه فجأة مشاعر خوف شديد وغير مبرر، تصاحبها أعراض جسدية مثل تسارع ضربات القلب، وصعوبة في التنفس، والشعور بالدوار أو الغثيان. قد يشعر أيضًا بضغط في الصدر أو ببرودة وعرق في اليدين. إذا كانت هذه الأعراض تتكرر بشكل غير متوقع وتسبب اضطرابًا في الحياة اليومية، فقد تكون علامة على نوبات هلع تحتاج إلى التعامل معها بطرق مهنية.
عند التعرّض لنوبات الهلع، من المهم أن يكون هناك وعي ومعرفة بكيفية التعامل معها. يمكن لأفراد الأسرة تعلم تقنيات التنفس العميق والاسترخاء، التي تساعد في تهدئة الجسم والعقل. كما أن توفير روتين يومي مستقر، حتى في ظل الظروف الصعبة، يمكن أن يمنح الأطفال والبالغين شعورًا بالسيطرة والأمان.
إليك بعض الطرق العملية للتعامل مع نوبات الهلع:
1. تقنيات التنفس العميق: عندما تشعر ببدء نوبة الهلع، حاول التركيز على تنفسك. استنشق ببطء من أنفك حتى تعد إلى أربعة، احبس أنفاسك عدةَ ثوانٍ، ثم ازفر ببطء من فمك حتى تعد إلى أربعة. يساعد التنفس العميق على تهدئة الجهاز العصبي وتقليل الشعور بالهلع.
2. التحكم في الأفكار: حاول التعرف على الأفكار السلبية التي تدور في ذهنك أثناء النوبة واستبدلها بأفكار إيجابية. ذكر نفسك أن هذه المشاعر مؤقتة وأنك ستتجاوزها.
3. التمارين البدنية: ممارسة التمارين البدنية، مثل المشي السريع أو اليوغا، يمكن أن تساعد في تقليل التوتر العام الذي قد يسبب نوبات الهلع. يعزز النشاط البدني إفراز الإندورفينات التي تحسن المزاج وتساعد في تخفيف القلق.
4. تقنية التأريض (Grounding) : عندما تشعر أنك بدأت تفقد السيطرة خلال نوبة الهلع، جرب تقنية التأريض. ركز على الأشياء المحيطة بك، واعتمد على حواسك الخمس لتحديد خمسة أشياء يمكنك رؤيتها، أربعة أشياء يمكنك لمسها، ثلاثة أشياء يمكنك سماعها، شيئان يمكنك شمهما، وشيء يمكنك تذوقه. تساعدك هذه التقنية في استعادة الشعور بالسيطرة.
5. التحدث مع شخص موثوق: إذا كنت تشعر بنوبة هلع، حاول الاتصال بشخص تثق به. التحدث مع شخص قريب يمكن أن يوفر لك الدعم العاطفي ويشعرك بالأمان.
6. تحليل الوضع بعد النوبة: بعد أن تنتهي نوبة الهلع، حاول تحليل الوضع. ما الذي أثار النوبة؟ كيف تعاملت معها؟ يساعدك هذا التحليل على فهم ما يحدث وتطوير إستراتيجيات أفضل للتعامل معها في المستقبل.
7. البحث عن المساعدة المهنية: إذا كانت نوبات الهلع متكررة أو شديدة، فمن الأفضل استشارة مختص نفسي. يمكن للعلاج النفسي، مثل العلاج السلوكي المعرفي (CBT)، أن يكون فعالًا جدًا في التعامل مع نوبات الهلع والتوتر المستمر.
دور التدخل المهني في حالات الصدمة النفسية
في الحالات التي تصبح فيها الصدمة النفسية شديدة، لدرجة أنها تعيق القدرة على ممارسة الحياة اليومية، يصبح التدخل المهني ضروريًا. المختصون النفسيون يمكنهم تقديم الدعم اللازم لمساعدة الأفراد على معالجة الصدمات والتعامل مع الخوف والقلق بطرق صحية. يمكن أن يشمل هذا التدخل إرشادًا أو جلسات علاجية تركز على تقديم إستراتيجيات للتعامل مع التوتر، وتقنيات لتحسين القدرة على التأقلم مع الظروف الصعبة.
دور الدعم الاجتماعي في التخفيف من الضغوط
لا يمكن للأسرة أن تتحمل كل هذه الضغوط بمفردها. في ظل الظروف الصعبة، يصبح الدعم الاجتماعي من الأصدقاء والجيران والمجتمع الأوسع أكثر أهمية من أي وقت مضى. يمكن أن يساعد تشكيل شبكة دعم اجتماعي في تخفيف بعض الأعباء، وتوفير الدعم العاطفي اللازم. يكون اللجوء إلى مختصين نفسيين يمكنهم تقديم المشورة والمساعدة في التعامل مع هذه الضغوط بشكل صحيح أيضًا ضروريًا في بعض الأحيان.
الخلاصة
تضع الحرب الأسر تحت اختبار شديد الصعوبة، حيث تتداخل الضغوط الاقتصادية والاجتماعية والنفسية لتشكل تحديات هائلة. ومع ذلك، يمكن للأسرة المتماسكة أن تجد القوة للتغلب على هذه التحديات من خلال تعزيز التواصل، وتقديم الدعم المتبادل، والتعامل مع الضغوط النفسية بطرق صحية وفعالة.
بفضل هذه الجهود، يمكن للعائلات أن تحافظ على تماسكها وصحتها النفسية، وتساعد أفرادها، خاصة الأطفال، على اجتياز هذه الأوقات الصعبة بأقل قدر من الضرر النفسي.
د. سهراب مصري
محاضرة أكاديمية وباحثة في مجال الاستشارة التربوية- الكلية الأكاديمية في سخنين؛ ومعالجة زوجية أسرية، وسلوكية معرفية (CBT، ومرشدة قطرية في مجال الجنسانبة والتعامل مع الطوارئ