من المطالبة بانسحاب إسرائيلي كامل إلى المطالبة بحياة جيدة للفلسطينيين

يمكن القول إن الحظ بالإضافة إلى التغيرات الجيوسياسية العالمية خدمت الأمير محمد بن سلمان ليرفع الحصار الدولي المفروض عليه بعد التورط في مقتل الخاشقجي و الغرق في الوحل اليمني أيضا، إذ أن الأسواق الأمريكية بالذات كانت بحاجة إلى مزيد من النفط السعودي، مما اضطر بايدن نفسه الذي أعلن أن بن سلمان منبوذ عالميا، اضطر إلى أن يزور الأمير في الرياض وينهي المقاطعة للنظام السعودي، و كانت الحرب الأوكرانية الروسية عاملًا آخر من عوامل كسر الحصار و الضغوط عن الأمير بن سلمان، كما أن سياسة الأبواب المواربة و الانفتاح على العالم و الاقليم التي انتهجها الأمير محمد بن سلمان مع الصين و ايران جعلت منه شخصا محوريا في المنطقة و العالم، فضلا عن انغماس الصناديق السيادية السعودية في شراء أسهم مرتفعة في كبريات الشركات العالمية، و عملت ماكينة الاعلام السعودية دورًا هامًا في تقديم صورة جديدة للأمير شخصيا و للمجتمع و الدولة السعودية عموما، كنظام و مجتمع يتجّه نحو اللبرالية و التجدّد واعادة النظر في السياسات السابقة، و كانت درّة التاج في تلك الجهود لرفع المقاطعة عن الأمير السعودي هو موافقته الضمنية على عمليات التطبيع التي جرت بين إسرائيل و عدد من الدول العربية، فضلا عن موافقة الأمير على خطوات اتجاه اسرائيل تدل على اتجاه جديد و مختلف للمملكة السعودية نحو اسرائيل. 

السياسات الجديدة التي اتخذها الأمير هي سياسات جذرية، تكسر كل التابوهات التي اعتمدها النظام السعودي التي كانت تقوم على الاحتواء و التسوية و عدم المواجهات العلنية و التشدّد في السياسات الداخلية والتزام سياسات الاعتدال القريبة من المحور الأمريكي الغربي عموما، أما الأمير محمد بن سلمان، فمن الواضح أنه يريد تغيير الاتجاه جزئيا وليس كليا، بمعنى أنه لا يمكنه الخروج من إطار النفوذ الغربي الأمريكي بالتأكيد، فالعلاقات بينهما أعمق وأعرق من الظاهر، و لكن الأمير يريد أن يرفع من قيمة و نوع هذا الاتفاق، كما يريد أن ينوع من مصادر اقتصاد بلاده، وأن يستثمر في المستقبل، وأن يربط بلاده بحركة التاريخ المستقبلية، هي خطّة طموحة تحمل معها مخاطر متعددة تتمثل في الانعطاف السريع و الخلخلة الاجتماعية و الثقافية و ضيق الهوامش الجيوسياسية أيضا، فضلا عن الخصوم و الأعداء و التهديدات الحقيقية والمحتملة والمتخيلة أيضا.

يمكن الاستنتاج أن الأمير محمد بن سلمان، ورغم خطواته الملموسة في تحسين العلاقات مع إسرائيل والموافقة الضمنية على اختراقاتها في المنطقة، إلا أنه لم يتخذ بعد الخطوة الاخيرة بالتوقيع على اتفاقية تطبيع نهائية مع إسرائيل وذلك لأسباب فنية قبل أن تكون بداية، وتتمثل هذه الأسباب فيما يلي: 

أولًا: أن اسرائيل لم تقدم أي (تنازلات) للشعب الفلسطيني، لنلاحظ أن إسرائيل فرضت في الإعلام حتى العربي فكرة التنازلات و كأنها تدفع من لحمها الحي و تنسى و تنسي  أنها محتلة لأرض شعب آخر، الحكومة الحالية مستعدة لأن تعلن عن انفراطها ولا تقدم (تنازلات). 

ثم أن الاتفاق مع مثل هذه الحكومة الفاشية هو انجاح لها وتقديم دعم لا تستحقه أصلا فهي لا تخدم تعهداتها وكانت  شرم الشيخ والعقبة خير شاهد على ذلك. وبالتالي، فإننا نعتقد أن الأمير محمد لن يغامر بالاتفاق مع مثل هكذا حكومة. 

ثانيا: ربّما تعتقد السعودية أن بايدن سيفشل في الحصول على تأييد الكونغرس لاتفاق خاص واستثنائي مع  السعودية لأسباب داخلية و انتخابية و امنية ايضا.

ثم إن من الممكن ان لا ينجح بايدن ، فلماذا يتم الاتفاق معه، ثم أن النظام السعودي يفضل التعامل مع الجمهوريين أكثر من الديموقراطيين لأسباب متعددة. 

ثالثا: الأمير بن سلمان لن يغامر بالتطبيع مع إسرائيل، برأينا و نرجو أن نكون على صواب، دون أن يكون هناك ثمن حقيقي لهذا التطبيع، ثمن يشمل تسوية يرضى عنها الشعب الفلسطيني وليس مجرد رتوش أو تجميل للصورة القبيحة أو مجرد امتيازات أو مزايا أو وعود لن تتحقق أو ترتيبات يتم نسفها بعد التوقيع عليها.

لا يمكن، وهذا ما نرجوه وما نأمله، أن لا يقع الأمير فيما وقع فيه غيره من الركون إلى الوعود الاسرائيلية. ببساطة إسرائيل لا تحترم كلمته، فما تسميه ديموقراطيتها بوابة واسعة يستطيع منها جمل النقض والإنكار والتنكر الدخول والخروج كما يريد. 

رابعًا: نعتقد أن الأمير بن سلمان أيضا قد يرغب في اطالة الحوار و التفاوض حول مسالة التطبيع مع اسرائيل ليضمن عدم عودة أو استئناف الضغوط الدولية عليه وحصاره من جديد.

يجب أن نتذكر أن السعودية هي التي طرحت المبادرة العربية عام 2002 عندما تعرّضت لضغوط غربية هائلة على أثر تفجيرات نيويورك، و تضمنت تلك المبادرة تطبيعا كاملا مع إسرائيل شريطة إنهاء الاحتلال للأراضي العربية وقد رفضتها إسرائيل ربما لإدراكها أن هذه المبادرة لم تطرح إلا لخروج السعودية من أزمتها  أكثر من رغبتها في حلّ الصراع الفلسطيني الاسرائيلي، و لهذا نجد هذا اليوم و بعد أكثر من عشرين عامل الردود الاسرائيلية على مطالب الأمير بن سلمان والمتمثلة في تطبيع مجاني لا يشمل (تنازلات) للفلسطينيين رغم أن ما طالب به الأمير إعلاميا على الأقل هو حياة جيدة للفلسطينيين ليس إلا.

والحقيقة أن الفرق بين عامي 2002 و 2023 أن العام الأخير يشهد ضعفا كبيرًا في العالم العربي إلى درجة أن إسرائيل لا تخشى ضغطا أو تهديدا و بالتالي فأنها تقول بكامل الوضوح و الصراحة والوقاحة أيضا أنها لن تقدم شيئا مقابل العلاقة مع السعودية.

عشرون عاما مضت، شهدت أوضاعا و تغيرات أضعفت الدولة القطرية العربية وفككت الشعوب العربية وعمقت من الفراغ الأمني والاستراتيجي في المنطقة العربية و في المقابل شهدت صعودا في نفوذ كل من اسرائيل وايران وتركيا. وتحوّل التطبيع أو العلاقة مع إسرائيل و كأنها طوق نجاة أو بوابة عبور للرضى والحماية والشرعية، وفي هذا قصور في النظر وفي الرؤية. 

نحن كفلسطينيين، و بصورة مبدئية فإن كل علاقة عربية إسرائيلية لا تضمن حقوقنا وحمايتنا دولتنا ونهاية للاحتلال فهي علاقة تزيد من أعبائنا وتقلّل من هوامش حركتنا وتقوي محتلنا وتشرعنه وتخفف عنه، إن كل علاقة عربية إسرائيلية لا تضمن لنا الحرية و الانعتاق من الاحتلال هي علاقة قد تكون في مصلحة  طرفي المعاهدة بشكل مؤقت، ولكنها بالتأكيد لن تكون في صالحنا على الاطلاق.

العلاقة مع إسرائيل، وبغضّ النظر عن الأراء الخاصة بنا أو بغيرنا، يجب أن تدفع كامل استحقاقاتها، وهي إنهاء الاحتلال، واقامة دولة فلسطينية حرّة و مستقلة، و بدون ذلك فإن المنطقة العربية بكل شعوبها ستدفع ثمن غياب الدولة الفلسطينية.

د. أحمد رفيق عوض

رئيس "مركز القدس للدراسات المستقبلية" في جامعة القدس

شاركونا رأيكن.م