مَنْ أَخْبَرَ الإِعلامَ العربيّ أَنّ الإِنسان الفلسطينيّ هو "سوبَرمان" نيتْشَه؟
في متابَعَتي كيفيّاتِ تَغطية القَنوات الإخبارية العربية دُخولَ اتّفاق وقف إطلاق النار في غزة، استفزّني تقريرٌ أَعدّته إحدى تلك القنوات، إذ جاء وكأنّه يُلقّن الغزيين دروسَ انتصارِهم، رغمَ حقيقة الإبادة الجَماعية التي لاحقتهم مدّة خمسةَ عَشر شهرًا.
استخدمَ التّقرير لُغة جَزِلة وفصيحة، وجاء مُعدّه وكأنّه يؤكّد فيه على هامشيّة كلّ ما مرّ به الغزّيون من قتل وتشريد وتجويع ودمار وغيرها مِن أشكال العَذابات الأُخرى طالما أنّه بحسب لغة التقرير "لا رايةً بيضاء رُفِعَت"!
لم يَكن هذا التقرير الوحيدَ الذي تُنتجه قناة عربية ويجيء ليُؤَسطِر مَشهد خُروج الغزّيين مِن حَرب الإبادة ويُملي عليهم مَفاهيم الهَزيمة والانتصار، فخلال الشّهور الطويلة لحرب الإِبادة، كانت هناك الآلاف مِن التقارير والفيديوهات والمَقاطع البصرّية التي تعمّدت التّعامل بانتقائية واضحة مع مَشهد المَقْتَلة التي يتعرّض لها الغزّيون، فقد كانت حَريصة على أَسطَرة صُمودهم، عَبر قَصر الحديث عن مظاهر هذا الصمود بعيدًا عن غيرها مِن مَظاهر المُعاناة الهائلة التي يتعرّضون لها.
يَنزِع هذا المَيل الإعلامي العربيّ نَحو أَسطَرة صمود الفِلسطينيين -عمومًا- والغزيّين –خصوصًا- عن الإنسان الفلسطينيّ إنسانيّته، ويجرّده منها، ولا يكتفي بهذا فقط، إنّه يسلب مِنه حقّه في الصراخ الاعتراضي على المجازر الّتي يتعرّض لها، ويَمنع عنه استخدام الوسائل التعبيرية التي يعبّر فيها عن سخطه وملله وتَعَبه وغيرها من المشاعر الإنسانيّة المشروعة.
هذا المَيل الإعلامي العربي نحو أَسطَرَة الفلسطينيين، وتصويرهم بطيور العنقاء التي يجب أن تَخرج من رمادها كلّما أحرقتها نيران مَقْتَلة أو إبادة؛ هو تصوير يُكرّس صورتهم عند الأجيال العربيّة كبشر خارجين مِن إطار اللّحم والدمّ، وعليهم أن يصمدوا إلى المالانهاية على أَرضهم، حتى لو أُبيدوا جميعًا عن بكرة أَبيهم.
هذا التكريس هو ما يُمكن رصد مَظاهره عند مُلاحظة بعض التعقيبات لأفراد عرب على كلّ صوت من غزة خرج إبان المَقْتلة ليعبّر عن سخطه وامتعاضه وأَمانيه في انتهاء المَقْتلة التي يتعرّض لها، حيثُ كانت تَأْخذ على هذا الغزّي تجرُّؤه على التّعبير عن مظاهر تَعَبه، وتدعوه إلى مَزيد مِن التحمّل والصّبر، حتّى لو انتَفَت عنه كلّ مقوّمات العيش، وبات لا يَملك منها حتى الحدود الدنيا.
إنّ التشبيهات المَجازيّة التي يدأَب الإعلام العربي على استخدامها في وصف الإنسان الغزّي والفلسطيني، وينعته فيها بأنّه الإنسان الأُسطورة أو طائر العنقاء أو أَيوّب الأزمان كلّها، هي تشبيهات تَعمل على تكريس صورة الفلسطيني الأسطورة في ذهنيّة الأجيال المتلقيّة، وتُنسيها واجِبها الأَخلاقي اتجاه هذا الإنسان، فكأَنّ الأَسطرة تُقدّم الفلسطيني بصورة "سوبَرمان" نيتشه، الذي يَحضُر بصِفَته إنسانًا خارقًا، عليه أن يُنقذ العالَم دون أن يُفكّر أَحدٌ في إنقاذه.
يُمكن اعتبار هذه التّشبيهات نِظام سُلطة لُغوية، تُمارس هَيمنتها الرمزيّة على عقول المُتلقّين، فتصوّر لهم الفلسطيني بمظهر أسطوري مُعيّن، كذلك الأمر بالنسبة للمادة البصريّة التي تَعمد إلى تصوير الفلسطيني بهذا الشّكل الأسطوري نفسه، فهذه الصورة هي نظام سُلطة بصريّة، تُقدَّم لتفرض على عقول المتلقّين ما يُسمَح لهم برؤيتهم من حياة الفلسطينيين، فهي تُماِرس على عقولهم جَبَروتها الرمزيّ، وتصوّر لهم ما ترغب في تقديمه باعتباره حقيقة مُطَلقة، فالفلسطينيون من وجهة نظرها هم الذين تقتصر صفاتهم على الصّمود والشموخ والعزّة والإباء، والذين لا يحقّ لهم أن يتألّموا أو يشعروا بالوجع والقهر والمعاناة.
في كلّ تقارير الأسطرة التي خَرَجت لتغطي خروج الغزيّين من الحرب، ولتصوّرهم بالكثير من التّصاوير القادمة من عالَم الأساطير، كنتُ أسأل نفسي: أَلَم تكن أَسطرة الغزيّ جزءًا من شَرْعنة إبادته؟ وأليس مِن حقّ الشعب الفلسطيني كاملًا أن يقدّم عرائض احتجاجية على كلمات الأغاني التي تُؤَسطره وتُصرّ على تصويره بأنّه "جَبَل المَحامِل"؟!
الصورة: للزميل الصحافي هاني الشاعر.
إسراء عرفات
كاتبة وباحثة من نابلس. خرّيجة قسم العلوم السياسيّة في جامعة النجاح الوطنيّة، وحاصلة على الماجستير في التخطيط والتنمية السياسيّة من الجامعة نفسها. مهتمّة بقضايا الفكر والفلسفة، وتكتب في عدد من المنابر الفلسطينيّة والعربيّة