إسرائيل في زَمَن الحَرب: لا صَوت يُغرّد خارجَ السِّرب
![](/images/large/RyT4qh4HyAVUcFwkBXUZYDFXmLB6t9ULUCp3J8lw.jpg)
لم تَقتَصر الحَرب المَجنونة التي شنّتها إسرائيل على قطاع غزة في أعقاب هُجوم السّابع من أكتوبر، الذي نفّذته حركة "حماس"، على تدمير آلاف المَنازل والبنى التحتيّة، بل امتدّت لتدمير مئات الآلاف منها، وقتل نحو 50 ألف مواطن غزّي وجرح أكثر من 100 ألف آخرين، هذا دون احتساب من ما زالوا عالقين تحت الأنقاض، ما يجعل هذه الأرقام مرشّحة للارتفاع بشكل كارثيّ. وإلى جانب القتل والدمار، أُجبر نحو مليونيّ غزّي على التشرُّد المتكرّر إلى أماكن وُصِفت بأنّها آمنة، لكنّها في الواقع كانت أبعَدَ ما تكون عن الأمان. فقد رأينا كيف يحترق النّاس داخل الخِيام، وتجرّف مياه الأمطار ما تبقّى مِن ممتلكاتهم، فيما يفتِكُ البَرد القارس بالأطفال، وتنتشر الأمراض نتيجة شحّ الخدمات الصحيّة وتدمير البنى التحتيّة كشبكات الصرف الصحيّ وجَمع النفايات. كلّ هذا جَعل الموت شبحًا يُلاحق سكان غزّة في كلّ مكان وزمان، دون فسحة للهدوء، على مدار خمسة عشر شهرًا متواصلة.
لكنّ وقع الحرب لم يتوقف عند حدود قطاع غزة. لقد طال الشعب الفلسطيني في كلّ أماكن تواجده، في الضفة الغربية، والقدس، والشتات، وحتى داخل أراضي 48، وإن كان بأشكال مختلفة. كان أبرز هذه الأَشكال هو الشعور الجماعي بالعَجز الذي خيّم على الفلسطينيين أثناء مُشاهدتهم هذهِ المذبحة المستمرّةدون القدرة الفعليّة على التحرّك أو إعلاء صوت مسموع يطالب بوقف هذا الجحيم المُستَعر. سلّطت هذه المأساة الضوء على دور الإعلام المحلي في الداخل الفلسطيني، الموجّه بالأساس إلى المواطنين العرب الفلسطينيين داخل إسرائيل، وكيفيّة تعاطيه مع هذه المشاهد المروّعة التي تتجاوز قُدرة البشر على الاستيعاب، وتولّد غضبًا عارمًا ورغبة ملحّة في التحرّك لإنهاء شلّال الدّم.
الإِعلام المحليّ في الداخل الفلسطيني: بين القَيد والرّقابة
يُعاني الإعلام في الداخل الفلسطيني واقعًا مركبًّا ومعقدًا، يعكس واقع الفلسطينيين أنفسهم. فهو ينقسم إلى أقسام عدّة: إعلام إسرائيلي ناطق بالعبرية، وآخر إسرائيلي ناطق بالعربية، وقِسم صغير مستقلّ تعود ملكيّته لمواطنين عرب فلسطينيين، لكنه يخضع بدوره لرقابة صارمة من السّلطات الإسرائيلية. مع اندلاع الحَرب على غزة، لم يَسلم الإعلام، سواء الأجنبي أو المحليّ، من موجات التّحريض والتّرهيب التي قادها وزراء الحكومة الإسرائيلية مدعومون بشارع إسرائيلي موحّد خلف دعوات القتل والتدمير. كلّ صوت طالب بوقف الحرب أو أبدى تعاطفًا مع ضحاياها، حتى لو كانوا أطفالًا أبرياء، وُصف بأنه "خائن" أو "مؤيد للإرهاب"، وتعرّض للتحريض المُمنهج.
الإعلام الإسرائيلي، بدلاً من لعب دور مُحايد أو عقلاني، انخرط بقوّة في دعم الحكومة، محرضًا على إصدار قوانين تقيّد حرية التعبير. لم يكن هذا التحريض لم مجرّد كلمات؛ فقد تُرجم إلى واقع عبر قوانين تحظُر عمل قنوات مثل "الجزيرة" و"الميادين"، وتقييد عمل قنوات أخرى بدعوى دعم الإرهاب. لم تسلم قناة "مساواة" الفضائيّة، التي تأسست عام 2015 لتكون منصّة للمجتمع العربي الفلسطيني داخل إسرائيل، من هذه الهَجمة. على مدار عشر سنوات، لعبت القناة دورًا محوريًّا في تغطية قضايا العرب في الداخل، بدءًا من قضايا الأرض والمَسكن، مرورًا بالعنف والجريمة، وانتهاءً بمواجهة التمييز والتحريض والعنصرية المتزايدة مع صعود اليمين الفاشي في إسرائيل وسنه قوانينَ مثل قانون القومية.
التّحريض والرقابة: كَبح الأصوات الحرّة
مع بدء الحرب الأخيرة، اشتدّت الهَجمة على قناة "مساواة"، كما على غيرها من وسائل الإعلام المستقلّة. فالمؤسسة الإسرائيلية، بكلّ أذرعها، عملت على إسكات كلّ صوت لا يقرع طبول الحرب. أيّ تعبير عن التعاطف مع الضحايا كان كافيًا لفتح تحقيقات أو اعتقالات. وفعلاً، بدأت حملة شرسة من الاعتقالات والتحقيقات طالت ناشطين وصحافيين وحتى مواطنين عادييّن لمجرد نشرهم آراء عبر وسائل التواصل الاجتماعي تعارض الحرب أو تدعو لوقف القتل.
في مواجَهة هذا الواقع، اضّطر الإعلام المحليّ إلى تعديل أولوياته. باتَ تركيزُه ينصبّ على متابعة موجة التّحريض التي يتعرّض لها المواطنون العرب، وتسليط الضّوء على قضايا المعتقلين والضغط من أجل حمايتهم. قناة "مساواة"، على سبيل المثال، بدأت تغطية الحرب في أسابيعها الأولى، مسلّطة الضوء على النشاطات الاحتجاجية في الداخل الفلسطيني. لكن مع تصاعد موجة التّحريض ضدها، اضطرت القناة إلى وقف تغطياتها المُباشرة للحرب، خشية أن تتحوّل إلى هدف مباشر للحكومة والشارع الإسرائيلي المتطرّف.
الإعلام بين التحدّيات والفُرص
إن التحدّيات التي يواجهها الإعلام المحليّ الفلسطيني في الدّاخل ليست جديدة، لكنّها باتت أكثر تعقيدًا مع الحرب الأخيرة. في ظل هذه الظروف، يصبح الإعلام أكثر من مجرّد ناقل للخبر؛ إنه وسيلة لتعزيز مقوّمات الصمود. الإعلام الحرّ هو جزء لا يتجزأ من معركة الفلسطينيين للدفاع عن وُجودهم وهويّتهم، في وجه محاولات طَمسها أو تشويهها. ورغم التحديات، يظل الأمل قائمًا في أن يواصل الإعلام المستقلّ لعب دوره كمنبر لصوت الفلسطينيين، وكشاهد على الجرائم التي تُرتكب بحقّهم، وكأداة للمطالبة بالعدالة في زمن يسوده الظلم.
![](/images/small/vohGbsY4G8QDs6xHzC5Y7qFV3eKQLDFOgbVw0RQy.jpg)