حَرب غَزة: الإعلام الغربي يَسير "الحيط الحيط"!

السابع مِن أكتوبر 2023، حدثٌ إخباريٌ ضخم، تُضاهي قيمته الإخباريّة أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001. وسائل الإعلام الأجنبية تسابقت لنقل ما وصفته بهجوم "حماس الإرهابي" على المدنيين الآمنين في "بلدات غلاف غزة" في تبنٍ كامل ومسبق للرواية الإسرائيلية ومُصطلحاتها.

شاهد العالم أحداث السابع من أكتوبر من خلال عدسة المحرّرين في غرف الأخبار العالمية الذين سقطوا في أول اختبار لمهنيّتهم ومدى التزامهم بالمعايير التحريرية الدولية، التي تنص على عدم الانحياز، والدقّة، والموضوعية والتحقّق من المعلومات قبل نشرها. لقد غلب "الصّواب السياسي" في غرف أخبار الإعلام العالمي على "الصواب التحريري"، وسار المحررون والمراسلون وفق مقولة "الحيط الحيط" خوفًا من اتهامهم بمعاداة السامية بمجرد سردهم الحقائقَ والوقائع التي سبقت السابع من أكتوبر، وتلك التي تلته بشن إسرائيل حربَ إبادةٍ على قطاع غزة.

فُرصة لتثقيف الذّات

مارَس بعض الإعلاميين الغربيين، وعن قَصد، الرقابة الذاتيّة وجَنحوا للرواية الإسرائيلية واستخدام المصطلحات التي تجنّبهم انتقاد إسرائيل. أما آخرون فقد كان هذا ناتجًا عن جهل بالقضية الفلسطينية، فقد بدأ تاريخ الصراع مع إسرائيل بالنسبة لهم فقط يوم السابع من أكتوبر.

ولعل المقابلة التي أجراها بيرس مورغون لصالح قناة "توك تي في" البريطانية  مع السّفير الفلسطيني في لندن حسام زُملط، والتي بدأت بسؤال السفير "هل تُدين حماس؟" خَير مِثال على الجَهل، سواء عن قَصد أو غير قَصد.

برأيي، إنّ نتيجةَ سؤاله الذي أَراد فيه استِرضاء إسرائيل، وإحراج السّفير زُملُط، جاءَت على عَكس ما كان يَسعى له. لقد سَمَح هذا السّؤال للضّيف أن يستطرِد في ردّه حَول تاريخ القضيّة الفلسطينية الذي بدأ باحتلال عام 1948 إلى يوم السابع من أكتوبر وما بعده، حيث دَعاه زملط لتثقيف نفسه ومعرفَة التاريخ. الحق يقال، إن هذه الدّعوة أَتَت ثِمارها حيث كان مورغون أكثر ثقافة وعِلمًا بالقضية الفلسطينية عندما أجرى لقاء مع الكوميدي المصري الدكتور باسم يوسف.

الفِلسطيني الميّت والإسرائيلي القَتيل

مورغون الذي يُعتبر صحافيًّا مخضرمًا، هو مجرد مِثال لنظرائه الذين انساقوا للرّواية الإسرائيلية، ومنهم مَن آمن بأكاذيبَ ونَشَرها دون التحقّق منها مثل التي تتحدّث عن قطع رؤوس الأطفال واغتصاب النساء مدبّر وغيرها.

مع مرور الشّهر الأول لحرب الإبادة على غزة، أصبحت القيمة الإخبارية لأحداث السّابع من أكتوبر لا تساوي القيمة الإخبارية للجرائم التي يرتكبُها الاحتلال في غزة، فبدأ الإعلام الغربي بتغطية أوسع للحرب، لكنه بقي يسير "الحيط الحيط" وبطرق احتياليّة جاءت على شكل التلاعب بالمصطلحات والكلمات.

فبينما وصفَت كثير من وسائل الإعلام الأجنبية الفلسطينيين على أنهم "أموات"، جاء وَصف الإسرائيليين بأنهم "قتلى". وبينما لم تتم الإشارة إلى مَن أدى إلى "موت الفلسطينيين" باستخدام الفعل المبني للمجهول، كانت وسائل الإعلام الأجنبية تؤكد دائمًا "مقتل الإسرائيليين على يَدِ الفلسطينيين". فمثلا يكون العنوان الرئيس المتعلق بالفلسطينيين “35 Palestinians Die in Gaza” بينما المتعلّق بالإسرائيليين “3 Israeli civilians killed in a Palestinian terrorist attack”.

هذه العناوين هي غيض من فيض الأمثلة على ازدواجية المعايير التحريرية، التي رافقتها ازدواجية في تصديق الرواية الفلسطينية، حيث كانت الرواية الإسرائيلية تؤخذ على أنها معلومة مسلّمة بها، أما المعلومة الفلسطينية فهي مشكّك بها وعلى الفلسطينيين دائمًا أن يثبتوا صحّتها. ولعل أبرز مِثال على ذلك، قائمة الفلسطينيين الذين قتلتهم إسرائيل أو التي أصدرَتها وزراة الصحة الفلسطينية في غزة نهاية شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2023.

الغريب في الأمر، أن وسائل الإعلام الأجنبية طالما اعتمدت على مصادر موثوقة في قطاع غزة، وخاصة الصحافيين المهنيين الذين عملوا معها سنواتٍ طويلة، وكانوا محلّ ثقة ومصداقية عند الاعلام الأجنبي عندما كان الأمر يتعلّق بانتهاكات حركة "حماس"، إلا أنه وسبحان الله، لم يَعُد هؤلاء مصدر ثقة عندما يتعلق الأمر بجرائم إسرائيل. والأدهى من ذلك، بعض المؤسسات الإعلامية العالمية التي فصلت، ودون إجراء أيّ تحقيق شفاف، بعض مراسليها ومصوّريها بمجرد أن اتهمتهم إسرائيل بالعلم المسبق أو المشاركة بأحداث السابع من أكتوبر.

وسائل التّواصل الاجتماعي

مع انتشار المحتوى الذي يُنتجه المستخدِمون User-generated content)) على وسائل التواصل الاجتماعي كبديل للمعلومات التي ينشرها الإعلام التقليدي أو وسائل الإعلام الرئيسة، لم يعُد بالإمكان تجاهل ما يَحدث. فقد لَعِبت وسائل التواصل الاجتماعي دورًا كبيرًا ومؤثرًا في الحرب على غزة، سواء في توثيق الأحداث أو نشر الروايات المختلفة أو التأثير في الرأي العام العالمي، فالملايين التي خرجت في لندن -على سبيل المثال- لم تَخرج بناء على ما كانت "بي بي سي" أو "سكاي نيوز" تبثّه من معلومات، بل نتيجة المشاهدِ التي نشرت في وسائل التواصل الاجتماعي موثِّقة الدمار والقصف والانتهاكات والجرائم التي يتعرض لها الفلسطينيون، مما أثر في وعي الناس حول العالم بالقضية الفلسطينية، وأظهر تضامنا عالميًّا غير مسبوق وتبنٍ للرواية الفلسطينية باستناد إلى الحقائق.

ونظرًا لهذا التأثير، حاربت شركات منصّات التواصل الاجتماعي المحتوى الفلسطيني من خلال الرّقابة والحذف، ما يثير تساؤلات حول انحيازها لصالح إسرائيل وتواطؤها. إلا أن صنّاع المحتوى وجدوا طرقًا مختلفة ومبتكَرة للالتفاف على الرقابة والحدّ من عمليات حذف المحتوى، فكانت لهم الريادة.

تعلّموا مِنّا

لطالما تعامل الغَرب من الإعلاميين الفلسطينيين على أنهم متلقّون للعلم والتدريبات من الإعلاميين الأجانب، ولطالما تباهوا بالمعايير المهنيّة التي رسبوا بتطبيقها في أول اختبار جدّي.

اليوم، استطيع القول وبكل ثقة، إن الإعلاميين الفلسطينيين مدرسة بحدّ ذاتها، وخاصة الزملاء والزميلات في غزة، وعندما تفتح أبواب غزة لاستقبال الإعلاميين الغربيين، أدعوهم للتعلّم في مدرسة الإعلام الفلسطيني.

وليد بطراوي

إعلامي فلسطيني، من رام الله يقيم حاليًا في كندا. حائز على جائزة "ناتالي" للصحافة العالمية لعام 2003 التي يقدّمها الاتحاد الأوروبي عبر الاتحاد الدولي للصحافيين سنويًا لصحافيين تميّزوا في الكتابة حول حقوق الإنسان، الديمقراطية والتنمية. يعمل حاليًا مدربًا ومستشارًا في مجال الإعلام والاتصال وهو عضو في المجلس التنفيذي لمعهد الصحافة الدولي. عمل سابقًا مراسلًا لإذاعة "بي بي سي" القسم العربي، ومراسلًا لـ "الجزيرة" الإنجليزية في فلسطين.

رأيك يهمنا