اللّغة والإِدراك: حَول "تَجنيد" المُصطلحات في الحَرب على غَزة
لَعبت اللغة المُستخدمة في تغطية العدوان والحُروب والمُقاومة دورًا حاسمًا في تشكيل وعي الجمهور والسرديّات السياسيّة في الحرب على غزة، حيث تختلف وسائل الإعلام الإسرائيلية والفلسطينية والدولية في استخدام المُصطلحات بما يعكِس وجهات نَظَرها وأَجنداتها. كما تُؤثر هذه الاختلافات الّلغوية على إدراك الجمهور طبيعةَ الصراع وأطرافه وأبعاده.
في هذه المقالة، نناقش الفُروق بين تلك المصطلحات وأثرها على تأطير أحداث العدوان، مع التركيز على عيّنات من مختلف الولاءات والجوانب، مثل "وقف إطلاق نار مستدام، هُدنة، وشهيد"، وغيرها، لتحليل كيفية توظيف اللغة في بناء الروايات الإعلامية في ظلّ العدوان الأخير على غزة.
الإِعلام الإسرائيلي: الأَمن والهوية الوطنية
يركّز الإعلام الإسرائيلي في تغطيته الحربَ على غزة على حماية ما يسميه "الأمن القومي، والدفاع عن المدنيّين الإسرائيليين". وتُستخدم مصطلحات مثل "إرهابيّين" أو "منظمات إرهابيّة" "وحوش" لتوصيف "حماس" والجماعات الفلسطينية الأخرى، لشَيطنة هذه الفصائل، بينما توصف العمليات العسكريّة بأنها "دفاعيّة" أو "ردعيّة"، وتُطلق عليها أسماء مختلفة لتعكس الطابع الوقائي المَزعوم لتلك العمليات.
ويَبرز مصطلح "وقف إطلاق نار مُستدام" في النّقاشات الإسرائيلية حول فترات التهدئة، حيث يُطرح كشرط أساسي لأيّ تهدئة طويلة الأَمد لضمان أمن المستوطنات والمدن الإسرائيلية وتفادي مصطلح وقف إطلاق النار، إعمالًا لموقف رئيس الوزراء واليمين الإسرائيلي القاضي باستمرار العدوان. أما الخَسائر في صفوف المدنيّين الفلسطينيين فيُشار إليها غالبًا بـ "أضرار جانبية" أو يتم تحميل مسؤوليتها لـ "حماس" باستخدام مصطلحات مثل "الدّروع البشرية"، "معسكرات في المستشفيات والمَدارس" مما يَنقل المسؤولية عن القتل والتدمير من الجانب الإسرائيلي إلى الفلسطيني.
كما تركّز التغطية الإسرائيلية والفلسطينية أيضًا على تصوير قدرات "حماس" العسكريّة وتضخيمها، حيث تُبرز تقارير مثلًا اقتحام المُستوطنات والسيطرة على دبّابة كأمثلة على خطورة التّهديد. في حين يَستَخدم الإعلام الإسرائيلي، صور عجائز ومدنيّين مأسورين للإشارة إلى الوحشيّة المَزعومة للفصائل الفلسطينية.
ومع ذلك، هناك مصطلحات أخرى استُخدمت لتضخيم قُدرات المقاومة، مثل أسلحة فُرط صوتيّة وقدرة استخباراتية. على سبيل المثال، تداول فيديو نقل طائرات حربيّة على شاحنات يمكن اعتباره جزءًا من حملة إعلامية لـ "حماس" تهدف إلى إظهار قوتها العسكرية وتعزيز روايتها القتاليّة أمام الجمهور الفلسطيني وإظهار خوف أعدائها.
ورغم ذلك، فهنالك الكثير الكثير من الجرائم التي لم يتم توثيقها أو تصويرُها ونُفّذت بدم بارد بحق عائلات فلسطينية وأطفال، وخير دليل أنه في اليوم الأول والثاني من الهدُنة التي دخلت حيّز التنفيذ، تم انتشال أكثر من مئة جثة متحلّلة في مدينة رفح لا يُعرَف شيء عن ظروف قتلهم، منهم أطفال ونساء وعائلات، وقد منَعَت آلة الحرب الإسرائيلية الصحافة من وصول منطقة رفح كمنطقة عسكريّة مغلقة لتمارس الإبادة بعيدًا عن عين الإعلام وبعيدًا عن أي مساءَلة مستقبلية، وهذا ما حدث خلال أيام عديدة وقت الحرب وفي مناطق عديدة من قطاع غزة.
الإِعلام الفلسطيني: المُقاوَمة والاحتلال
ركز الإعلام الفلسطيني على تصوير المعاناة اليومية تحت الاحتلال والحصار، مع إبراز المُقاومة كحقّ مشروع للشعب الفلسطيني، وبطبيعة الحال تُستخدم كلمة شهيد لوصف الضحايا الفلسطينيين، ما يَمنحهم رمزيّة دينية ووطنية خاصة. العمليات الإسرائيلية غالبًا ما تُوصف بـ "عدوان"، "مجازر"، أو "جرائم حرب"، لإبراز حجم المعاناة والدمار، وقد برز استخدام مصطلح "التّطهير العِرقيّ" كواحدة من تجليات الجهد القانوني الفلسطيني الذي أثمر قرارًا من المحكمة الجنائية الدولية التي استجابت لدعوات بدراسة احتمالية ارتكاب الاحتلال جريمةَ "التّطهير العرقي". وبرز كذلك ضَعف التركيز على استهداف الاحتلال المؤسساتِ التعليمية والدولية الإغاثية بقدر ما ركز على رموز كمستشفيات الشفاء والمعمداني.
كما غاب كذلك التّوظيف الكافي للمادة الإعلامية الإنسانية حول المرأة لصالح التركيز على معاناة الأُسرة والأطفال والعموم، حيث تمّ التركيز على "عائلات مُسِحت من السّجل المدني" ونُشرت صور جماعية استشهد كلّ من فيها على مراحل تحت عنوان "اكتملت الصورة"، وهو أمرٌ طغت عليه بلاغة الصياغة على حساب التركيز على الحرمان من الحقّ في الحياة، وفي الوقت ذاته قلّ توظيف المصطلح المسيحي الفلسطيني في الإعلام الفلسطيني من ناحية المعاناة الإنسانيّة للمكوّن المسيحي، وذلك لصالح التركيز على حقّ الحياة كأولويّة.
كما برز ضَعْف التّركيز الإعلامي الفلسطيني على جُرأة الاحتلال على التّوثيق الذاتي بالفيديو للجرائم والانتهاكات وتحدّي القانون الدولي، وضَعف التركيز على مطالبة المجتمع الدولي بالمساءَلة، وبالتالي ضَعف التركيز على محاولات الاحتلال أنسَنَةَ جرائم التدمير كما حدث مع الجنود الذين أهدوا نسف البيوت الفلسطينية لأحبائهم، فمرّ الأمر كمحاولة تظهر الجريمة كعمل إنساني دون ردّ إعلامي كافٍ.
أمّا الفَصائل المسلّحة فتُوصف بأنها "المقاومة" و"جنود الرب" دون إدراك ارتباط ذلك بالفهم الغربي بما سمي "جيش الرب" في أوغندا، لتأطير عملياتها كجزء من النّضال الوطني. ووقت دخول المستعمرات، طرح الإعلام الفلسطيني مُصطلحات، ربما لرفع المعنويات، لكن تم استغلالها لتضخيم، فتبرير تدمير المقاومة، حيث طَرَح الإعلام الفلسطيني مصطلحات مثل: "العائدون من المَعركة" و"تَبديل قوّات" كأمثلة على نجاح استراتيجيات المقاومة في مواجهة التفوّق العسكري الإسرائيلي، وطبعًا استغلها الاحتلال لعرض العدوان كحرب بين جيشين متكافئين.
بالإضافة إلى ذلك، مِن المآخذ على الإعلام الفلسطيني ضَعف التّركيز على قضايا مثل مَنع الاحتلال الأمم المتحدة ومسؤوليها مِن العمل، وتجنّب الحَديث بما يَكفي عن براءة وكالة "أونروا" بقدر يعادلُ تغطية المَزاعم ضدها والتي ظَهَر زَيفُها.
الإِعلام العربي وإِعلام المُقاومة: تَركيز على تَضخيم القوّة العسكرية
يلعب الإعلام اللبناني، خاصة المُرتبط بـ "حزب الله"، دورًا كبيرًا في إظهار المُقاوَمة كقوة إقليمية قادرة على مواجهة التفوّق الإسرائيلي. يُستخدَم مُصطلح "أسلحة فُرط صوتية" و"قدرة استخباراتية" لتضخيم صورة قوّة المقاومة العسكريّة. تُنقل هذه المصطلحات ضمن سياق إعلامي يسعى إلى إثبات أن المقاومة في اليمن ولبنان وفلسطين ليست مجرّد فصائل، بل قوة إستراتيجية قادرة على تهديد إسرائيل وردعها بشكل مُباشر، بل إنها عَرَضت نفسها كقوة تكافئ وتضرب أساطيل عسكرية وحاملات طائرات.
الإِعلام الدولي: الحِياد الظاهريّ وتجنّب القضايا الحسّاسة
يُحاوِل الإعلام الدولي الظُهور كَمَن يقدّم تغطية متوازنة، لكنّه غالبًا ما يعكس روايات طرف الاحتلال في الصراع دون تحليلٍ معمَّق للسياقات، حيث تُستخدم مصطلحات مثل "جماعات مسلّحة" أو "فصائل مقاومة" و"نزع سلاح" و"تفكيك كتائب" و"تقليص مخزون الصواريخ" لنزع الشرعية عن مِحور المقاومة ووصف "حماس" و"الجهاد الإسلامي" في تحيّز واضح. كذلك تغيب تسمية الاحتلال فنَجِد خبرًا مِثل "قَتْل ١٢ فلسطينيًا" لكن مع إبقاء الخَبَر مبنيًا للمجهول دون ذكر الطّرف القاتل، والعكس صحيح، مع تغيّر الأطراف، فنجد خبرًا مثل "صواريخ حماس تقتل كذا".
كما توصف العمليات الإسرائيلية بـ "غارات جوية" أو "عمليات عسكرية"، بينما يركّز الإعلام الدولي على عدد الضحايا دون تفاصيل إضافية إذا كانوا فلسطينيين. ومع ذلك، يُنتَقَد الإعلام الدولي لاعتماده على المصادر الرسميّة الإسرائيلية دون التحقّق الكافي، مما يؤدي في كثير من الأحيان إلى نقل الروايات كما هي دون مُساءَلة.
أما في ما يخص التقارير عن الإبادة الجماعية والتّطهير العرقيّ، فقد تجنّب الإعلام الدولي تناول هذا الموضوع كفاية رغم تقارير دوليّة موثوقة وواضحة من مؤسسات دوليّة مثل المحكمة الجنائية الدوليّة التي أشارت إلى احتمال ارتكاب جرائم إبادة جماعية، بل تجنّب كذلك تصريحات الاحتلال التي تنزع الشرعيّة عن المحكمة الجنائية الدوليّة. كما تجنّب الكثير من الإعلام الدولي الإشارة إلى تقارير تفنّد الرواية الإسرائيلية عن الأطفال مقطوعي الرؤوس، على الرغم من وجود العديد من التقارير التي أكدت المبالغات الإسرائيلية في هذا السياق.
أما في ما يخصّ الدبلوماسيين الغربيين، فإن الإعلام الدولي لم يسلّط الضوء على عدم حساسيّتهم لثقافة البلد وسياقه، حيث يتحدّث هؤلاء علنًا بلغة مؤيدة للغرب وإسرائيل، في حين يَختارون في اللقاءات الخاصّة مع الصحافيين أن يكونوا أكثر توازنًا في مواقفهم. هذه التّفاوتات بين اللغة العامة والخاصة قد تعكس واقعًا دبلوماسيًّا معقَّدًا حيث يُفضّل تجنب المواقف الجريئة علنًا من أجل الحفاظ على العلاقات الدولية، لكن قد يتم التعبير عن مواقف أكثر واقعيّة في الأروقة الخاصة.
الدّعاية والرمزيّة
تلعب الرمزيّة والدّعاية دورًا أساسيًا في بناء السرديّات الإعلامية. فتُستخدم صورٌ مثل استهداف غرفة نوم نتنياهو في الإعلام الإسرائيلي لتصوير القادة تحت الضَغط، وتُبرز المقاومة ذلك كتطوّر لقدراتها الاستخباراتية والعملياتية، بينما يبرز الإعلام معاناة الأسرى الفلسطينيين مقارنة بمصطلح مختَطَفين إسرائيليين للإشارة إلى التّفاوت في السرديّات الإنسانية ونزع الشرعيّة عن الفعل وردّ الفعل الفلسطيني.
في المقابل، تُبرز صور مثل بسطات خضار في غزة في الإعلام الإسرائيلي لنفي وجود "مجاعة" و"أزمة إنسانية" حقيقيّة، بينما يستخدم الإعلام الاسرائيلي عبارات مثل "حرب يوم القيامة" للتماهي مع مصطلحات اليمين الغربي والصهيوني، ويَستخدم الإعلام الإسرائيلي مُصطلحات مثل "العالم المتحضّر" مقابل "وحوش" لتأطير الصّراع كصدام حضارات.
"اليوم التّالي": مُستقبَل غامِض
يُطرح مصطلح "اليوم التالي" في الخطاب الإعلامي دون تحديد واضح لما يعنيه. هل يُشير إلى اليوم التالي للإبادة، أم للقضاء على "الإرهاب"، أم لإعادة الإعمار وبناء مستقبل أفضل؟ الإعلام الإسرائيلي قد يركّز على استمرار القدرة والسيطرة الأمنيّة على الفلسطينيين بعد العدوان، بينما الإعلام الفلسطيني يُبرز استمرارية النّضال مِن أجل التحرّر.
الخاتمة
تَكشف الحَرب على غزة عن الدور المركزي للّغة والمصطلحات في تشكيل السرديّات الإعلامية. سواء كان التركيز على الأمن القومي في الإعلام الإسرائيلي، أو المقاومة في الإعلام الفلسطيني، أو التوازن المزعوم في الإعلام الدولي، فإن كلّ مصطلح يحمل أبعادًا سياسية وإنسانية تؤثر على فهم الجمهور الصراعَ. إن الوعي بهذه الديناميكيات يساعد على تفكيك التحيّزات الإعلامية وفهم أعمق لأبعاد الصراع وأثره الإنساني والسياسي، مع إدراك حقيقة أن هذا الموضوع يستوجب دراسة موسّعة ومعمّقة للإحاطة بكل جوانبها.
ماهر عواودة
درس القانون الدولي بجامعة أوكسفورد. حاصل على الماجستير بالأدب الإنجليزي، وباحث دكتوراه في الدبلوماسية الرقميّة بالجامعة العربية الأمريكية. كاتب ومحلل إعلامي مختص بمواضيع السياسية وحقوق الإنسان، ومترجم فوري. عمل مسؤولًا للصحافة الأجنبية وناطقًا باسم وزارة الإعلام الفلسطينية أكثرَ من ٢٥ عامًا.