غَزة ليست المَدينة الخارِقة
تستَوقفني دائمًا عِبارة "أنتم أبطال، ولقد حقّقتم النّصر على الجيش الذي لا يُقهر"، وبصراحة، مع كلّ إعلان لوقف إطلاق النار في غزة منذ الحرب الإسرائيلية على القطاع في عام 2008 وحتى حرب أكتوبر 2023، وأنا ما زلت أطرح التساؤل نفسه في كلّ مرّة: "هل انتصرنا حقًا بعد كلّ هذه الخسائر التي تعرّضنا لها؟". في عصر يوم التاسع عشر من كانون الثاني الماضي، وفي اليوم الأول من وَقف إطلاق النّار شاهَدنا عبر التلفاز ومنصّات التّواصل الاجتماعي عمليّة تسليم الأسيرات الإسرائيليات من وسط مدينة غزة، وبَعدها تسليم 4 أسيرات إلى اللّجنة الدولية للصليب الأحمر وسط استعراض عسكريّ لعمليّتي التسليم، الأمر الذي فسّره كثيرون على أن غزة ستبقى دائمًا عصيّة على الانكسار، فيما رأى البعض أنّه محاولة لإنكار الدّمار الحاصل في القطاع.
مع انحسار صوت البارود الحارق وهَدير الطائرات الحربيّة التي استمرت على مدار عام وأكثر من شهرين، تتجلى المآسي بشكل أكبر، ويبدأ الإنسان في لحظة صَمت اكتشاف حجم الخسائر التي تكبّدها، وهو أمرُ للأسف أعتاد الفلسطينيون على تذوّقه في غزة طوال السنوات الماضية؛ فعندما تسأل صاحب البيت المدمّر عن رأيه في ما حدث له ولعائلته، يقول بحروف متناثرة: "الله بيعوض والقادم خير".
أفضَت الحرب الحالية إلى أن بقعة صغيرة لا تتجاوز 360 كم2 تسمى قطاع غزة من بيت حانون شمالًا وحتى رفح جنوبًا تعرّضت لأقسى عمليات التّطهير العرقيّ والإبادة الجماعيّة؛ فالمناطق المأهولة بالسكان مُسِحت عن بكرة أبيها، فكان من الصّعب على سبيل المثال أن أَعرف مكان بيتي في الحيّ الذي نسُف بالكامل في اليوم الثالث من الحرب في أكتوبر 2023 بمنطقة تل الهوا جنوب مدينة غزة، وهو المشهد نفسه الذي تكرّر في كلّ محافظات قطاع غزة، وما نتج عنه من تدمير البُنية التحتيّة من مستشفيات وبلديّات ومؤسسات تعليميّة ومنازل وشوارع وحتى شاطئ غزة تعرّض هو الآخر للقصف. إنّ حجم الخسائر فاق التوقّعات، وهو مختلفُ عن كلّ الحروب السابقة ضد قطاع غزة التي كانت بالعادة عمليات عسكرية وتوغّلات بريّة تستهدف مناطق حدودية ومواقع عسكرية، إضافة إلى اعتماد الاحتلال في هذه الحَرب سياسة الأرض المَحروقة مما خلف أكثر من 155 ألف شهيد وجريح، وما يزيد عن 11 ألف مفقود، وتدمير 88% من مساحة القطاع المحاصَر منذ أكثر من 16 عامًا.
في كتاب "فنّ الحرب" للاستراتيجي الصيني سان تزو يقول "إن ذروة فنّ الحَرب هي إخضاع العدو من دون قتال"، وهذه الاستراتيجية إن أردنا تحقيقها فلسطينيًا علينا أن نَخرج من عباءة "الانتصار غير الملموس"، وأن يعتمد النظام السياسي الفلسطيني بكافة تيّاراته على استراتيجيات ووسائل جديدة تنقذنا من متاهة العثرات السياسية والاقتصادية، والتمسك بأدوات النقد الذاتي لتقييم مواقفنا وتقوية الجبهة الداخلية حتى نتمكن من مواجهة التحدّيات بخطط براغماتية بعيدًا عن العواطف الجيّاشة التي تحرفنا عن بوصلة إنقاذ الناس وتحقيق النصر الحقيقي داخل فلسطين.
تَقف غزة على أعتاب مُفترق جديد، وكلّ الأعين تتّجه صوب هذه المدينة التي يعتبرها البعض خارقة، فيما أنها في الحقيقة مدينة ساحلية فلسطينية كلّ ما يريده أهلها الأمن والسلام وتحسين الوضع الاقتصادي؛ بيد أن إسرائيل ومن خلفها الإدارة الأمريكية برئاسة دونالد ترامب ترى غزة بعين الاستثمار الاقتصادي والسياحي، الأمر الذي أكّده جاريد كوشنير "صهر ومستشار ترامب لشؤون الشرق الأوسط" في تصريح أدلى به في ندوة بجامعة هارفرد العام الماضي، وأشار فيه إلى أن غزة مكان خصب للاستثمار، وتجلّت نتائج هذا التصريح في كَشف المخطّط الواضح لـ "تطهير" غزة الذي طرحه الرئيس ترامب قبل عدّة أيّام، وقوله إنه يريد مِن مصر والأردن إخراج الفلسطينيين من قطاع غزة في محاولة لإحلال السّلام بالشرق الأوسط.
إن هذا المخطَّط يستدعي إعلان النفير فلسطينيًّا من النظام السياسي بكافة أطيافه والتقاط الفُرصة لتصحيح مسارنا السياسي وخلق الوعي بضرورة إخراجنا من مُستنقع الحروب وتعزيز أدوات النّضال والمناصرة الدولية لإيقاف هذا المخطط وغيره من الخطط الإسرائيلية التي تحاول تركيع الفلسطينيين وطردهم من أراضيهم كما حدث في النكبة الفلسطينية عام 1948، فالواقع الحالي يستدعى استثمار أدوات إعلامنا الفلسطيني الذي نجح في توثيق جرائم الحرب طوال 471 يومًا التي ستجسد ذاكرة تاريخية للأجيال القادمة، وكذلك يمكن البناء على الصور والشهادات الحيّة ومشاهد القتل والترويع كوثائق وأدلة دامغة في محاكمة قادة إسرائيل عندما يُرفع الفيتو الأمريكي والدولي عن تنفيذ قرارات محكمة الجنايات الدولية.
ما لم يستطع الفلسطينيون تحقيقه وجب على الأقل محاولة كسبه سياسيًا ولو مرّة واحدة من خلال حشد الأصوات السياسيّة العالمية لمعاقبة إسرائيل والحدّ من تصرفاتها الاستعمارية، وبصراحة على السياسيين النظر بعين الرأفة لأوضاع أهل غزة، فمَع إعلان وقف إطلاق النار وقف أكثر من 2 مليون فلسطيني يترقبون إعادة فتح الطريق بين الشمال والجنوب ليعودوا إلى أحيائهم السكنية المدمرة، فالعنوان العريض هو ضرورة التركيز على إخراج غزة المكلومة من حلبة المصارعة التي أُدخلت فيها، وأن يتنفّس أهلها الصعداء والحريّة بعيدًا عن براثن الحرب.
ساجي الشوا
إعلامي فلسطيني من سكان مدينة غزة، حصل على درجة البكالوريوس بالعلاقات العامة والإعلام من الجامعة الإسلامية بغزة.
شغل منصب مسؤول العلاقات العامة والاتصال بعدد من مؤسسات المجتمع المدني المحلية والعربية منذ عام ٢٠١٠، إلى جانب حبه لمجال الراديو فعمل مقدماً للبرامج المتخصصة بقضايا الشباب والمجتمع بعدد من الإذاعات المحلية وترأس قسم البرامج والتدريب براديو ألوان من عام ٢٠١٣ حتى أواخر ٢٠١٩.
يحب مجال التدريب فعمل كمدرب متخصص بمواضيع الكتابة الصحفية والعمل في بيئة الراديو والبودكاست وساهم في تدريب حوالي ٣٠٠٠ صحفي وصحفية منذ عام ٢٠١١ إلى اليوم.
شارك في تقديم الاستشارات لعدد من المؤسسات حول كيفية تطوير الخطط التسويقية والإعلانية الخاصة بالعلاقات العامة والتعامل مع الجمهود وله عدة مشاركات إعلامية بالتلفزيون والراديو والمؤتمرات تناولت قضايا الشباب والنساء وقضايا المجتمع.