ممنوع من السفر، ممنوع من الابتسام
”لكل فرد حرية التنقل واختيار مكان سكناه في أي مكان في نطاق الدولة التي يتواجد فيها بشكل شرعي“، كما ”يحق لأي فرد أن يغادر أية دولة بحرية، بما في ذلك دولته هو"
(المادة 13 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان)
كعادتي وفي لقاءات الأصدقاء وحين يبدأ الحديث عن السفر وحكايا المطارات، أخرج عن دائرة النقاش، أتفقد هاتفي، أسرح في أمر آخر، أفتعل أي شيء، وفي بعض الأحيان أحاول تغيير الموضوع. قبل سنوات كنت أنزعج من هذه الأحاديث بشكل كبير. اليوم خف انزعاجي. أظن أنني على وشك الاعتياد على فكرة أنني ممنوع من السفر، قلت على وشك! ولم أعتد بعد. في إحدى الجلسات مع الأصدقاء وبينما كانت إحداهن تحكي لنا عن معاناتها في مطار ستوكهولم حين فقدت حقيبة سفرها وموجة البكاء التي انتابتها آنذاك، وللصدق تعاطفت معها بعض الشيء، لكن تخيلوا! تمنيت أن أكون مكانها، تمنيت لو أنني كنت في مطار ستوكهولم وضاعت حقيبتي، أو تأخرت عن طيارتي واضطررت أن أبقى في المطار عشر ساعات إضافية، حينها ستتاح لي الفرصة أن أجلس على أرض المطار، وأحدق في الناس، ولربما أصدف وقتها شخصًا ما من أي بقعة في العالم، نتبادل أطراف الحديث حتى موعد الطائرة التالية. بكل بساطة هذا ما فعلته بنا دولة الاستعمار! قزّمت وصغرت أحلامنا وأمنياتنا إلى الحد الذي نتمنى فيه أن تضيع منا حقيبة السفر في المطار.
عمدت إسرائيل كمنظومة استعمار استيطاني وقوة احتلال على الأرض إلى فرض واقع قاهر ومستبد على الفلسطيني، وذلك بالتوازي وبالتزامن مع إعادة تشكيل وهندسة الحيز والمكان من خلال سياسات وإجراءات استعمارية ممنهجة، بهدف الحدّ من قدرته على النفاذ والوصول والسيطرة على الحيّز، وفصله المستمر جسديًا عن مجاله الحيوي، وإبقائه في شعور دائم بعدم السيطرة على حركته وانفعالاته، ودائم التوتر والارتباك، فأقامت الحواجز ونقاط التفتيش الدائمة والفجائية "الحواجز الطيّارة"، وانتهجت نظام حظر التجوال، وصممت نظام التصاريح، وشيدت جدار الفصل العنصري، هذا السور الشاهد على العنصرية التي تجري في عروق الاستعمار، والاستعمار هذا عمل أيضًا على تقسيم فلسطين إلى معازل، من خلال ما يسميه "المعابر"، فإذا أتيح لك أن تعبر من أحدها، تشعر وكأنك قد عبرت إلى دولة أخرى، هذا إن أتيح لك! لأن إسرائيل وإضافة إلى سياسة فصل الجسد الفلسطيني عن حيزه، صنفتنا إلى شرائح متعددة من الأجساد والأمكنة. فهناك فلسطيني يستطيع أن يتواجد على حيزٍ قد لا يستطيع فلسطيني آخر التواجد عليه، حتى بين أفراد العائلة الواحدة. فمثلًا، أنا كوني حاملًا لوثيقة السلطة الفلسطينية وممنوعاً من الحصول على تصريح للدخول إلى القدس وأراضي 48، لا أستطيع التواجد مع أمي في كثير من الأمكنة كونها تحمل الهوية المقدسية، حيث أننا لا نستطيع المشي سوية في باب العامود مثلًا، وهكذا! وفي سياق هذه السياسات والإجراءات، وبعد استكمالها احتلال باقي الأراضي العربية عام 1967، أقامت اسرائيل سلطة لها على الحدود بين الأردن وفلسطين من خلال وجودها على الجسر الذي كان ممرًا لإنجلترا الغازية بين الضفتين الشرقية والغربية لنهر الأردن. جاء وجود اسرائيل في سياق سياسة الجسور المفتوحة التي انتهجتها مع تأسيس الإدارة المدنية كأداة ضبط وسيطرة للسكان، وحصرت مرور سكان الضفة الغربية من خلال جسر الكرامة، ممر واحد لسكان الأرض المحتلة نحو العالم، بوابة صغيرة لا تتسع لأكثر من شخص، يقف عندها مصيرك وأحلامك وحالتك الصحية ومستقبلك المهني والأكاديمي وكل ما يتعلق بك كإنسان. جاءت إسرائيل وقالت أنا من أتحكم في كل ذلك، والسلطة الكاملة هنا لي، غير آبهة بأي شيء.
تشير التقارير بهذا الخصوص إلى أن أكثر من 10 آلاف فلسطيني/ة، أكثر من 40% منهم من فئة الشباب، ممنوعون من السفر إلى خارج البلاد بموجب قرار صادر عن ضباط جهاز "الشاباك" الإسرائيلي تحت ذريعة ما يسمى "الملف السري". قد تسألون كما الآخرين مما يسمع عن قصصنا نحن الممنوعين من السفر، "ليش ما تحط محامي؟!". أحيانًا أتفهم هذا السؤال وفي أحيان كثير يستفزني بدرجة كبيرة، نُسأل وكأننا لا نعلم أن خصمك هو قاضيك أيضًا، هذا النظام القضائي الذي يتداعى له الإسرائيليون الآن بالآلاف في شوارع المستعمرة لحمايته والدفاع عنه وليبقى سوطًا مسلطًا على رقابنا وأداة ناعمة لقمعنا وحرماننا من أحلامنا، ومع ذلك فقد "لاحقنا العيّار لباب الدار" وأقمنا الحجة على أنفسنا وتوجهت مع أقراني الممنوعين من السفر لطلب المساعدة القانونية من خلال مؤسسات عاملة في هذا الحقل ومن خلال محامين عاملين في الحقل، والجواب منذ 10 سنوات واحد: مرفوض! طب ليش؟! "ملف سري".
قد يتساءل أحدكم، ألا تتمثل سياسية إسرائيل في تهجير الفلسطيني وإخراجه من أرضه بكل الإمكانيات والفرص المتاحة؟ فلماذا تمنعه من السفر؟!
هناك أثر عن نيلسون مانديلا يقول فيه: "الرجل الذي يحرم رجلًا آخر من حريته هو سجين الكراهية"، نعم الكراهية أولًا، الكراهية التي تشكل عنصرًا أساسيًا في معادلة الاستعمار، والتي بدونها لن يبقى استعمارًا. بصراحة، هذا هو الجواب الأول والمقنع بالنسبة لي، إسرائيل صانعة الكراهية. وفي المستوى الثاني من الإجابة على السؤال، فإن اسرائيل لا تمنع كل الفلسطينيين، لكنها تعاقبهم كلهم، ولتتمكن من معاقبتنا كلنا، تقسمنا إلى فئات، ولكل فئة صنف محدد من العقاب قد يضمن في المستقبل، باعتقادها، إنسانًا فلسطينيًا مقموعًا ومسيطرًا عليه، خانعاً، ذليلاً، مُحبطاً، مهزوزاً، متوتراً، فاقداً للأمل، خائفاً على مصالحه أحيانًا، ومعزولاً تمامًا عن أي جماعة سياسية، قابلاً للتحكم به وبخياراته ومجرداً من أية قدرة على قول لا، وبالتالي فإن بقاءه وعدمه واحد.