قراءة سريعة في واقع الأسرى الفلسطينيين تحت الاحتلال

لم تكن حياة الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال سهلة أو مستقرة؛ ولقد اتّسمت دومًا بموجات من التجاذبات مع "السجان الإسرائيلي"، وصلت أحيانًا الى حالات صدامية دامية. لا يمكن، بطبيعة الحال، التأريخ لقضية الأسرى الفلسطينيين بمقال مقتضب واحد، لكنني سأحاول، بهذه العجالة، أن القي الضوء سريعًا على أوضاعهم ضمن موضوع هذه النشرة المخصص للشأن السياسي العام: "قراءة لصورة الحال ووجهته".

لم تبدأ هجمة الحكومة الاسرائيلية المبرمجة على الأسرى الفلسطينيين في زمن حكومة نتنياهو الحالية، وعرّابها الاساسي اليوم هو وزير الامن القومي بن جفير؛ فالتأسيس والفكرة لقمع الاسرى أخذ منحى جديدًا وخطيرًا في زمن حكومة نتنياهو السابقة، عندما كان الوزير جلعاد أردان يشغل منصب وزير الأمن الداخلي. لقد بادرت تلك الحكومة، عام 2018، إلى إصدار قرار يقضي بإقامة "لجنة أردان" التي كلّفت بدراسة الأوضاع المعيشية للأسرى الفلسطينيين داخل سجون الاحتلال، والعمل على تغييرها حتى تصل إلى أدنى حدود ما تتيحه القوانين وأنظمة ولوائح "مصلحة السجون الاسرائيلية". منذئذ والسجون تعيش حالة احتقان خطيرة وصدامات متتالية، حيث بات الأسرى عرضة للاعتداءات المتكررة ومهدّدين بشكل حقيقي بتنفيذ عمليات انتقامية ضدهم.

ما قبل أردان

منذ اليوم الأول للاحتلال، خطط وتعمد الأخير تشويه صورة المناضلين الفلسطينيين والتعامل معهم بخبث وفق خطّة مدروسة بعناية على أساس أنهم "مخربون/ إرهابيون" وجناة؛ فكانت البداية من خلال تأسيس جهاز قضاء عسكري كان عماده المركزي منظومة المحاكم العسكرية التي زوّد قضاتها بسلسلة "قوانين" عسكرية، هي عبارة عن مجموعة  "أوامر عسكرية" يصدرها "القائد العسكري العام" للأراضي الفلسطينية المحتلة؛ وهو، وفق القانون الإسرائيلي، صاحب الصلاحيات الموازية للمشرّع الاسرائيلي- الكنيست في المناطق التي يسيطر عليها جيش الاحتلال. باشرت المحاكم العسكرية عملها منذ اليوم الأول للاحتلال وبدأت تعامل المناضل الفلسطيني الماثل أمامها اجرائيًّا كمتهم جنائي/ مجرم/ مخرب/ إرهابي، وكان فعله المقاوم ينسب له كمخالفة جنائية/ جرم/ عمل تخريبي/ عمل ارهابي. 

لن يختلف اثنان على أن قبول الفلسطينيين، بكونهم مجموعة سكانية وقعت تحت الاحتلال، لهذه المعادلة كان خطأ فادحا، واستمرار تعاطيهم مع الوضع لغاية اليوم وفق تلك المعادلة، يعتبر خللا مستمرا، مع أن الوقت لم يفت لإعادة النظر فيه.  

 لم تنجح إسرائيل، في الواقع، بترسيخ الصورة التي فرضتها داخل محاكمها العسكرية والمدنية وتعاملت مع الأسرى على أساسها خلال إجراءات اعتقالهم أو التحقيق معهم وظروف احتجازهم غير الإنسانية. لقد تحقق الفشل الاسرائيلي حقيقة داخل سجون الاحتلال، بعد أن نجح المقاومون الفلسطينيون الأوائل بقلب المعادلة الإسرائيلية وبعد استيعابهم لمغازي ما كان الاحتلال يخطط لنيله ويتمنّاه: ففي حين حاول السجان الإسرائيلي إتمام عملية "تدجينهم" ومعاملتهم في السجون كمجرمين وكمخربين يتوجب عليهم العيش في ظل القانون الاسرائيلي ووفق لوائح "مصلحة السجون الاسرائيلية" وقواعدها الخاصة بالجناة وبالمجرمين، أصرّوا، من جانبهم، وتصرفوا كمقاومين أحرار وكأصحاب حق في مقاومة المحتل وكنسه. لقد استوعبوا، بفطرة المقاومين الأنقياء، أنّ بناء الجماعة هو الضمانة الأكيدة لحمايتهم كأفراد وللدفاع عن القضية التي من أجلها ضحوا؛ فأشدّ ما كان المحتلّ بحاجة إليه في تلك الأوقات الحاسمة، عندما كان منتشيًا بـ"سكرات نصره العسكري"، هو ظفره بأرواح الأحرار والتحكم فيها وراء القضبان، وإبقاء كل واحد منهم مجرد "فريسة" تائهة في دروب السراب والخيبة، فاقدة للأمل ومهيضة تحتاج جناح السجان ليحميها طيلة فترة محكوميتها.

كانت السجون تستقبل أعداد المقاومين ببرودة الموت وكان هؤلاء يدخلونها قوافل تسير على دروب المجد والعزّة؛ فيجيئون فرادى أو "خلايا"، ويجتمعون في الأسر زرافات ويمضون أجيالًا من البنّائين الأشدّاء الذين سخّروا اراداتهم وأرواحهم من أجل تشييد الصرح، الذي صار يعرف في تاريخ الكرامة البشرية باسمه المعنوي الكبير "الحركة الأسيرة الفلسطينية". 

لقد اضطرت القيادات الاسرائيلية، السياسية والأمنية، خلال العقود الماضية، إلى الاعتراف بالواقع الذي فرضته "الحركة الأسيرة" وحاولت أن تتعايش معه وفق معادلات عديدة، تصدرتها المعادلة التي أسميتها معادلة "الردع المتوازن" ومفادها أننا كحركة أسيرة،  نملك ما يكفي من المعطيات والعوامل والقوة لرفض أي محاولة منكم لفرض أي شروط مخلة بالوضع القائم المتفاهم عليه، ضمنًا أو صراحة، بيننا وبينكم، كما نملك أيضاً الارادة الكافية لمقاومة أي محاولة من جهتكم تستهدف حقوقنا الأساسية وانجازاتنا التي حققناها عبر السنين بعد معارك شديدة معكم كانت قد كلفتنا أحيانًا أرواح رفاقنا.

لقد شهد العالم كله كيف حوّل "سكان الزنازين" العتمة إلى مواقد نور، وكيف أفشلوا مخططات الاحتلال، وعرّوا ممارساته وفضحوا موبقاته، وكيف جسّدوا، بالمقابل، المعنى الحقيقي "للحاء الإنسانية" الضروري لاستمرار حياة كل ثورة شعب يسعى للتحرر.

 ما بعد أردان

لم يكن قرار الحكومة الاسرائيلية المذكور مجرد نزوة عابرة، فما تمارسه الحكومة الاسرائيلية اليوم يشهد على جدية المخطط وخطورة مآربه، فحكومة نتنياهو الحالية تعيش حالة من الاقتناع الذاتي بأنها قادرة على القضاء على مشروع التحرر الوطني الفلسطيني، وهي مقتنعة بضرورة انجاز مخططها وتشعر بأنها قد قطعت أشواطا كبيرة في هذا الاتجاه، لكنها تعرف، كذلك، على أنها لن تنجح، فعليًا، بإنجاز مخططها إذا لم تقضِ على منجزات الحركة الأسيرة وتقوّض كياناتها الجامعة. إنها الكيانية الجامعة التي كان الأسرى وشعب فلسطين كله يعتبرونها مسألة مقدسة حتى نالها، لمزيد الأسف، التصدع كما نال القضية كلها.

لم تأت المحاولات الإسرائيلية الحالية من فراغ، بل تصعّدت بعدما استشعر القائمون على إعداد خطة سحق "الحركة الأسيرة الفلسطينية" بروز عدد من المحفزات والشروط التي وُظفت واستُغلّت في سبيل تسهيل المهمة المذكورة.
لن أعدّد تلك العوامل كلها، لكنني أؤكد على أن الانقسام بين غزة والضفة، بين فتح وبين حماس، كان أخطرها وأقواها على الإطلاق، خاصة بعد أن "استوردت" قيادات الحركة الأسيرة مضامين ذلك الانقسام وقبلت به واقعًا يحدّد هوامش معيشتها داخل السجون. لقد غيّر هذا الانقسام أبجديات الصمود الفلسطيني، ونسف، عمليًا، ميراثًا نضاليًا ذهبيًا ما زال نثاره يتطاير على جهات الريح، ونحن نرقب ذلك بحسرة وبوجع وبخيبة.

ما كان يجب أن يكون

أعرف أن أعداء فلسطين لا يعدمون الأسباب والمحفزات للتنكيل والاعتداء على الفلسطينيين أينما تواجدوا؛ لكنهم شعروا، في حالة الحركة الاسيرة، إن الفرصة مواتية لإنزال الضربات القاضية على الأسرى، وأنهم قادرون على تحقيق ما لم يحققه كل الذين سبقوهم على سدة حكم إسرائيل. فهل سيعتبر المناضلون؟  رهاني الذي لا يقبل المساومة وقناعتي الثابتة وأمنيتي الكبيرة بأنهم، عند ساعة الصفر، سوف يثبتون للعدو وللصديق أنهم ما زالوا "لحاء الانسانية" الخالد والوعد الضامن لأحلام شعبهم، والعهد الكفيل باستمرار نضالهم حتى النصر والاستقلال.   

المحامي جواد بولس

محام وكاتب فلسطيني

شاركونا رأيكن.م