تحديّات فلسطينيّة ما بينَ الديمقراطيّة، والاحتلال، والدولة اليهوديّة

عانت البلاد حالةً من التصدّع والغليان السياسيّ منذ تشكيل الحكومة الجديدة في نهاية شهر ديسمبر/ كانون أول 2022 على إثر إعلان الحكومة عن نيّتها وعزمها إجراء "إصلاحات" قضائية من شأنها أن تحدث تغييرًا جذريًا في مبنى النظام الديمقراطي وتحول نظام الحكم فيها من ديمقراطي ليبرالي إلى نظام أوتوقراطي كما هو الحال اليوم في هنغاريا وبولندا وتركيا. في هذه المقالة سأحاول الإجابة على الأسئلة التالية: 1) لماذا وكيف وصلت دولة إسرائيل إلى هذه الحالة؟ 2) ما هي التحديات الماثلة أمام المواطنين الفلسطينيين إزاء هذه الحالة؟

منذ إعلان قرار الأمم المتحدة عن إقامة دولة إسرائيل عام 1947 ولاحقًا إعلان مجلس الشعب عن تأسيس الدولة في 14 أيّار/ مايو 1948 من خلال إصدار وثيقة الاستقلال، عملت حكومات إسرائيل الأولى على استيعاب المهاجرين من كل أنحاء العالم وكان هدفها في البداية بناء مجتمع يهودي متكامل من خلال شعار أطلقه رئيس الحكومة دافيد بن غوريون "بوتقة الصهر"، ففرضت الخدمة الإلزامية على معظم اليهود من جهة (عدا المتدينين) ومن جهة أخرى تبنت سياسة اقتصادية اجتماعية اشتراكية قدّمت فيها مساعدات مالية كبيرة للشرائح الدينيّة (بالأساس مخصصات تأمين الأطفال حسب عدد الأطفال في البيت) ومنحتهم استقلالية كبيرة في بعض المجالات مثل التربية والتعليم والمحاكم الشرعية،  وقد أدّت هذه السياسة الاقتصادية الاجتماعية الاشتراكية في المدى البعيد إلى ارتفاع حادّ في نسبة المتدينين اليهود في الدولة.

من جهة أخرى فقد قامت الحكومات الإسرائيلية منذ حرب حزيران عام 1967 بفرض الاحتلال على الضفة والقطاع والقدس الشرقية، ولاحقًا شرعت في تنفيذ المشروع الاستيطاني الذي هدف إلى قطع التواصل الإقليمي بين المدن الفلسطينية (خاصة القدس الشرقية في جميع الاتجاهات الثلاثة الشمال والجنوب والشرق) بهدف القضاء على مشروع الحل السياسي وإقامة الدولة الفلسطينية والذي يعتبر تنكرًا لالتزام إسرائيل في وثيقة الاستقلال باحترام قرارات الأمم المتحدة.

الارتفاع الديمغرافي الحادّ في المجتمع اليهودي المتدين الشرقي – حزب شاس – والمجتمع اليهودي الديني "الحريديم" – يهدوت هتوراة – نتيجة لسياسة الدولة التي ذكرتها أعلاه قد أدّى مع مرّ السنين إلى ارتفاع في قوة وتأثير هذه المجموعة من ناحية سياسية حتى وصلت قيادة هذه المجموعات (حزبيّ شاس ويهدوت هتوراة مع 18 مقعد في الكنيست الأخيرة، أي ما يعادل 15% من البرلمان) إلى خطاب يهدّد الديمقراطية ويشكل خطرًا على استقلالية السلطة القضائية في النظام الديمقراطي، كلّ ذلك بهدف تعزيز المميزات اليهودية في الحيز العام وتغليب يهودية الدولة على ديمقراطيتها بشكل يتعدى حُجة المعقولية، فهي تطالب اليوم بسن قانون يعفي كل المجتمع اليهودي المتدين من الخدمة العسكرية وإعطاء معاشات باهظة للشباب المتدينين الذين لا يعملون ولا يخدمون في الجيش (يطلقون عليهم اسم طلاب الكنيس)، كما أنّ هذه القيادات تريد منع المواطنين غير المتدينين من ممارسة حياتهم بشكل حر بواسطة منع تفعيل المواصلات العامة في أيام السبت، وتمييز النساء وتقييد حريتهنّ في الحيّز العام وحتى في الجيش وأمور كثيرة أخرى أدت في أيامنا هذه إلى حالة من الغليان في الجانب اليهودي العلماني وفي صفوف دوائر الجيش الذين يشعرون بالظلم والتمييز إزاء هذه الحالة السياسية الجديدة.

من جهة ثانية فإن المشروع الاستيطاني الكبير الذي عملت حكومات إسرائيل "اليسارية – حزب العمل" على بنائه قد أدّى إلى بناء مدن استيطانية كبيرة جدًا يبلغ عدد السكان فيها اليوم إلى أكثر من مليون ساكن. هذا الواقع أدّى أيضًا مع مرّ السنين إلى ارتفاع في قوة وتأثير هذه المجموعة من ناحية سياسية حتى وصلت قيادة هذه المجموعات (قائمة "الصهيونية الدينية" برئاسة سموطريتش وبن غفير وسمحا روتمان وغيرهم حصلوا في الانتخابات الأخيرة على 14 مقعدًا، أي ما يعادل 12% من البرلمان)، من خلال خطابها العلنيّ ومطالبها في الكنيست، إلى حالة تهدّد الديمقراطية وتشكل خطرًا على استقلالية السلطة القضائية في النظام الديمقراطي (تمامًا مثل قادة الأحزاب المتدينة)، كل ذلك بهدف توسيع الاستيطان وفرض سياسة الفصل العنصري وتعميق الاحتلال والقضاء على إمكانية الوصول إلى حل سياسي مع الشعب الفلسطيني. 

إذًا، يمكننا القول بشكل واضح أنّ حكومات إسرائيل "اليسارية – حزب العمل، مبام ومباي" وحتى بداية سنوات الـ70 اعتقدت أنها يمكن أن تكون ديمقراطية حقًا "مع اليهود" وتقدم المساعدات للمجتمع اليهودي المتدين لاعتبارات إنسانية ديمقراطية، ومن جهة أخرى اعتقدت أنها ستحظى بتأييد سياسي لها من قبل المجتمع اليهودي الذي يسكن في المستوطنات من خلال توسيع وترسيخ الاحتلال، ولكنها اليوم تقطف ثمار الاحتلال وثمار "بوتقة الصهر" حال تنكر هاتين المجموعتين لها ولديمقراطيتها حتى وصل بهذه المجموعات الدينية واليمينية المتطرفة إلى التمرد عليها وإعلان الحرب بشكل رسمي على الأسس التي تحميها وهي مؤسسات القضاء مثل محكمة العدل العليا، مؤسسة المستشار القضائي للحكومة والنيابة العامة ووسائل الاتصال العامة والخاصة. 

إنّ ادعائي المركزيّ هو أنّ الهدف الرئيسي من فكرة "بوتقة الصهر" ودعم المجتمع اليهودي المتدين اقتصاديًا، وبناء المشروع الاستيطاني الضخم من جهة ثانية، كان توحيد المجتمع اليهودي عامةً لصالح ترسيخ الاحتلال ومواجهة "الأعداء الذين يريدون إبادتنا لو سنحت لهم الفرصة – على حد ادعاء رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو مؤخرًا"، ولكن الحقيقة المرة أنّ هذه السياسة في أيامنا هذه قد أثبتت فشلها الذريع وانقلب السحر على الساحر، وبالتالي فإنّ الاحتلال في طريقه الحتميّ للقضاء على الديمقراطية الإسرائيلية، ولذلك على المجتمع اليهودي العلماني اليساري وعلى قيادة الجيش والأمن أن يختاروا أحد الخيارين: إمّا الديمقراطية وانهاء الاحتلال وإمّا الاحتلال والقضاء على الديمقراطية وتحويل الدولة إلى يهودية.

ما هي التحديات الماثلة أمام المواطنين الفلسطينيين إزاء هذه الحالة؟

باعتقادي ليس هناك ثمّة شك بأنّ الحل العملي والواقعي الحالي هو سياسي، أي من خلال البرلمان، وبالتالي فإنّ ما يمكن للمواطن العربي الفلسطيني في البلاد عمله هو التأثير السياسي في البرلمان من خلال الانتخابات والمشاركة فيها بنسبة عالية تجتاز الـ70%، وهذا الأمر ممكن للغاية وعملي جدًا ومجرًّب ولكنه ممكن بشرط واحد ووحيد في أيامنا هذه  وهو توحيد كل القوى السياسية في قائمة انتخابية واحدة تخوض الانتخابات هذه المرة بهدف التأثير السياسي العملي من خلال الإعلان الصريح عن نية هذه القائمة بالدخول إلى ائتلاف شرطه الأساسي إعلان الحكومة الائتلافية (التي سيتم تشكيلها) عن بدء المفاوضات بهدف الوصول إلى إنهاء الاحتلال وتحقيق السلام العادل والشامل بين الشعبين من جهة، والإعلان الرسمي عن وقف المشروع الاستيطاني بشكل فوري، وتغيير سياسة الحكومة الاقتصادية الاجتماعية الخاصة بالمجموعات الدينية التي تحظى بميزانيات ضخمة جدًا دون مقابل - ميزانيات تحصل عليها فقط المجموعات الدينية ولا يحصل عليها المواطن العربيّ أو اليهودي العلماني.

أحمد أبو عماد محاميد

محلل وخبير في الشؤون السياسية والحزبية، ويعمل مديرًا لمدرسة ثانويّة

شاركونا رأيكن.م