مقاومة الجدار والاستيطان: نَموذج بِلْعين

بِلْعين قرية صغيرة وادعة تحيط بها الأودية والجبال، تَنتصف الطريقَ بين يافا والقدس، وهي من القرى التابعة لمحافظة رام لله من الجهة الغربية، حيث تبعد عنها 16كم. عدد سكانها 1800 نسمة، يعمل معظمهم في الزراعة، ومساحة أرضها (4000) دونم. عُرِف أهلُها بالبساطة والطيبة وحُسن الجوار، فهم محبّون للحرية والسلام، ويرفضون الظلم والاضطهاد.

 تَعرّضت أراضي بِلْعين لأكثر مِن حَملة مصادرة لصالح الاستيطان، ففي بداية عام 1980 بُنيت مستوطنة "ميتاتياهو" على جزءٍ من أرضها، وفي بداية عام 1990 صودِر جزءٌ آخر، بُنيت عليه مستوطنة "كريات سيفر"، وفي مطلع هذا القرن (عام 2002) بُنيت مستوطنة جديدة سُمّيت مستوطنة "ميتاتياهو الشرقية".

في نيسان عام 2004 بُلِّغ المجلس القروي عن نيّة الحكومة الإسرائيلية بناءَ جدار فاصل على أراضي القرية، وقد أَبلَغَ المجلس بدوره أبناء القرية، مما دفعهم لتشكيل لجنة شعبيّة لمقاومة هذا الجدار ومستوطناته، حرصوا على أن تمثِّل أكبر فئة من سكان القرية، وقد أخذت اللجنة على عاتقها مهمة متابَعة ملفّ الجدار في القرية، بما يشمل التحضير للفعاليّات اليومية والأسبوعية، والتواصل مع المتضامنين الدولييّن والإسرائيلييّن، ومتابَعَة الناحية القانونية عَبر التواصل مع المحامين والمستشارين القانونيين.

بدأت جرافات الجيش الإسرائيلي بالعمل على مَقطع الجدار في أرض بلعين في 20/2/2005، إذ يمرّ مِن أرض القرية بطول 2 كم وعرض 50 م، ويَبعُد 3 كم عن "الخط الأخضر" المعروف بالحدّ الفاصل بين الضفة الغربية والأراضي المحتلة عام 1948، كما لا يوجد في المنطقة أيّ خَطر أمنيّ، فالهدف ليس الأمن كما يدّعون، وإنّما سرقة الأرض وبناء المستوطنات عليها، حيث أُقيمت على جزءٍ منه مستوطنة ميتاتياهو الشرقية، وتعرضت أشجار الزيتون للقَلع والتدمير (نَحو 1000 شجرة). يفصل الجدار بين المواطنين وأرضِهم، حيث تقع معظم أراضي القرية غَرْبَه (2300دونم، بواقع 58% من مساحة القرية)، معظمها مزروع بأشجار الزيتون التي تعتبر المصدر الرئيس لرزقهم، ويتراوح عددها بين (10000-15000) شجرة، وتستخدم الأراضي الأخرى لزراعة الحبوب والخضار، وأحيانًا كمراعٍ للمواشي.                                                                                        

منذ اليوم الأول لعمل الجرافات وهو 20/2/2005، بدأت المظاهرات والاحتجاجات التي اتّخذت طابعًا شعبيًا تَمثّل بمشاركة الأطفال والشباب والشيوخ والنساء. كانت الفعاليّات يومية في البداية، ثم أصبحت أكثر تنظيمًا ومَنهجيّة، إذ تحوّلت مِن كمّية إلى نوعيّة، حيث تُنَظّم اللجنة مَسيرَتين أسبوعيًا، اتُّفِق على أن تكون إحداهما في يوم الجمعة من كل أسبوع، والأخرى في يوم آخر غالبًا ما كان يوم الأحد، وقد وُظّفت المناسبات والأعياد الاجتماعية والوطنية في خدمة الهَدف، فكانت هناك مَسيرة للمرأة في يوم المرأة، وأخرى للأطفال في يوم الطفولة، وثالثة للمُعاقين في يوم المُعاق، ورابعة للعُمّال في يوم العُمّال، وهكذا.

الإِبداع 

  لقد كانت فعالية "تربيط الزيتون"[i] عنوانًا للإبداع، حيث تجلّت فيها المُقاومة الشعبيّة السلمية التي عبرت عن التصاق الإنسان الفلسطيني بجُذور تلك الشجرة المقدسة، وكانت فاتِحة الطريق للعديد من مثيلاتها من فعاليات أخرى مثل: البراميل، والصناديق، والسجن والمشانق، والتوابيت، وشواهد القبور، والأشرطة اللاصقة، والمرايا، والأفعى، والجسر الحديدي، والأسطوانة، والقبر الكبير، والعلم الفلسطيني الكبير، والأعلام الصغيرة الكثيرة، والميزان، والزوايا، والرايات السود، والسفينة، وأفيتار ..... إلخ. 

 نَقْل المعركة إلى خَلف الجدار

لقد جاء بناء مستوطنة متاتياهو الشرقية بدون تَرخيص مِن الحكومة الإسرائيلية مِثل العديد من المستوطنات، هذا إضافة إلى عدم قانونيتها حسب القانون الدولي، وتمثّل الردّ من اللجنة الشعبيّة بِوَضع بيت مُتنقّل هناك، والرّبط بينه وبين تلك البيوت غير القانونية، مع فارق أننا نَملك الأرض التي وضعنا عليها بيتنا، وهم لا يَملكونها. وُضع البيتُ الأول بتاريخ 21/12/2005 وصودر، وكذلك الثاني في 25/12/2005 وأيضًا صودر، فما كان منّا إلا أن بَنَينا بيتًا ثابتًا صغيرًا مكوّنًا من غُرفة واحدة في اليوم نفسه الذي وُضع فيه البيت المتنقل الثاني، وكان هذا بمثابة تحوّل في نضالنا، حيث أُعلن عن البيت كمركز للنضال الفلسطيني الإسرائيلي الدولي المُشتَرك ضد الاحتلال. نَجَح المحامي بعد ذلك في الحصول على قرار إيقاف العمل والتوسّع في تلك المستوطنة (ميتاتياهو الشرقية)، وقد استُخدم المركز للاجتماعات والمحاضرات التي تَشرح عن الجدار والمظاهرات، بالإضافة إلى بعض النشاطات الأخرى، مِثل عَرض مباريات كأس العالم هناك.

وَحَدثَ دُخول بَعض عائلات القرية للسكن في أحدِ بيوت المستوطنة، حيث أخذوا كلّ ما يحتاجون من مستلزمات الحياة الضرورية للمكوث هناك، بالإضافة إلى الأوراق التي تثبت ملكيّة الأرض، ورفعوا العَلم الفلسطيني شامخًا فوق البيت في تلك المستوطنة، إلا أنهم أُجبروا بعد خمس ساعات على المغادرة بالقوة.ومرّة أخرى، نَجح المحامي بعد ذلك في الحصول على قرار هَدم لهذا البيت، وإعادة التراب إلى قِطعة الأرض لتُستخدم لأغراض زراعية مع أربع قِطع أخرى. وهذا ما تسعى إليه اللجنة الشعبية: حثّ المواطنين على التواجد على أرضهم والعمل فيها، فقد كانت فترة الزراعة والحراثة حافلة بالنشاطات المتعلقة بذلك. 

نتائج التجربة

أولًا: بتاريخ 4/9/2007، أصدرت المحكمة العليا الإسرائيلية قرارًا ينص على عدم قانونية الجدار في مساره في ذلك الوقت، وأن المبرّرات التي قدّمها الجيش الإسرائيلي بحجّة أنه بُني لأغراض أمنيّة غير مقنعة؛ لهذا أوصت المحكمة بهدمه وإعادته إلى الخلف مسافةَ 500 متر؛ أي نحو 1300 دونم، ومن خلال ذلك تمَكّنا من إعادة نصف المساحة المهددة بالمصادرة. وهذا وإن كان إنجازًا فهو لا يُعتبر نصرًا نهائيًا، فهناك مستوطنة على أرضنا، وجدارٌ جديد أيضًا يدفعنا إلى مواصلة المشوار واستمرار المظاهرات.

ثانيًا: حصول اللجنة الشعبية لمقاومة الجدار على جائزتين مهمّتين على مستوى الوطن في العام 2007 هما: جائزة فلسطين الدولية للتميّز والإبداع، وهي جائز تقديرية رمزية، وجائزة ياسر عرفات للإنجاز وقيمتها 25 ألف دولار.  وعلى جائزتين عالميّتين أُخرَيين، ففي السابع من كانون الأول من عام 2008 حصلت اللجنة الشعبية مع مجموعة "فوضويون ضد بناء الجدار"[مجموعة إسرائيلية من اليسار الراديكالي تأسست عام 2033] على جائزة "كارل فون أوستيزكي" التي تمنحها الرابطة العالمية لحقوق الإنسان في ألمانيا، وهي جائزة رمزية. وفي العام 2009 حصلت على جائزة دار الفكر العربي من الكويت وقيمتها خمسون ألف دولار.

ثالثًا: تحويل الأرض خلف الجدار إلى جنّة خضراء من خلال تشجيع المواطنين على استصلاحها وزراعتها بالحبوب والأشجار المثمرة وخصوصًا الزيتون، حيث يتسابق الفلاحون لمثل هذا العمل، وهذا ما نسعى إليه في اللجنة الشعبية، حتى تتحول أرضنا جميعها خضراء ولا نترك للاحتلال مبررًا لمصادرتها.

رابعًا: إزالة مَقطع من الجدار وتغيير مساره بما ضمن إعادة نحو 1300 دونم من الأراضي المهددة بالمصادرة  بتاريخ 20/6/2011.

خامسًا: استمرار الفعاليات ومحاولة تَوسيع تجربة المقاومة الشعبية ونقلها إلى أماكن أخرى، حتى منتصف عام 2020، وقد توقفت المسيرات المنتظمة بعد ذلك بسبب انتشار  الكورونا، إلا أن المواجهات عند مقطع الجدار استمرت بعد ذلك، وخصوصًا بعد السابع من اكتوبر، وقد تعرض المئات للإصابات والاعتقالات.

 عناصرُ ساهمت في نجاح التجربة

  1. القيادة الشابة الواعية التي حرصت على الوحدة الوطنية، (اللجنة الشعبية لمقاومة الجدار) والتفاف سكان القرية حولها ومشاركة معظمهم في الفعاليات.

  2. المتضامنون الدوليون والإسرائيليون.

  3. المحافظة على الاستمرارية.

  4. الإبداع والتجديد في الأفكار ومفاجأة الاحتلال.

  5. التوظيف الجيّد للإعلام.

  6. المتابعة القانونية.

ردّ فعل جيش الاحتلال

استَخدم جيش الاحتلال الإسرائيلي تِرسانة أسلحة في مواجهة الظاهرة السِلميّة، فالجنود مُدججون بالأسلحة والمعدات كافة، وتبرز هنا المفارقة من خلال استخدام أبشع الوسائل وأعنَفها لقمع فلاحين عُزّل، حيث استخدم الجيش العديد من الوسائل لثَني المتظاهرين عن مواصلة طريق نضالهم؛ فقد بدأ باستخدام العصيّ وضرب المتظاهرين بصورة عنيفة ومؤلمة، وتطوّر ذلك تدريجيًا لاستخدام الغاز بأنواعه، وقنابل الصوت بأنواعها، والرصاص المعدنيّ المغلّف بالمطاط بأنواعه، واستخدم أسلحة جديدة أخرى مِثل كُرات الملح، والأسلحة الكهربائية، وأكياس الفاصولياء، والإسفنج، وخراطيم المياه الزرقاء الممزوجة بالغاز السام، والصاعقة، وقد تميّز عاما  2008 و 2009 باستخدام السوائل الكيماوية السامّة، خصوصًا ما أُطلق عليه بالضربان، وهو عبارة عن مادّة نتنة تلتصق بالثياب والجسم وتصعُب إزالتها حيث تمكث فترةً تزيد عن ثلاثة أيام، واستخدم أيضًا رصاصًا من النوع الحي وهو ما يُسمى بـ "0,22" (التوتو) ويتسم بدقّة الإصابة، حيث أُصيب ما يزيد عن عشرين شخصًا تعرضوا لكسور فترةً تزيد عن الشهرين. 

وقد نَتَج عن استخدام الجيش هذه الأسلحة إصابة 1500 شخص، بعضهم أصيب أكثر من عشرين مرّة خلال هذه المعركة، ثلثهم من الأطفال، ومن بينهم تسعون صحافيًا. واستخدم الجيش نوعًا جديدًا من القنابل الغازية تُشبه القذيفة، حيث تطلق خمسين قنبلة دفعةً واحدة تُغطي مساحة عشرة دونمات بالغاز، مما يسبب اختناقات لمعظم المشاركين في المسيرة، واستخدم نوعًا آخر من الغاز يتّسم بسرعة فائقة، ويصل مسافاتٍ أطول من النوع السابق، وقد تسبب في استشهاد المناضل باسم إبراهيم أحمد أبو رحمة (31 سنة) في السابع عشر من نيسان عام 2009، وأخته جواهر أبو رحمة (36 سنة) بعد عام ونصف عامٍ من استشهاده في 1/1/2011 بعد استنشاقها كمية كبيرة من الغاز. في 18/5/2021 وخلال هبة رمضان في الدفاع عن الأقصى، ارتقى الطفل إسلام وائل برناط شهيدًا قرب الجدار غربي القرية بالرصاص الحيّ في رأسه.

حاول الاحتلال الإسرائيلي استخدام العقاب الجماعي بحقّ أهل القرية، فقد وَضع الحواجز على الطرق، وخصوصًا لإعاقة العمال المتجهين للعمل في إسرائيل، بالإضافة إلى منع المواطنين من الحصول على تصاريح للعبور إلى إسرائيل، أضف إلى ذلك حصار القرية، ومَنعُ المتضامنين الإسرائيليين والدوليين من الوصول إليها وخصوصًا يوم الجمعة، وفرض حظر التجوّل على السكان ومنعهم من الحركة، وإعلان القرية منطقة عسكرية مُغلقة وتوزيع البيانات التي تحثّ السكان على عدم المشاركة في المسيرات، وعَدم الخروج من منازلهم في يوم الجمعة. 

 استخدم الاحتلال نشر القوات الخاصة، وما يُعرف باسم "المستعربين" بين صفوف المتظاهرين، ومحاولتهم القيام بأعمال عنيفة، الهدف مِن ورائها تخريب المظاهرة حتى يجد الجيش مبررًا لاستخدام العنف ضد المتظاهرين، واعتقال الناشطين، فقد تم اعتقال 200 شاب وفتى من أبناء القرية معظمهم من أعضاء اللجنة الشعبية والأطفال ومائتين من المتضامنين الدوليين والإسرائيليين، وقد تميّز صيف عام 2009 باعتقال عددٍ كبير من أبناء القرية الناشطين منهم وأعضاء اللجنة الشعبية، فقد تم اعتقال 50 ناشطًا نصفهم من الأطفال.

تعرّضت القرية للمداهمات الليلية، حيث اعتاد الجيش استخدام أعنف الوسائل وأبشعها لبثّ الرعب والذعر في نفوس المواطنين كإلقاء قنابل الصوت، وضرب الأبواب بصورة وحشية، وإخراج الشباب وضربهم واعتقالهم وخصوصًا من يشارك في المسيرات منهم.

إن ما تقوم به إسرائيل مُخالف لكل الشرائع والمواثيق الدولية، فتكريس احتلال الأراضي الفلسطينية مُخالف لقرارات مجلس الأمن الداعية للانسحاب الإسرائيلي الكامل من كافة الأراضي التي احتلتها عقب الرابع من حزيران العام 1967. وهذا يتطلب منّا عدَم الوقوف مكتوفي الأيدي، وإنما التحرّك سريعًا وعلى الصُعد كافة رسميًا وشعبيًا للعمل من أجل التخلص من الاحتلال.


الصورة: من موقع "فلسطين أون لاين".

[1] فعالية تربيط الزيتون: خلال عملية بناء الجدار كانت جرافات الاحتلال تقوم بقلع مئة من اشجار الزيتون التي في مسار الجدار او محيطه، وقد كانوا يقومون بوضع علامات بالطلاء (دهان بوية) على جذع الشجرة وقد علمنا من خلال هذه العلامات انهم سيقومون بقلع هذه الأشجار في اليوم التالي، ومن هنا بدأنا بالتفكير بطريقة تمنعهم من قلع الأشجار، وخلال اجتماع للجنة ومشاورات وتفكير مطول، قررنا ، ان تكون الفعالية من خلال تربيط انفسنا بهذه الأشجار بالجنازير والأقفال الحديدية، وقد كان الموعد فجر اليوم التالي قبل وصول الجرافات والجيش الاسرائيلي، وقد شكرك في هذه الفعالية نشطاء دوليين واسرائيليين وأهالي القرية في بلعين ، وقد حضر العشرات من القوات والوكالات الدولية والمحلية لتغطية هذه الفعالية، وبالفعل نجحنا في الوصول مبكرا وقمنا بتربية انفسنا من الساعة الخامسة فجرا، وبعد حوالي ساعة حضرت اول دورية عسكرية إلى المنطقة وقد فوجئت بما شاهدت ما يزيد عن خمسين شخصا مربطين انفسهم في اشجار الزيتون، وقد قامت هذه الدورية بإبلاغ مسؤوليهم حول ما شاهدوا ، وبالفعل نجحنا في إيقاف عمل الجرافات لمدة ستة ساعات حتى جاء القراد بقمعنا، وقد كان المشهد مذهلا اما عنف الجنود اما مزارعين ونشطاء دوليين واسرائيليين يعبروا عن تمسكهم بارضهم ، وقد نقلت الرسالة بطريقة رائعة ، حيث أطلقت بعض المحطات اسم "الغاندييون الجدد" وغاندي فلسطين وغيرها من المسميات الايجابية.

عبد الله أبو رحمة

منسق اللجنة الشعبية لمقاومة الجدار والاستيطان في بِلْعين، ومدير عام العمل الشعبي ودعم الصمود والمحافظات في هيئة مقاومة الجدار والاستيطان.

رأيك يهمنا