"هذا الميدان يا حميدان"
يُقال إن رجلًا كان مفتول العضلات، قويّ البنية، شاهق الطول، لا يجرؤ أحدٌ على مصارعته في الحَلَبات أو الحارات. وكان هذا الرجل الملقب بـ "حميدان" يخشاه الجميع، ومن شدّة قوته وصل صيته إلى المدينة المجاورة، وسَمِع عن قوته أحد المصارعين، فسافر إليه، راغبًا في مصارعته.
وَقَف ذاك المصارع في منتصف السوقِ وصَرخ بأعلى صوته: "أين حميدان؟ جئتُ لمواجهته؟". اجتمع كلّ السوق على صوته، ووصل الخبر لحميدان، فجاءَ مسرعًا، وما إن رأى خصمه حتى أصبح وجهه شاحبًا وبدأ بالتحجّج للانسحاب مِن مصارعته! كيف لا، وخصمُه أكبر منه بمرّتين! استغرب أهل مدينة حميدان من تصرّفه، وقالوا: "هذا الميدان يا حميدان".... لكن يبدو أن حميدان لم يرغب بأن يكون في الميدان حينها، وقال: "هذا ضيفُ مدينتنا، أليس من الأفضل لنا إطعامه وإكرامه، بدلًا من مصارعته؟؟!".
وما أشبهَ قصة حميدان، بالعديد من محاولات فَرْد العضلات، في مجالاتٍ عديدةٍ، أهمها ما يُطلق عليه: "تعزيز صمود الشعب الفلسطيني في أرضه"!
حسنًا، لنبدأ مقالنا بكلّ مهنية وجديّةٍ الآن، بعيدًا عن الكوميديا السوداء.
الدعم الدولي والمساعدات الإنسانيّة:
جهود مَشروطة في مواجهة واقع مرير
تُظهر المؤسسات الدولية التزامها العلنّي بدعم الفلسطينيين، خصوصًا في المناطق التي يواجه فيها السكّان خطر الهدم والتهجير، مِثل المناطق المصنّفة "ج" في الضفة الغربية. وفقًا لتقارير الأمم المتحدة، يعيش نحو 300,000 فلسطيني في هذه المناطق، التي تسيطر عليها إسرائيل بالكامل بموجب اتفاقيات أوسلو، حيث تُفرض قيود صارمة على البناء وتطوير البنية التحتيّة. وتَعمد العديد من المؤسسات الدولية إلى تقديم المساعدات المالية والمادية للفلسطينيين لبناء منشآت سكنية أو توفير خدمات أساسية، وهو ما يُعتبر استجابة إنسانية ضرورية في ظل الظروف القاسية التي يعيشها هؤلاء السكان.
لكن، وبالرغم من أهمية هذا الدعم، فإنه يأتي في إطار محدود لا يكفي لمواجهة سياسة التهجير الإسرائيلية المُمنهجة. فعلى سبيل المثال، تُظهر الإحصائيات أن نسبة كبيرة من المنشآت التي تم بناؤها بتمويل دولي في المناطق المهددة بالتهجير قد هُدِمت. ففي عام 2022 وحده، هُدم نحو 170 منشأة سكنية تم تمويلها دوليًا، وفي عام 2023 تم هدم 1175 منشأة، رُبعها في المناطق المُصنّفة "أ" والمناطق المُصنّفة "ب"، ولا إحصائية لديّ عن عدد المنشآت الممولة دوليًا من هذا الرقم الكبير. ويُشير هذا إلى تناقض واضح بين الجهود المبذولة من المؤسسات الدولية لدعم الفلسطينيين وقُدرة إسرائيل على مواصلة سياسات الهدم والتهجير دون رادعٍ دوليّ فعلي.
غياب الضّغط الفعليّ على إسرائيل
رغم الجهود التي تبذلها المؤسسات الدولية لدعم الفلسطينيين، فإن غياب قُدرة تلك المؤسسات الفعلية على فرض أي نوع من العقوبات أو الضغط الفعلي على إسرائيل يُعد من أبرز نقاط الضعف في مواجهة عمليات الهدم والتهجير. فمن الواضح أن إسرائيل -وبعيدًا عن سيطرتها على المناطق المُصنّفة "ج" حسب الاتفاقيات- فإنها تستطيع تنفيذ سياساتها التهجيرية من خلال الهدم في كلّ المناطق في الضفة، والقدس الشرقية، دون أي اعتبار للمساعدات الدولية التي تُقدم للفلسطينيين، ولا لأي اتفاقيات. وتشير تقارير المؤسسات الدولية نفسها، إلى أن أكثر من 50% من عمليات الهدم في الضفة الغربية تَستهدف منشآت مَوّلتها هذه المؤسسات. وعلى الرغم من الإدانات المتكررة التي تصدر عن الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية الأخرى، فإنها لا تتجاوز في معظم الأحيان مستوى البيانات الإعلامية، حيث لا تترافق معها أي خطوات فعلية لإيقاف هذه الانتهاكات. ويُساهم هذا الضعف في تعزيز سياسة التهجير القسري للفلسطينيين واستمرارها دون رادع دولي حقيقي.
فالمساعدات التي تقدمها المؤسسات الدوليّة للفلسطينيين تحمل في ظاهرها نوايا إنسانية نبيلة، لكنها في جوهرها قد تُعزز سياسات الاحتلال الإسرائيلي عن غير قصد. يتجلى هذا التناقض في الاستمرار بتقديم الدعم المالي والمساعدات الإنسانية، في حين أن إسرائيل تستمر في انتهاك حقوق الفلسطينيين من خلال سياسات التهجير والهدم. إذ يُصبح الموقف الدولي في بعض الأحيان كمن يغذي طرفًا يعاني، في حين يتجاهل الطرف الذي يتسبب في هذا الألم، مما يخلق نوعًا من الشرعية غير المباشرة للسياسات الإسرائيلية على الأرض.
يتساءل العديد من المراقبين عما إذا كانت هذه المساعدات تُستخدم كوسيلة لتخفيف الضغط على إسرائيل، حيث تُظهر المؤسسات الدولية أنها تقوم بدورها في دعم الفلسطينيين، بينما تتجنب الخوض في مواجهات سياسية مباشرة مع إسرائيل. في هذا السياق، تُثار تساؤلات حول كيفية توظيف تلك المساعدات والضرائب التي يدفعها مواطنو الدول المانحة، والتي قد يتم استغلالها بشكل غير مباشر لتعزيز الاحتلال بدلًا من دعمه.
والحقيقةُ أنني لا أقول هنا أن دور المؤسسات الدولية أو المجتمع الدولي وحده الضغط على أسرائيل، لكنني أتساءل حول أهمية هذه المساعدات، إذا ما كانت ستُهدم بكل الأحوال!
ختامًا: الحاجة إلى استراتيجية دولية جديدة
إن الوضع الحالي في الضفة الغربية يتطلب من المؤسسات الدولية إعادة النظر في استراتيجياتها وسياساتها تجاه إسرائيل والفلسطينيين. فبينما يستمر تهجير الفلسطينيين وهدم منازلهم، يجب أن تدرك هذه المؤسسات أن دورها لا يجب أن يقتصر على تقديم الدعم المادي فقط. بل يجب أن يكون لها دور أكبر في الضغط على إسرائيل لوقف سياساتها الاستيطانية والتهجيرية.
على المؤسسات الدولية أن تعترف بأن الدعم المادي، على الرغم من أهميته، قد يُستغل كغطاء لاستمرار الانتهاكات، وأن الحل الحقيقي يتطلب إرادة سياسية قوية من المجتمع الدولي لضمان حماية حقوق الفلسطينيين وأراضيهم. هذه الإرادة يجب أن تتجاوز البيانات الإعلامية والمساعدات المؤقتة إلى سياسات حقيقية تضمن العدالة والمساواة للجميع.
إن تحقيق العدالة للفلسطينيين لا يمكن أن يتم إلا من خلال تغيير جذري في السياسات الدولية تجاه إسرائيل، وإيجاد آليات فعلية لمحاسبتها على الانتهاكات المستمرة.
أحمد ياسين
ناشط شبابي من مدينة رام الله، حاصل على شهادة الماجستير في تنمية المجتمعات الدولية، بتركيزٍ على تأثير الحركات الاستعمارية على المجتمعات وطرق تنميتها. يعتبر أحمد أحد الممثلين عن الشباب الفلسطيني في المحافل المحلية والدولية، وقد تحدّث عن فلسطين والقضية في مجلس الأمن، ومقر الاتحاد الأوروبي، وغيرها من المنصات الدولية والمحلية. يترأس أحمد مجلس إدارة مؤسسة الرؤيا الفلسطينية في القدس، وينشط مع مؤسسات الأمم المتحدة للمشاركة في تعزيز دور المرأة العربية والفلسطينية وتمكين مشاركتها.