خُدَعُ القانون الإسرائيليّ السّريعة لترحيل أكبر عَدَدٍ مِن المواطنين البدو في النقب
شَهدت الأعوام الأخيرة على وجه الخصوص تسارعًا كبيرًا -رافَقَهُ عنف شديد- في ترحيل المواطنين العرب البدو في النقب. تميّزت عمليات الترحيل بسرعَتها وحَجمها حينما طالت العديد من الأحياء التي كانت المَسكن ومقرّ العيش الوحيدَين لعشرات العائلات. هُدمت هذه الأحياء بما فيها من عشرات البيوت والمباني بحجّة وجودها في مواقعَ لم تخصصها دولة إسرائيل ومؤسسات التنظيم والبناء التابعة لها للبناء والسكن.
ويستهجن كثيرون: كيف يمكن للدولة أن تُرحّل بشكلٍ سريعٍ أحياءً بأكملها يسكنها المواطنون العرب البدو في النقب منذ عشرات السنين؟ وكيف لا تمنع المحاكم الإسرائيلية ذلك؟!
وردًا على هذا السؤال أُوضّح بإيجاز أن أوامر الهدم والترحيل تَصدر بعد منظومة من الأكاذيب والألاعيب والخُدع تمارسها المؤسسات المعنيّة حتى تحصل على قرار قضائيّ سريع لترحيل المواطنين. عِماد هذه المنظومة وأساسها هو أن دولة إسرائيل لا تقرّ بملكية المواطنين البدو لأراضيهم، حتى لو كانوا يسكنون فيها منذ عشرات السنين، وحتى لو كانوا يحملون مذكّرات قانونيّة قدّمها آباؤهم وأجدادهم منذ سنين لتسجيل ملكيّتهم، بل تتعامل الدولة معهم على أنهم "غزاة" أو "معتدون" و"مخالفون للقانون"، وأنها هي وَحدها مالك الأرض لا غير!
أما من جهة تَطبيق هذه المنظومة على أرضِ الواقع بغرض تحقيق الترحيل على وجه السرعة، وبما يَشمل الكَم الأكبر من البيوت والمباني، فهذه مراحلها، وأولئك هم "أبطال قصّتها" من جهة الدولة:
المرحلة الأولى: يبدأ مخطط الترحيل حين تُقرّر ما تُسمّى "سلطة توطين البدو" مِن تلقاء نفْسها أنّ الحلّ السكني الملائم لسكان بلد معين هو في موقع آخر، وليس من خلال تنظيمهم في موقعهم الحاليّ. عُيّنت هذه السلطة بقرار حكوميّ منذ سنوات لتعنى بتطوير النقب وإسكانِ المواطنين البدو، لكنّها في واقع الأمر لا تعمل على الاعتراف بالبلدات البدوية وتنظيمها، بل على تركيز العدد الأكبر من الموطنين البدو في أصغَر رقعة من النقب. وعليه تتّخذ السلطة قرارها المذكور بتنظيم السكان في مكان غير مكان سَكَنهم الحاليّ، دون التَشاور معهم ودون فحص رغباتهم وطلباتهم، ودون الحصول على موافَقَتهم على الموقع البَديل.
المرحلة الثانية: بذريعة أن المواطنين لا يوافِقون على الانتقال إلى الموقع البديل الذي خصّصته لهم، وأنهم لا يتعاونون معها في هذه المسألة، تتوجّه سلطة توطين البدو لنيابة الدولة -القسمُ الخاص بمخالفات التنظيم والبناء- وتَطلب منها العملَ على إصدار أوامر هدم سريعة لترحيل المواطنين. لا تَفحصُ نيابة الدولة مدى مصداقية ادعاء سلطة توطين البدو أن المواطنين لا يتعاونون معها، ولا تَفحصُ موقف السكان مباشرةً من القرار، ولا حتى مدى ملاءمة الحلّ المقترح للسكان.
المرحلة الثالثة: بناءً على طلب سُلطة توطين البدو، ترسِل نيابة الدولة مفتّشي السلطة القُطرية لمخالفات التنظيم والبناء إلى الحيّ المُستهدَف لتحضير ملفات الهدم والترحيل. يزور المفتشون الحيّ أو البلدة بمرافقة قوات كبيرة من الشرطة، زارعين جوًّا من الإرهاب والرعب في قلوب الحاضرين من السكان. يزور المفتِّشون الحيّ على النحو المذكور مرّة واحدة، ومن ثم مرة أخرى بعد أسبوعين أو شهر تقريبًا، وفي كل مرّة لا يتحدث المفتِّشون مع السكان وأصحاب البيوت ولا يَستجوبونَهم، بل يلصقون على المباني إنذارات "ضد مجهول" ويغادرون. فيما بعد، يقدّم مفتّشو السلطة القُطرية تصريحات خطيّة للمحكمة أن أصحاب البيوت لم يكونوا موجودين في أثناء الزيارات، أو أنهم كانوا موجودين لكنّهم لم يعرّفوا عن أنفسهم ولم يتعاونوا مع المفتّشين، لذلك فإن أصحاب البيوت والمباني غيرُ معروفين، ولم يكن بمقدور المفتّشين التحري عن هويتهم!
المرحلة الرابعة: بناءً على ادعاء سلطة توطين البدو أن هناك حلًا بديلًا لإسكان المواطنين لكنّهم لا يتعاونون معها، وبناءً على تصريحات مفتشي السلطة القطرية أن أصحابَ المباني مجهولون، تقدم نيابة الدولة لمحكمة الصلح طلباتٍ قضائية لإصدار أوامر هدم سريعة ضد كلّ بيتٍ ومبنى في الحيّ. تُقدَّم هذه الطلبات وفق المادة 239 لقانون التنظيم والبناء، وهي مادة تخوّل المحكمة بإصدار أمرِ هدمٍ ضد مبنى معين في حالة كان صاحب البيت ميتًا أو خارج البلاد أو غير مؤهل للمحاكمة، أو أن مخالفة البناء التي ارتكبها قد تقادمت. ومع أنّ هذه المادّة غير معدّة لترحيل أحياء مسكونة منذ عشرات السنين وسكانُها معروفون، تتذرع نيابة الدولة أن "مَصلَحة الجمهور" تحتّم إصدار أوامر الهدم والترحيل وِفق هذا المسار وعلى وَجه السرعة، وأن امتناع المحكمة عن إصدار أوامر الهدم يضرّ "المصلحة العامة"!
المرحلة الخامسة: قرار المحكمة هدمَ عشراتِ المباني والبيوت وترحيل سكانها دون تأمين سكنٍ بديلٍ لهم ومقبولٍ عليهم. ووصولًا لقرار جائرٍ من هذا القبيل، تغضّ المحكمةُ نظرها عن ألاعيب سلطة البدو ومزاعمها الكاذبة المذكورة، وكذا السلطة القطرية للتنظيم والبناء، ولا تَكترث حتى لادعاء المواطنين أنهم أحياءٌ يُرزَقون وليسوا مجهولي الهوية كما صوّرهم مفتشو السلطة القطرية للتنظيم والبناء في طلبات الهدم المُقدّمة للمحكمة، ولا لدفوع السكان أن البيوت قديمة وهي مَسكَنهم منذ عشرات السنين وما من مبررٍ عادل لترحيلهم. كما تمتنع المحكمة عن التدقيق في الحلّ المقترح للسكان إن كان مناسبًا لهم أو غيرَ مناسب! وهكذا يكون قرار الهدم والترحيل في معظم الحالات محسومًا منذ بداية القضية، ويكون الإجراء القضائي صوريًّا إلى حدّ بعيد.
المرحلة السادسة والأخيرة: الهدم والترحيل. بمنظومة معطوبة وفاسدة كهذه، وبهذه الخُدع والألاعيب، تصدر الدولة بلا انقطاع أوامرَ الهدم والترحيل ضد مئات البيوت والمباني والأحياء والبلدات التي يقطُنها المواطنون البدو في النقب، وتُنفّذها بقوةٍ وعنفٍ معززةً بقوات شرطيّة وعسكرية، لتكون عملية الهدم والترحيل عملية حربية تمامًا. يُحظر على المواطنين التصدي للهدم واعتِراضِه، ومن يفعل ذلك يكون عرضةً لاعتداء الشرطة والاعتقال التعسفيّ.
إنّ هذا التعامل مع المواطنين البدو في النقب غيرُ دستوريّ وغير ديموقراطيّ، وهو يناقض مبادئ القانون الدولي وتعامل القانون المقارن في العديد من الدول المتقدّمة في العالم مع المواطنين الأصليين (Indigenous People) أو المجموعات المحلّية (Local Communities) وحقّهم في المكان وفي تقرير مصيرهم ونهج حياتهم. واجبنا جميعًا كأفراد وعلماء ومؤسسات، محليًا ودوليًّا، أن نفضح هذه السياسات القمعية التي تُحاك وتُنفّذ ضد المواطنين العرب في النقب تحت "غطاء القانون"، وتأمين حقّهم في الأرض والمَسْكَن والحياة بمساواة وكرامة.
المحامي د. قيس يوسف ناصر
محامٍ وباحث ومحاضر، يحمل درجة الدكتوراه في القانون من جامعة تل أبيب، وبوست-دكتوراه في القانون من جامعة رايخمان.