هدمُ البيوت في المُجتَمع العربيّ: سياسات حكوميّة وأزمَة وُجودية

 في السنوات الأخيرة، شهد المجتمع العربي في إسرائيل تصاعدًا ملحوظًا في حالات هدم البيوت، سواء في البلدات العربية أو المدن المختلطة، وكذلك في القرى غير المعترف بها في النقب. هذه العمليات ليست جديدة في تاريخ العلاقة بين السلطات الإسرائيلية والمواطنين العرب، لكنها اكتسبت في الآونة الأخيرة زخمًا كبيرًا وتوسعت بشكل ملحوظ، مما يجعل من الضروري دراسة الأسباب الكامنة وراءها، والتداعيات المُترتبة عليها على المستويين السياسي والاجتماعي.

سياسة الهدم: أهداف سياسيّة تحت غطاء قانونيّ

من الواضح أن السبب الرئيس لتصاعد عمليات الهدم ليس تحسين تنظيم البناء في المجتمع العربي أو فرض النظام على المخططات العمرانية، بل يتعلق بأهداف سياسية تُدار من قبل الحكومة الإسرائيلية الحالية. يُروّج الوزيران بن غفير وسموتريتش، اللذان يقودان هذه السياسة لأجندة تهدف إلى الضغط على المواطنين العرب وإضعاف وجودهم في البلاد، من خلال تفكيك بنى حياتهم المستقرة. 

لا تَخدم هذه السياسة تحسين شروط الحياة أو توفير بنية تحتيّة أفضل، بل هي تعبير عن رغبةٍ في فرض الهيمنة السياسيّة. تعتبر هذه النقطة محورية لفهم نوايا الحكومة الحقيقية. فإجراءات الهدم واسعةُ النطاق ليست إلا وسيلة لتحقيق غايات سياسية انتقامية، تهدف إلى إجبار المواطنين العرب على الخضوع للأمر الواقع، وكَبح أيّ تحرك قد يطالب بمزيد من الحقوق. 

ظاهرة الهدم الذاتيّ: تَجَنُّب تكاليف الهدم الرسميّ

إحدى الظواهر المثيرة للقلق، هي ارتفاعُ عدد حالات "الهدم الذاتيّ"، حيث يُضطر العديد من أصحاب المنازل إلى هدم بيوتهم بأيديهم. يأتي هذا القرار الصعب كنتيجة مباشرة للضغوط الاقتصادية التي تمارسها الحكومة. فعند صدور أوامرِ الهدم الرسمية، يُطالَب أصحاب المنازل بدفع تكاليف المعدات والجرافات التي تستخدمها السلطات لتنفيذ الهدم، وهي تكاليف باهظة. لتجنب هذه الأعباء المالية، يلجأ العديد من المواطنين إلى هدْم منازلهم بأنفسهم، مما يضاعف من معاناتهم النفسية والاجتماعية، ويخلق شعورًا عميقًا بالظلم والإهانة. 

ليست هذه الظاهرة مجرد مشكلة اقتصادية، بل هي انعكاس لتفكك الثقة بين المجتمع العربي والسلطات الإسرائيلية. الهدم الذاتي هو تعبير عن يأسِ الناس من إمكانية تحقيق العدالة أو تغيير الواقع القاسي المفروض عليهم. إنه خيار يائس، لكنّه يوضح إلى أي مدى وصلت العلاقة المتدهورة بين المجتمع العربي والدولة.

قانون "كامينتس": الأداةُ القانونيّة للهدم 

يُعتبر قانون "كامينتس" الأساسَ القانوني الذي تَستند إليه الحكومة في تنفيذ عمليات الهدم. يُشكل هذا القانون الذي أُقرّ في ظل غياب مشاركة حقيقية من المجتمع العربي في عملية التشريع، أحد أبرز الأدوات التي تتيح للسلطات تنفيذ عمليات الهدم بسرعة وكفاءة. ومع أن القانون يُسوّق على أنه إجراء تنظيمي يستهدف البناء غير المرخص، فإن غياب جهود موازية لتسهيل إصدار تراخيص البناء يجعل من القانون سلاحًا في يَد السُلطات لتحقيق أهداف سياسية.  

يُستخدم القانون الذي يُفترض أن ينظم البناء بشكل عادل الآن كأداة ضّغط على المواطنين العرب. لقد حذر العديد من السياسيين والنشطاء من تأثيرات القانون الكارثية منذ إقراره، لكن دون جدوى. عمليات الهدم تتزايد، والحكومةُ تستغلّ القانون لتوسيع سيطرتها وتقليص الفضاء المتاح للمجتمع العربي.

غيابُ حلول بديلة: مِن أينَ تأتي التّراخيص؟ 

إحدى أكبر الإشكاليات التي تواجه المواطنين العرب، في ما يتعلق بموضوع الهدم، هي غياب حلول بديلة أو تسهيلات للحصول على تراخيص البناء. في البلدات العربية، هناك نقص حادّ في مخططات التنظيم العمراني، وما زالت المخططات التي تمت الموافقة عليها في السنوات الماضية مجرّد حبرٍ على وَرَق. يَحول عدم تطبيق هذه المخططات على أرض الواقع دون تمكّن المواطنين من إصدار تراخيص بناء جديدة، مما يضَعُهم في موقف حرِج، حيث لا يملكون خيارًا قانونيًا لبناء منازلهم. 

يفاقم غياب الحلول التنظيمية هذا من المشكلة. فالبلدات العربية تعاني من اكتظاظ سكاني ونقص في المساحات المخصصة للبناء، وهو ما يدفع المواطنين إلى البناء دون تراخيص نتيجة لضيق الخيارات المتاحة. في المقابل، تستغل السلطات هذه الفرصة لتبرير عمليات الهدم، متجاهلة المسؤولية التي تقع على عاتقها في توفير تخطيط عمراني يلبي احتياجات المجتمع.

تفاقم الأزمة بسبب الحَرب والميزانيات العسكريّة 

مع استمرار التوترات السياسية والعسكرية في المنطقة، تتجه الحكومة الإسرائيلية إلى تركيز جهودها وميزانياتها على قضايا الأمن والحرب. يضَع هذا التوجه ضغوطًا إضافية على المجتمع العربي، حيث يتم تقليص الميزانيات المخصصة لتطوير البنية التحتية في البلدات العربية. في الوقت الذي تتجه فيه الأموال إلى تمويل العمليات العسكرية، يزداد شُحّ الموارد المخصصة لتحسين البنى التحتية أو تطوير المخططات العمرانية، مما يضاعف مِن صعوبة الحصول على حلول للتنظيم العمراني. 

تعكس هذه الأولويات الحكومية فشلًا في تحقيق توازن بين الاحتياجات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية للمجتمع بأسره. يدفع المجتمع العربي ثمن هذه السياسة، ليسَ فقط مِن خلال عمليات الهدم، لكن أيضًا مِن خلال تهميشه المستمر في برامج التنمية.

الحلّ السياسي: ضَرورة التحرّك الجماعي

من الواضح أن حلّ هذه الأزمة لا يمكن أن يكون تقنيًا أو قانونيًا فقط. يتطلّب الحلّ تغييرًا سياسيًا جذريًا. المجتمع العربي بحاجة إلى تنظيم صفوفه والتوحد في مواجهة هذه السياسات. تتحمل السلطات المحلية العربية والأحزاب السياسية العربية في الكنيست مسؤولية كبيرة في هذا المجال. يجب أن تتبنى هذه الجهات مقاربة جماعية لمواجهة التحدّيات التي تُهدد بقاء المواطنين العرب ووجودهم في هذه البلاد.

يجب أن يتضمن هذا الحلّ السياسي تكثيف الجهود لإسقاط الحكومة الحالية التي تقودها شخصيات تحمل أجندات معادية للعرب مثل بن غفير وسموتريتش. على المجتمع العربي أن يدرك أن مشاركته السياسيّة الفعالة في الانتخابات المقبلة هي السبيل الوحيد لتحويل وَزن العرب الديموغرافي إلى قوة سياسيّة مؤّثرة. 

خاتمة: قضية البقاء والوجود

في النهاية، تبقى القضية قضية بقاء ووجود. ليس الهدم مجرد قضية قانونية أو تخطيطية، بل هو تحدٍ مباشر يواجه المجتمع العربيّ في إسرائيل. على كل مواطن عربي أن يُدرك أن مشاركته في هذا الصراع ليست خيارًا، بل هي مسؤولية. إذا كانت المسألة هي الحفاظ على وجودنا في هذه البلاد، فلا بدّ أن يتحمل كل فرد منّا مسؤولية الدفاع عن حقوقه، سواء من خلال المشاركة السياسية أو التضامن مع ضحايا الهدم أو المطالبة بحلولٍ عادلة ومنصفة.

في مواجهة هذه السياسات التي تَستهدف وجودنا، يجب أن نكون على مستوى التحدي.

د. حنا سويد

رئيس مجلس عيلبون المحلي سابقًا، ونائب سابق في الكنيست عن "الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة".

رأيك يهمنا