تَسجيل الأراضي الفلسطينيّة: بين مُعيقات القانون، وضَرورات الصُمود

يُعدّ الحديث عن موضوع الأراضي وتسجيلها في فلسطين من أكثر المواضيع تعقيدًا وتشَعّبًا، فالموضوع لا يُمكن قراءته بمعزل عن التطوّر التاريخي الفلسطيني والحِقَب الزمنية التي مرّ بها، والأنظمة السياسية التي تغيّرت بتغيّر تلك الحِقَب، واختلفت باختلاف المناطق بين الضفة الغربية وقطاع غزة، وما رافق ذلك مِن تعدّد في القوانين الناظمة لمسألة تسجيل الأراضي.

ففي ظلّ الدولة العثمانية، صَدَر قانون الأراضي سنة 1858 الذي نظّم الأراضي الأميريّة والمتروكة، وبقيت الأراضي المُلك تَخْضَع لأحكام الشريعة الإسلامية، وصَدَر نظام سندات الطابو ولائحة التعليمات الخاصة به، وقانون تقسيم الأملاك المشتَرَكة لسنة 1911، وقانون تَملّك الأجانب 1914، وقانون التصرّف في الأموال غير المنقولة، وغيرها من القوانين التي طُبّقت على ملكيّة الأراضي وتسجيلها.

وقد تأثرت عملية تسجيل الأراضي أيضًا ببعض القوانين الصادرة أثناء فترة الانتداب البريطاني وصولًا لفترة الحُكم الأردني، إذ أصدر المندوب السامي قوانين عدّة كان مِن شأنها تغيير النظام القانوني لتسجيل الأراضي في فلسطين، ومن هذه القوانين: قانون مَحاكم الأراضي لسنة 1921، وقانون نَزْع مِلكيّة الأراضي لسنة 1926. كما صدر قانون تسوية الأراضي والمياه في عهد الحكم الأردني سنة 1952 وهو من أهم القوانين التي لا تزال نافذة حتى الآن في الضفة الغربية. وفي سنة 1964 تمت المباشرة في أعمال تسجيل وتسوية الأراضي التي لم يَسبق تسجيلها، وفي سنة 1967 تم إغلاق مكاتب التسجيل كافّة وإيقاف عملية التسجيل. بعد ذلك أصدرت قوات الاحتلال الإسرائيلي العديد من الأوامر العسكرية التي من شأنها المساس بجوانب عمليّات تسجيل الأراضي بما يخدم مصالحه، ويجعل مسألة تسجيل الأراضي في فلسطين من الأمور المعقدة وغير المطابقة للواقع.

وبنشأة السلطة الفلسطينية بموجب اتفاق أوسلو 1993، نُقلت بعض الصلاحيات مِن قائد جيش الاحتلال إلى السلطة الوطنية مع مسؤولية إدارة الأراضي الخاضعة جزئيًا لسيطرتها. ومع ذلك لم يُنفّذ الاتفاق كليًّا على الرغم من تقسيم الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية إلى مناطق مُصنّفة (أ) و(ب) و(ج)، لكلّ منها ترتيبات إدارية وأمنية مصاحبة لها. وبناء على ذلك، كانت هناك مشاريع عدّة للقوانين المتعلقة بالأراضي بَعدَ "أوسلو" تُمثّل رؤية فلسطينية جديدة لتنظيم الأراضي، وكان من أهمّ هذه المشاريع: مشروع قانون سلطة الأراضي لعام 2004، ومشروع قانون حقوق الأراضي، ومشروع قانون التسجيل، ومشروع قانون الاستِملاك للأغراض العامة، وهذه المشاريع قَيد الدراسة.

بيد أنه ولتسريع وتيرة التقدم في التسجيل المُنظَّم للأراضي للمرة الأولى تحت خريطة الطريق، أنشأ مكتب رئيس الوزراء وكالة جديدة في مارس/آذار 2016 هي هيئة تسوية الأراضي والمياه، كهيئة منفصلة عن سلطة الأراضي الفلسطينية. وتبنّت الهيئة نهجًا لا مركزيًا للعمل مع وحدات الحكم المحلي لإتمام مُسوح التسويات تحت إشراف الهيئة. وتستكمل الهيئة بدورها الإجراءات المتبقّية للتسويات، وتُعدّ جَدول الحقوق، مع صكوك الملكية وما يصاحبها من إجراءات الحيازة لسلطة الأراضي الفلسطينية.

وعلى الرغم من التقدم المبدئي الجيّد، لا تزال مشاكل العمليات والتنظيم الرئيسة بحاجة إلى المعالجة لتسريع وتيرة التسجيل المنظّم. وهناك نحوَ ثمانية وثلاثين في المائة من الأراضي في الضفة الغربية مُسجّلة حاليًا، مع وجود نسبة كبيرة من الأراضي غير المسجلة والتي لا تزال في المناطق الحضرية.

وبالتوازي مع زيادة نشاط التسويات، واصلت السلطة الفلسطينية إظهار الإرادة السياسية لإصلاح قطاع الأراضي، فهي تمضي قُدمًا في تنفيذ الإصلاح المؤسسي لهيئات قطاع الأراضي. وفي نيسان/ أبريل 2018، تمت المواءمة بين سلطة الأراضي الفلسطينية وهيئة تسوية الأراضي والمياه، بالإضافة إلى تعيين قيادة مشتركة لكلتيهما.

وقد كان على رأسِ أهدافِ مشروع التسوية تعزيز عمليات تسجيل الممتلكات في المناطق الفلسطينية، تحديدًا المنطقتين المُصنّفتين (أ) و (ب)، وبالتالي تعزيز توفير العقارات المُسجَّلة من قبل القطاع الخاص وإمكانيّة الحصول عليها، ومساندة أتمتة نظام تسجيل العقارات وما يتعلق بها من خدمات مُقدّمة للمواطنين وللشركات، ومساندة سلطة الأراضي وهيئة تسوية الأراضي والمياه في ما يتعلق بالإدارة الكلية للمشروع وصولًا لتسجيل الأراضي غير المُسجّلة، وغيرها.

غير أن المباشرة في تنفيذ مشروع تسوية الأراضي وتحقيق بَعض أهدافه المُعلنة ليس من شأنه تصويب الوضعية القانونية والواقعية لعمليات تسجيل الأراضي في فلسطين، فما زال اختلاف القوانين الناظمة للعقارات في فلسطين -الناتجة عـن حقـب تاريخيـة مختلفة لا تزال سارية حتى اليوم، منها العثماني والانتـدابي والأوامـر العسكرية والأردني والفلسطيني، مع اختلاف النهج القانوني لكل حقبة من هذه الحقـب- يسبب إرباكًا قانونيًا في التعامل مع القضايا المتعلقة بالتصرف بالعقارات، وما زالت العديد من الأحواض خارج أعمال التسوية لأسباب سياسية، وأخرى لم تجر فيها أعمال التسوية نظرًا للإشكاليات الشائكة والمعقدة واقعيًا فيها.

ولم يعمل المشّرع الفلسطيني منذ قدوم السلطة الفلسطينية وحتى اليـوم علـى تحـديث القوانين الناظمة للعقارات في فلسطين، فمجمل هذه القوانين هي قوانين قديمة قد تحتاج في معظمها إلى إعادة تقييم، بحيث تتناسب مع الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسـية السائدة حاليًا، مما يفاقم من المشكلة ويجعل من تسجيل الأراضي من أبرز الإشكاليات القانونية.

هذا كلّه يوجب علينا العمل على توحيد قوانين الأراضي بأنواعها كافّة بين شقّي الوطن فـي قالـب قـوانين عصريّة ومتطورة، يكون الهدف الأساسي منها هو الحفاظ على الأرض الفلسطينية، الأمر الذي من الممكن أن يكون من ضِمن الاستراتيجية الوطنية، وذلك من خلال توعية المواطنين القانونية عَبر وسائل الإعلام حول أهمية تسجيل أراضيهم، وتنظيم لقاءات قانونيّة تثقيفية للمواطنين في المحافظات كافة بشـكل دوري ومنـتظم. والتعاون مع مجلس القضاء الأعلى لتفريغ قضاة صُلح للعمل فقط في اللجـان البدائيـّة للتسجيل الجديد، لتسريع إتمام هذا النوع من المعاملات، مما سيكون له كبيرُ الأَثر علـى إقبال المواطنين على تسجيل أراضيهم، والعمل على تحديث السجلّات التركية والإنكليزية من خلال طرق عدّة من الممكن أن تكـون إحداها دعوة أصحاب الأراضي إلى ضرورة عمل مخططـات تصـحيح حـدود ومسـاحة، ومراجعة دوائر التسجيل الواقعة أراضيهم ضمن اختصاصها لتحديث البيانـات الموجودة في هذه السجلّات وتَصويبها، مع ضرورة العَمل على أن تكون الأراضي الفلسطينية المصنّفة (ج) حسب اتفاقيات أوسلو من أولى أولويّات الحكومة الفلسطينية، وذلك بتسهيل البناء فيها وعمل مشاريع اقتصادية تجذب السكان إليها للعمل فيها، وخصوصًا المشاريع الزراعية، والهدف من ذلك هـو أن المحتل الاسرائيلي يراهن على إفراغِ تلك المناطق من أجل السيطرة عليها بِداعي أنها خالية مـن السكان.

إذًا، نستطيع القول في الملخص، إن عملية تسجيل الأراضي وإثبات ملكيّتها للمواطن الفلسطيني سواءً كانت في المنطقة المُصنّفة "أ"، أو "ب"، أو "ج"، يجب أن تكون أولوية الجميع، فإثبات الملكية واستعمال الأرض، هو العامل الأول في تعزيز صمود المواطن ووجوده في وطنه. 

خضر ياسين

محامٍ وناشط حقوقي من مدينة رام الله 

رأيك يهمنا