"مجلس الحرب" في إسرائيل...  اختلافات موضوعية وحسابات سياسية وشخصية

بعد الضربة الاستراتيجية التي تلقتها إسرائيل في السابع من أكتوبر خرجت في حرب متوحشّة تحت عنوان "معا ننتصر" وفي التزامن شكلّت مجلس حرب (إلى جانب مجلس حكومي مصغّر "الكابنيت") انضم إليه الحزب المعارض المعسكر الدولاني أو "عمحانيه همملاختيه" بالعيرية، برئاسة بيني غانتس والنائب غادي آيزنكوت وهما جنرالان في الاحتياط وقائدان سابقان لهيئة الأركان. وتفاءل الإسرائيليون خيرا بتشكيل مجلس حرب يشمل جهات من الإئتلاف ومن المعارضة خاصة أن النائبين المعارضين المشاركين فيه هما قائدان سابقان للجيش ولهما خبرة عسكرية بعكس وزراء كثر في الكابنيت الموسع لا يثق معظم الإسرائيليين بقدرتهم على إدارة دفة الحرب والسلم أصلا.  بيد أن الثقة الواسعة تراجعت نتيجة عدم اقتراب الحرب من تحقيق أهدافها العالية، استمرار نتنياهو بحملته السياسية على حساب مصالح عامة إلى جانب استمرار فضائح إئتلافه الحاكم والتي تجلت بتصريحات شعبوية ودموية لعدد غير قليل من أقطابه استخدمتها جنوب إفريقيا في المحكمة الدولية في هاغ وهذا ما أشارت له رئيسة المحكمة في قرارها يوم الجمعة 26/1/24 وهي تعلل وجود صلاحية للمحكمة في النظر بهذه الدعوى التي وضعت إسرائيل على كرسي الشبهة بارتكاب جريمة إبادة شعب "جينوسايد" داخل قطاع غزة. من شأن مثل هذه الثرثرة الدموية أن تثقل الضغوط على غانتس وآيزنكوت نحو مغادرة هذه الحرب التي تبدو بلا أفق ويسعى نتنياهو لجعلها مفتوحة ودون النظر بـ "اليوم التالي" وهذا رغم المطالبة الحثيثة للجيش بذلك وفق تصريحات وتسريبات متزايدة.

وكان تشكيل مجلس الحرب الذي يتولى إدارتها قد خلق توتّرا مع الكابنيت الموسّع الذي يشمل وزراء متشددين أمثال بن غفير وبتسلئيل سموتريتش وتم استبعادهم عن قرارات الحرب كـشرط غانتس من أجلِ انضمامه للإئتلاف الحاكم مؤقتًا. غير أن الخلافات سرعان ما اندلعت داخل مجلس الحرب نفسه ولم تتوّقف حتى الآن وهي قائمة في أكثر من محور ودوافعها لا تقتصر على خلافات في التوجهات، بل هي نتيجة رواسب وحسابات شخصية وطغيان مثل هذه الحسابات باتت ظاهرة ملازمة للسياسة الإسرائيلية في العقود الأخيرة خاصة منذ صعود نتنياهو الحكم في 1996. طالما كانت الخلافات والحسابات الشخصية أيضا جزءًا من السياسة في إسرائيل لكنّ مقاديرها ولهجتها وعلانيتها الآن غير مسبوقة.

اختلافات موضوعية وخلافات شخصية

من جملة عوامل انقسامات مجلس الحرب التي تخرج أحيانًا على نحو غير قليل إلى العلن هو فشل الحرب في تحقيق أهدافها العالية وسريان شعور الإحباط لدى أقطابه علما أن إسرائيل دخلت هذه الحرب بهذا الشعور وتحت صدمة السابع من أكتوبر، رغم تدمير القطاع تكبّدت إسرائيل أثمانًا اقتصادية هائلة وخسائر موجعة تبلغ اليوم 200 جندي قتيل وآلاف الجرحى في حرب تبدو مفتوحة ودون جدوى. ومن عوامل التوتر الذي يتفجّر أحيانًا داخل مجلس الحرب وداخل اجتماعات الكابنيت الموسّع هو محاولات المستوى السياسي التنصل من المسؤولية عما حصل. الجيش ممثَّل بقائده هليفي يقرّون بالفشل الذريع في السابع من أكتوبر لكنه يرى أن الفشل ليس استخباراتيًا عسكريًّا فحسب، بل استراتيجيًا تتحمل مسؤوليته الحكومة ورئيسها بعدما راهنت على إمكانية اقتناء الهدوء من حماس وزعمت أن هذه مرتدعة وخائفة حتى قلبت الطاولة على رأس إسرائيل وأخذتها على حين غرة.

الكفّ عن الكذب على أنفسنا

 بعد 108 أيام يرفض رئيس حكومة الاحتلال نتنياهو تلبية طلب المؤسسة الأمنية وبعض شركائه في مجلس الحرب وطلب واشنطن بـتحديد أهداف واقعية لـتتمة القتال، ملامح اليوم التالي بعد الحرب ورسم أفق سياسي يساعد الجيش في إنهاء مهامه بدلا من المراوحة في المكان والتورّط في حرب استنزاف. وتتهم أوساط إسرائيلية كثيرة نتنياهو بأنه يرفض ذلك ويطيل أمد الحرب من أجل إطالة عمر حكومته والبقاء في السلطة ولذا فهو يرفض أيضًا الاستجابة لمطالب عائلات المحتجزين وأنصارهم الكثر بضرورة استعادتهم أحياءً فورا حتى بثمن وقف الحرب دون نتائج. يثير ذلك غضب غانتس وايزنكوت ويسبّب خلافات داخل مجلس الحرب (وخارجه - مع معظم الوزراء الإسرائيليين) وعبّر غادي آيزنكوت عن ذلك بالقول إنه على باقي أعضاء مجلس الحرب الكفّ عن الكذب على أنفسهم، مطالبا بإظهار الشجاعة للتوصل إلى صفقة كبيرة تعيد المختطفين، بدل الاستمرار في القتال بشكل أعمى".

مظاهر الانقسام

وتتجلى الانقسامات والاختلافات على أنواعها داخل مجلس الحرب في تجليات كثيرة منها مشاركة الوزير فيه غانتس في مظاهرة حاشدة بتل أبيب خلال الأسبوع الماضي هاجمت أداء الحكومة في ملف المحتجزين في غزة. كما حمل آيزنكوت على نتنياهو علانية في مقابلة مطولة قبل أيام مع القناة 12 العبرية قال فيها إنه ليس واثقًا من عدم خلط الحسابات داخل مجلس الحرب داعيا إلى انتخابات عامة جديدة. علاوة على محور الخلافات بين غانتس وآيزنكوت مقابل نتنياهو شهد مجلس الحرب في الأسابيع الأخيرة توتّرات بين ايزنكوت وبين وزير الأمن غالانت على خلفية الاختلاف حول طريقة إدارة الحرب عسكريًا، وفق تسريبات عبرية. ولا يقل بروزًا وفضائحية محور الخلاف الذي بات مكشوفًا بين نتنياهو وغالانت بعدما بادر الأخير للتحذير من النتائج الأمنية الوخيمة المترتبّة على الاستمرار في "الإصلاحات القضائية" بخلاف موقف نتنياهو الذي سارع إلى إقالته بشكل مُهين في مارس/آذار الماضي وبالتزامن شنّ نجله يائير نتنياهو حملة قدح ضد غالانت في منتديات التواصل الاجتماعي، ومن وقتها مرت عنزة سوداء بينهما ويتجلى الاشمئزاز المتبادل في عدم التشارك في مؤتمرات صحفية بعد بعض مؤتمرات صحفية مشتركة فضحت لغة الجسد انعدام الثقة بينهما. ومما يزيد الطين بلة بينهما أن نتنياهو لا يحتمل وزراء مستقلين من حوله خاصة وزير الأمن.

تجليات التوتر

وتجلت هذه الخلافات ذات الطابع الشخصي في عدة حوادث مربكة منها إقدام نتنياهو منتصف يناير على منع مدير مكتب غالانت من حضور جلسة الكابينت، مما أغضب غالانت الذي اتهم نتنياهو بالتشويش على عمله، وانسحب محتجًا من الجلسة لمدة ساعة قبل أن يعود لاحقًا. وأكثر من ذلك فقد كشف موقع "والا" العبري أمس أن غالانت حاول اقتحام ديوان نتنياهو، وكادت الأوضاع تتدهور نحو عراك بالأيدي مع موظفي وحاشية رئيس الوزراء. وحسب التسريبات في "والا" فقد هدّد غالانت وزير الشؤون الإستراتيجية رون ديرمر المقرّب من نتنياهو بإحضار لواء غولاني للسيطرة على الوضع في مجلس الحرب". وبلغت أزمة الثقة بين مكونّات مجلس الحرب أنْ تعرض قائد الجيش هليفي لمحاولة تفتيشه عند دخوله اجتماع لمجلس الحرب ما أثار ضجة واسعة بعدما كشفت القناة 13 العبرية عن ذلك معتبرة الحادثة فضيحة. وجاءت محاولة التفتيش على خلفية شكوك نتنياهو بوجود بعض الجهات المشاركة في اجتماعات مجلس الحرب بتسجيل وتسريب بعض ما يدور فيه من مباحثات سرية. وفي هذا المضمار كانت مجموعة من الوزراء المقربين من نتنياهو قد أوقعوا بهليفي داخل كمين خلال اجتماع الكابنيت الموسع عندما حملوا عليه لمبادرته تشكيل لجنة فحص عسكرية لمجريات الحرب مما أدى إلى تراشق بين غالانت وايزنكوت وغالانت من جهة وبين بقية الوزراء فيما التزم نتنياهو الصمت واعتبرت صمته علامة الرضا، وأمس الأول كشفت القناة 12 العبرية عن مصدر مسؤول قوله إنه سمع نتنياهو يشكر على الوزيرة ميري ريغف المتميزة بلسانها الطويل على قيامها بـ"عمل ممتاز" عندما حملت على ليفي، ونوهت القناة أن هذا يندرج ضمن التوتر الكبير بين المستويين السياسي والعسكري. وفي مجلس الكابنيت الموسّع فإن الاختلافات والخلافات أكبر وأكثر فضائحية وتبلغ حدّ التراشق وفق تسريبات متتالية منها اشتباكات لفظية بين غالانت وبين وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير. وعلى خلفية كل ذلك يبدو أن فتيل غانتس وايزنكوت لم يعد طويلا وخروجه من الإئتلاف بات مسألة وقت في نظر مراقبين كثر وعندئذ سيكون انسحابهما إيذانا بحملة احتجاجات واسعة في الشارع الإسرائيلي ضد الحكومة وإدارته شؤون الحرب وفي الجبهة الداخلية أيضا.


تصوير: كوبي جدعون \ المكتب الإعلامي الحكومي.

وديع عواودة

كاتب, صحافي ومحلل سياسي فلسطيني

شاركونا رأيكن.م