نظرة النسر - إلى عالم ما بعد السابع من أكتوبر

لقد كُتِب في الآونة الأخيرة الكثير من المقالات الفكرية والبحثية عما يجري في جنوب هذا الوطن من صراع بين "أسد" اتَّضحت "أرنبيَّته" و"أرنب" اتَّضحت "أسَديَّته"، في محاولة لتفكيك التفاصيل وإعادة تركيبها بأشكال متباينة لعلَّ العقل تدبُّ فيه الحياة بعد ما أصابه من شلل الذهول فيَرَى ما لم يكن يراه ويفهم ما لم يكن قادراً على أن يستوعبه. 

فدعونا لمرة واحدة نحلِّق عالياً وننظر إلى الواقع بعيون النسر، لعلَّنا نرى ما لا يستطيع "النسناس" أن يراه على الأرض فنحذّره من الأخطار التي تحيق به ولا يراها. 

إنَّ أخطر ما يمكن أن يحدث للبشرية في هذا العصر هو أن تُستغَل أحدث اكتشافات العلم وأروع إنجازاته لخدمة غيبيات وخزعبلات اختلقها العقل البشري وفرضها على نفسه قبل أن يبدأ العلم مسيرته... أنْ يُستغلَّ أفضل ما توصَّل إليه العلم من اختراعات وابداعات تكنولوجية في خدمة عقائد الحقد وغيبيات الضغينة وقُدسيات الكراهية التي أقنع العقل البشري نفسه بها في عصر أكل الدهر عليه وشَرب... أن تُستغلَّ المُسَيَّرات الإلكترونية والقذائف الذكية والأقمار الصناعية وموجِّهات الليزر ووسائل التحكم الإشعاعي عن بُعد، في حرب يهوشع وإلهه ضد العماليق وآلهتهم، أو في فتوحات "دار السلم" في دار الكفر والتيه والحرب، على أرضٍ كانت تفور سمناً وعسلاً فجعلها إلهٌ افتراضي تفور أشلاءً ودماً، لأنه بمشيئته التي تتنافى مع العقل والمنطق قرر أن يبيد مَن فيها ويعطيها "لشعبه"! أخطر ما يمكن أن يحدث للبشرية هو أن يُستغَلَّ التقدُّم من أجل التخلُّف، والعلم من أجل الجهل، والذكاء من أجل الغباء، والتطوُّر من أجل الهمجية، والمحبَّة من أجل محبَّة الذات باسم الإله إلى حد إفناء الآخر وإبادته، بغض النظر عن من هي الذات ومن هو الآخر.  

غريب إلى أقصى حدود الغرابة كيف أن بشراً يفاخرون العالم بأخلاقيتهم وإنسانيتهم وديمقراطيتهم، وبحداثتهم وتفوُّقهم العلمي والعسكري، يعيشون ويتعاملون مع الآخر، ومع العالم بأكمله، في عام 2024 بعد الميلاد بأفكار ومشاعر وغرائز بشر يقودهم أحبار وكُهّان يعيشون في حوالي عام 1200 قبل الميلاد!! إنه الضعف في الانتماء، والتردُّد في الاعتراف بحقيقة الغايات والمآرب، والعجز عن مخاطبة العقل والضمير باللغة التي يفهمانها في هذا العصر. 

وفي هذه الحالة، حالة الصراع بين يهوشع وأهل أريحا، أو العكس، يزداد هؤلاء البشر فرعنةَ وغطرسة و"سَلبَطة" وعنجهية، فيمنحون أنفسهم الحق بكُره الآخر وفرض إرادتهم عليه ومطالبته بألا يكون نفسه، ويبيحون لأنفسهم اضطهاده وتحقيره وإذلاله والدوس على أبسط حقوقه الإنسانية والمدنية، بحجة حق الغالب على المغلوب. 

إن التسكيت بالقوة والعنف هو تكميمٌ للأفواه، وتكميم الأفواه بالقوة والعنف هو قمع فكري، والقمع الفكري هو إحدى مواصفات الدكتاتورية التي لا تليق بنظام يدَّعي أنه ديمقراطي، ولا تليق حتى بأي إنسان يحترم نفسه وإنسانيته في هذا العصر. هذا التناقض الذاتي يصيب الطرف القامع بالرعب والهلع، فهو يضطره إلى الإفصاح عن عكس ما يدَّعيه، وهو إذ يريد أن يقمع الفكر فإنه يعرف حق المعرفة أنه لا يقمَع إلا التعبير عن الفكر بينما يظل الفكر حراً من وراء الكواليس، ولذا فإنه يصاب بالرعب من الصَّامت إذا صَمَت بقدر ما يصاب بالرعب من المُتكلم حين يتكلم، ولذا فليس من المفاجئ أبداً أنهم باتوا في الأيام الأخيرة يحققون مع الصامتين؛ ما الذي تصمتون عنه؟ وما الذي يدور في أذهانكم ولا تريدون الإفصاح عنه؟ ومن ينتكس إلى غيبيات الماضي السحيق ويستمد غطرسته وعنجهيته من هناك، يعطي لنفسه الحق في أن يقمع الفكر لدى الآخر وليس فقط التعبير عنه، وهو في نفس الوقت يعرف أن هذا مستحيل، فالفكر لا ينصاع للإرادات مهما تجبَّرت ولا يُقمَع بالأوامر مهما قست، ذلك لأنَّ الفكر ينبع من الإحساس اللاإرادي بالانتماء العريق إلى نمط حضاري في الوجود. 

ومع ذلك فلنقل الحقيقة رغم كل شيء: ليس كل من يلوذ بالصمت منا في هذا الوقت العصيب يفعل ذلك لمجرد الانصياع للأوامر والخوف من العقاب، بل إنَّ الكثيرين منا يلوذون بالصمت لأنه لم يعد لديهم ما يقال. إنه نوع من الإفلاس اللغوي، من الاستقالة الذهنية، من الإحباط الناجم عن الاقتناع بلاجدوى اللغة والخطاب العقلاني في التأثير على ما يجري على أرض الواقع. فهذا الزمن لم يعد زمن المقارعة بالحجج والإدلاء بالبراهين، لم يعد زمن الفهم والتفهيم وإقناع الآخر بمنطقية الأشياء وحقائق الأمور، وإنما هو زمن الإيديولوجيات الغيبية المُغرقة في الكراهية تجاه الآخر المختلف إلى حد إنكار حقه في الوجود واستساغة إبادته بأبشع الطرق... إنه زمن القوة النابعة من وضع الذكاء البشري في خدمة الغباء والجهل والتخلف، وكأنَّ هناك علاقة جدلية بين الطرفين بحيث يغذي كل منهما الآخر الذي يقتات عليه. إنه زمن الفلسفة الاستعمارية الرأسمالية الانتهازية البشعة، التي تنص على أن لبعض البشر الحق في استعباد الآخرين واستنزاف طاقاتهم ومواردهم، وأنَّ لبعض البشر الحق في إبادة الآخر إذا ما شكل وجوده تهديداً بخدش أمنهم واستقرارهم وغناهم ورفاهيتهم، وهم في سبيل ذلك يملكون الحق في اختيار الوسائل من الحاضر والماضي، من نظريات العلم وخزعبلات العقيدة، من تكنولوجيات الرُّقيِّ وإيديولوجيات الكراهية... والعثرة، كل العثرة، لا تقع إلا على رؤوس الناس الفقراء الضعفاء البسطاء السُّذَّج ممن تلاعبَ بأذهانهم عجائز هذا العصر من قادة ورؤساء وكهنة. 

إنه عالم شبابي جديد لم تشهد البشرية مثيلاً له من قبل. ولقد أثبتت المآسي التي تجري في جنوب هذا الوطن أن النصر في التأثير على مستقبل هذا العالم ليس للبروباغندا الدعائية ولا للمنشورات والبروشورات ولا للأفلام المُفبرَكة ولا للخطابات الدبلوماسية الرنانة ولا لجهاز "الهسبَراه"، ولا حتى للتقارير الصحفية وأخبار القنوات الفضائية، وإنما النصر أولاً وأخيراً للكاميرا بيد الضحية تصوّر وتبثُّ واقع المأساة كما تجري على الأرض في لحظة الحدوث فتجوب هواتف العالم كله قبل أن تسقط الضحية أشلاءً تحت ركام الصواريخ والقذائف الذكية. ولكم أجبرت الصور المبثوثة من كاميرات الضحايا العديدَ من الشباب والصبايا في مختلف أصقاع الأرض على إعادة النظر فيما حُشر في رؤوسهم من أكاذيب وأفكار مشوَّهة وتاريخ مزيَّف وتحاملات عنصرية مجحفة لا أساس لها. ولذا فإن الصراع العالمي في الأجبال المقبلة لن يكون بين الشرق والغرب، أو بين الشمال والجنوب، أو بين الأديان أو الحضارات، أو بين الحيتان في رأس هرم الرأسمالية وأسماك السردين في قاعه، وإنما سيكون بين الشعوب وأنظمة الحكم في كل بلد وبلد، بين الأجيال التي عرفت الحقيقة من مصدرها الأول وبين جيل العجائز الذين يحاولون منعهم من ذلك وفرض أجندات الصراع القديمة عليهم لغرض في نفس يعقوب. ولعل هذه الأجيال الشابة لن تتمكن من الاستيلاء على مقاليد الحكم ومراكز القوة في العالم، ولكنها مع كل ذلك ستغيِّر "قواعد اللعبة" إلى الأبد. فالثورة الشبابية في أواخر ستينيات القرن العشرين لم تنجح في قلب أنظمة الحكم في العالم، ولكنها مع ذلك تركت آثاراً بالغة الخطورة على مصير البشرية؛ مدرسة فرانكفورت، والنزعة النقدية التفكيكية، وتيار ما بعد الحداثة، وانتشار الليبرالية العلمانية، وحركات تحرير المرأة، وكتلة دول عدم الانحياز، وغير ذلك الكثير. فحتى لو لم ينجح شباب اليوم في قلب موازين القوى في العالم المقبل وتخليصه من كل مساوئه وتشوهاته، فإن عالم ما بعد السابع من أكتوبر عام 2023 لن يكون هو العالم الذي كان قبله. 

أوليس في هذا ما يدعو إلى التفاؤل في عالم تغلب على بروفايلات الناس فيه الصناديق السوداء حداداً على الحق والحقيقة والعدل والعقلانية ومستقبل البشرية؟! 


تصوير: هاني الشاعر.

د. مصلح كناعنة

باحث ومحاضر في مجالي علم الإنسان وعلم النفس. حاصل على شهادة الدكتوراه بامتياز في علم الإنسان من جامعة بيرغن في النرويج وله خمسة كتب وأكثر من 30 مقالة بحثية منشورة في مجلات عربية وعالمية

شاركونا رأيكن.م