إن الحرب التي شنتها إسرائيل رداً على أكبر هجوم شهدته منذ عام 1973 مرعبة. مثل كل حرب، يدفع الأبرياء العزل الثمن الأعلى، فقد وصل عدد الضحايا الى 1,200 قتيلا إسرائيليا وأصيب نحو 3000 آخرين على يد مقاتلي حماس. على الجانب الفلسطيني، الخسائر أعلى كالعادة: فقد استشهد أكثر من 14,800 فلسطيني، أكثر من 6,000 من بينهم من الأطفال، وأصيب أكثر من 36,000، وشرد مئات الالاف، كما دمر القصف الإسرائيلي المتواصل أحياء بأكملها في غزة وحولها إلى أنقاض تعيدنا الى صور شاهدناها في ماريوبول في أوكرانيا أثناء الهجوم الروسي في عام 2022 أو الى حلب أثناء الحرب في سوريا، ولكن على نطاق أضيق بكثير حيث لا تتعدى مساحة قطاع غزة أكثر من 365 كم مربع.

تعيدنا هذه الحرب الى حقيقة ان النكبة مستمرة وأن الاستعمار الصهيوني عازم برأيي على إبادة الشعب الفلسطيني وتهجيره من أرضه. كفلسطينية تعيش في الولايات المتحدة منذ ما يقرب من خمسة وعشرين عامًا يسترجعني هذا القصف الهمجي على الشعب الفلسطيني الى الغزو الإسرائيلي على لبنان في العام 1982. آنذاك أيضًا أعلنت إسرائيل أن هدفها هو القضاء على "الإرهابيين" الفلسطينيين، كما عرفت إسرائيل منظمة التحرير الفلسطينية في ذلك الوقت. آنذاك أيضًا كان حجم الدمار الذي سببته إسرائيل هائلاً: فقد نُهبت قرى، وتم تدمير المخيمات، وخُنقت بيروت بسبب الحصار الإسرائيلي الذي دام 88 يوماً، وتم تجوّيع سكانها وحرموا من الماء والكهرباء، كما طرد الفلسطينيين من مواقعهم وذبح أولادهم في صبرا وشاتيلا. وفي تلك الحرب أيضاً لم يقف العالم في وجه إسرائيل، كما لم تحاول الدول العربية نجدة الفلسطينيين الذين تركوا وحدهم لحتفهم.

تختلط مشاعر الذنب واليأس والصدمة الفردية والجماعية لمن يعيش في الشتات في كل مرة تشن حرب جديدة على شعبنا. نرجع ونتساءل ما هو دورنا، انا وأخواتي في الشتات، في مناصرة أهلنا في غزة، وكيف لنا أن نؤثر على الإعلام الغربي الذي يصر على إسكاتنا وتهميش قضيتنا وتحريم أي حديث حول عدالة مطالبنا وحقنا في الحرية والحياة؟ كيف يمكننا أن نتعامل ونخترق السردية الصهيونية المهيمنة في الغرب والقوى العظمى الغربية المتحالفة مع نظام الفصل العنصري الإسرائيلي؟ ما هو تأثير تصميمنا على التظاهر، والتعريف والتعبير عن حقوقنا، وتنظيم جمعياتنا الاجتماعية والثقافية والأكاديمية في الضغط على، إن لم يكن تغيير، السياسة الخارجية الأمريكية ووسائل الإعلام الغربية الرئيسية التي تستمر في تجريدنا من إنسانيتنا؟

لكل حرب جبهة عسكرية وجبهة إعلامية، فشبكات الإعلام الغربية تلعب دورا جوهريا في تفسير، أو تضليل، ما يجري للمشاهد الامريكي وعرض كيفية إنهاء الصراع أو تمدده. في هذا السياق كان ملفتا للنظر كيف بدأت كلا من "سي إن إن" و"إم إس إن بي سي"، القنوات الإخبارية الليبرالية الرئيسية، في الأسبوع الأول من الأحداث بمحاولة شرح هجوم حماس، وإجراء مقابلات مع محللين أمريكيين، ومسؤولين عسكريين ودبلوماسيين سابقين حول أسباب الهجوم وتداعياته. كما أكد كثيرون أن هجوم حماس يكشف  فشل الاستخبارات الإسرائيلية بتوقع مثل هذه العمليّة لربما بسبب اتكالها على سياستها الاستراتيجية بسجن 2.3 مليون فلسطيني خلف الجدار، وتحت الحصار، وفصلهم عن أولئك الذين يعيشون في الضفة الغربية. وذهب بعض من أجريت معهم المقابلات إلى حد القول إن إسرائيل لا يمكنها تجاهل محنة الفلسطينيين، ويجب عليها معالجتها، وليس تجاهلها.

لكن هذه الموضوعية التي حاول بعض الصحفيين الحفاظ عليها تآكلت مع مرور كل يوم جديد وإعلان إسرائيل الحرب على غزة. وأخذت الرواية الإسرائيلية تترسخ بسرعة هائلة، فهيمنت صور القتلى الإسرائيليين والمقابلات مع أقاربهم المكلومين على نشرات الأخبار وتحولت معاناة الفلسطينيين إلى مجرد لقطات كاميرا ثابتة تظهر الدمار المسحوق الذي بدا سرياليًا، معلقًا، دون ان تظهر أي صور للجثث الفلسطينية تحت الأنقاض، والأطفال الذين يبكون، والعائلات الفلسطينية المنكوبة. وأعاد الصحفيين مرارا وتكرارا حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها وامتنعوا عن شرح الواقع الذي يتكشف في غزة، ناهيك عن شرح وجهات النظر الفلسطينية أو العربية.

ولكن شيئا ما قد تغير. فحدة الردع الإعلامي الإسرائيلي ومحاولته الشرسة في السيطرة على السردية الغربية لما يجري على أرض الواقع تشير إلى مدى قلق إسرائيل من التقدم الذي أحرزه الفلسطينيون في فرض وجودهم دوليا وشرح عدالة قضيتهم على مدار العقود الأخيرة. فعلى عكس ما كان عليه الحال قبل 30 عامًا، عندما كان الفلسطينيون يهمّشون او يعّرفون على أنهم "إرهابيون"، نرى اليوم أنهم متواجدون في كل جامعة ومؤسسات حكومية وغير حكومية، وأعضاء منتخبين في الكونغرس الأمريكي ومجالس المحلية، ونشطاء وإعلاميين ومفكرين وأكاديميين ورؤساء شركات كبرى وأطباء وعلماء فخورين وغير خائفين من إثبات وجودهم وهويتهم. لم نعد بحاجة إلى إذن لنروي روايتنا، كما قال إدوارد سعيد، رغم إصرار إسرائيل على حرماننا من أي منتدى اعلامي كان أو غيره، وخصصت موارد كبيرة لإنكار وجودنا في الكثير من المجالات. لقد أظهر حصار غزة، وعنف المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية، والحملة المتواصلة لتهجير الفلسطينيين وهدم منازلهم في القدس الشرقية وغيرها من البلدات، وممارسات التمييز العنصري ضد المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل، سياسة إسرائيل كدولة استعمارية استيطانية تكرس نظام الفصل العنصري القمعي على أرض فلسطين التاريخية.

 في مؤتمره صحفي المنعقد يوم 10 تشرين الأول/أكتوبر، أكد الرئيس بايدن دعم الولايات المتحدة المطلق لإسرائيل وحقها المشروع في محاربة "الشر". من الملفت للنظر انه اختار أيضا أن ينهي كلمته بلقائه مع غولدا مائير عام 1973، رئيسة الوزراء الإسرائيلية الشهيرة لإنكارها وجود الشعب الفلسطيني ("ليس هناك شيء إسمه فلسطينيون"). أخبرت مئير بايدن في ذلك الاجتماع أن الإسرائيليين ليس لديهم مكان آخر يذهبون إليه وذلك أقوى سلاح تمتلكه إسرائيل لحماية وجودها. بعد مرور خمسين عاماً على ذلك الإعلان، اثبت الفلسطينيون مرة أخرى أنهم أيضا باقون على أرضهم ولن يذهبوا إلى أي مكان، مهما كانت التكلفة. على المجتمع الدولي أن يذكر إسرائيل بهذه الحقيقة وأن يضع حداً لمعاناة الفلسطينيين واليهود على السواء استنادا للمرجعيات القانونية الدولية.


تصوير: أشرف أبو عمرة.

بروفيسور ليلى فرسخ

أستاذة العلوم السياسية في جامعة ماساتشوستس ببوسطن في الولايات المتحدة

شاركونا رأيكن.م