حالات الطوارئ: فرصة لصياغة نموذج للتكافل المجتمعي

أثّرت حالات الطوارئ على المجتمع الفلسطيني في إسرائيل على اختلاف سياقاتها، انعكاساتها وارتداداتها في كافة المجالات التربوية، التعليمية، الحقوقية، الاقتصادية، السياسيّة، القيميّة، الحريات الشخصيّة، حرية الحركة والتنقل، الحق في الانتظام، وحريّة التعبير عن الرأي. تشير التقارير الرسميّة والمهنيّة إلى غياب المؤسسات، الأجسام والمرافق الخدماتية التي من شأنها أن توفر احتياجات المجتمع العربي في حالات الطوارئ السياسية، الصحية والبيئية كنتيجة مباشرة للغبنِ التاريخي والسياسات التمييزية التي انتهجتها المؤسسات الرسمية في إسرائيل بحق مجتمعنا، فضلًا عن أوضاع البلدات والسلطات المحلية العربية الأمر الذي من شأنه  أن يعمّق الأزمة ويزيد من صعوبة التعامل مع حالات الطوارئ واسقاطاتها على مجتمعنا في كل المجالات الحياتية تقريبًا. إزاء هذا الواقع الذي يتسم بغياب الدولة وانحسار دورها وتقويض مرافقها الخدماتية يبرز دور المبادرات الأهليّة التي تسعى بشكلٍ جاد لسد الفراغ وملء المساحات الشاغرة الناجمة عن السياسات التمييزية وإمكانات السلطات المحليّة العربية الضئيلة مؤسساتيًا، تنظيميًا، مهنيًا واقتصاديًا.  

ومن الأهمية بمكان إجراء فرز وتمييز تفاضلي بين حالات الطوارئ المختلفة وتعامل الدولة مع كلّ منها. صحيح أن هنالك تمييز صارخ بحق المجتمع الفلسطيني في إسرائيل إلّا أن هناك تعامل مختلف من قبل الدولة ومؤسساتها مع كل واحدة من الأزمات الطارئة. عليه تتعامل الدولة بشكل تبايني ومختلف مع الكوارث الطبيعية والأزمات الصحية مثل الهزات الأرضية وجائحة كورونا حيث تقوم بتوفير الاحتياجات الأساسية للمواطنين والتقليص من التأثيرات السلبية لمثل هذه الأزمات. خلافًا لذلك، فإن حالات الحرب والأزمات السياسية تقود إلى تعامل مختلف كليًا بحيث نشهد حالة من الاستعداء وتنطلق الدولة وأذرعها السياسية والأمنية من فرضية أن المجتمع الفلسطيني في إسرائيل هو طابور خامس أو مواطنين درجة ثانية في أفضل حالة، وعليه فإن أولوياتها ومواردها وسياساتها تنحاز بشكل كبير للمجتمع اليهودي من جهة ونشهد حالات عديدة من التحريض والملاحقة التي تمس في مكانة المجتمع الفلسطيني في إسرائيل.  انطلاقًا من هذا الواقع المعاش، فإن حالات الطوارئ السياسية تشمل بين طياتها حالة من التوتر والمواجهة المباشرة أو الخفية، بين الدولة ومؤسساتها وبين المجتمع الفلسطيني في البلاد. بناءً عليه، فإن المبادرة لإنشاء فعاليات وأنشطة ومرافق للتعاطي مع حالات الطوارئ لا تأتي إلا من المجتمع المدني الأهلي ككل ليشمل الجمعيات والأحزاب، القطاع الخاص والمبادرين وسائر الأطر الفاعلة لتشكل نموذجًا اوليًا للتكافل المجتمعي.

التكافل المجتمعي في معناه الواسع يشير إلى شبكات العلاقات الاجتماعية التي تنطوي على الاعتماد المتبادل والمسؤولية والاستحقاق داخل مجموعة محددة من الناس أو المجتمع، وإلى دور القيم الاجتماعية مثل التطوع والتبرع والتضامن والمعرفة والخبرات المتراكمة وتبادل المعلومات، إلى جانب دور الشبكات الاجتماعية في تعزيز صمود المجتمعات المحلية والحفاظ على حصانتها في حالات الطوارئ.

بموجب التعريفات الدولية الرائجة، فان إدارة الأزمات وحالات الطوارئ تتطلب جهود كبيرة ومستوى عالٍ من التنسيق بين الأنشطة والمؤسسات الفاعلة، فضلًا عن إدارة الموارد وتقاسم وظائفي للمسؤوليات المتعلقة بتخفيف حدة حالة الطوارئ ورفع منسوب الجهوزية والاستعداد لها والاستجابة لها والتعافي منها أو تجاوزها بأقل ضرر ممكن ليتسنى للمجتمع الواقع تحت أزمات أن الطوارئ أن يعيد إنتاج مقومات صموده وديمومته. يشتمل هذا الجهد على جمع البيانات، المعطيات والمعلومات، إدارتها وتحليلها بغرض صياغة توجهات في كل مرحلة من مراحل  إدارة الأزمات وحالات الطوارئ.

كما أشرت مسبقًا، لكل أزمة وحالة طوارئ، وإن اختلفت سياقاتها، ثلاث مراحل أساسية: الاستعداد، والاستجابة والتعافي. 

مرحلة الاستعداد ترتكز على "الذاكرة الجماعية" لنا كأفراد وكمجموعة، خاصةً وأننا كمجتمع فلسطيني في إسرائيل، نمر بأزمات في أحايين متقاربة، متتالية ومتعاقبة، مما يحتم علينا التجهز وبناء الحصانة المجتمعية بشكلٍ مستمر. كما هو معروف فان حالات الطوارئ متعددة ومتغيرة ولها سياقات مختلفة منها الأزمات الصحية والبيئية والطبيعية بالإضافة ايضًا إلى السياسية نتيجة للصراع الإسرائيلي- الفلسطيني والتصعيد المستمر في هذا المضمار.

في أعقاب تجربة المجتمع المدني في إدارة وتركيز عمل الطوارئ خلال هبة الكرامة – أحداث أيار 2021، وبعد ان دفع مجتمعنا اثمان باهظة من ملاحقات واعتقالات وأحكام قانونية ثقيلة، بات واضحًا ضرورة الاستعداد، التنسيق والعمل التبادلي بين الأطر الفاعلة، على أن تكون لبناتها وركائزها المهنية، التشاركية والشفافية والتدخل الفوري بهدف صياغة نموذج أولي يجسِّد مصطلح "التكافل المجتمعي" على أرض الواقع. 

شملت مرحلة الاستعداد ايضًا بناء شبكة "الائتلاف" التي تضم عشرات المؤسسات الشريكة والتخصصية من مجالات مهنية متنوعة، تدريب وتأهيل مجموعات من المتطوعين والمركزين بغية جمع البيانات والمعطيات رصدها وتوثيقها، بالإضافة إلى وضع آليات عمل تشمل لجنة تركيز وتفعيل وآلية اتخاذ قرارات بشكل جماعي، مهني وناجع.

 أما مرحلة الاستجابة فإنها تُعنى بتوفير الاحتياجات الأساسية، متابعة المشاكل والقضايا المركزية ومحاولة حل المعضلات. عليه، فإن مرحلة الاستجابة بحاجة لكوادر مهنية، عمل منهجي وتراكمي لإضفاء الشرعية لهذه الجهود ونسج شبكة الأمان التي يفتقر إليها مجتمعنا. نتيجة للتطور الملحوظ في رأس المال البشري ولكون مجتمعنا "ولّاد" ويزخر بقيّم التطوع والتبرع والتضامن والمعرفة والخبرات المتراكمة فقد تشكلت الاستجابة بصيغ مختلفة من المبادرات والعمل التشاركي من مبادرات محلية وقطرية لإقامة غرف طوارئ محلية، تدريبات، منح خدمات عاطفية ونفسية، تربية لا منهجية وتحضير طرود غذائية وغيرها. علاوةً على ذلك، تميزت مرحلة الاستجابة بعمل مهني بارز يرتكز على المعطيات التي تم رصدها في مرحلة الاستعداد وخلال التطورات في الأحداث، حيث كان واضحًا من الأيام الأولى ضرورة العمل على رصد المعطيات مباشرة وجمعها من الحقل فيما يتعلق بالاعتقالات، الاقالات من العمل، الملاحقات السياسية في الجامعات، الاعتداءات والمنشورات التحريضية ضد المجتمع العربي. 

إن الهدف من الرصد وجمع المعطيات له أهمية بالغة في التعامل خلال حالات الطوارئ، لأنه من خلال المعطيات الحقيقية يمكن كشف المخططات والتصدي لها، ولكن ايضًا، وربما الأهم هو الاستجابة للاحتياجات وإعطاء الخدمات الملائمة لكل المتضررين والتي تمثلت في المساندة، الاستشارة والمرافقة القانونية والعمل على وقف التحريض والملاحقة وزيادة منسوب الوعي للتكافل المجتمع والتحرك المشترك على كافة المستويات.

أما الأخيرة، فهي مرحلة التعافي ولأننا في خضم الحدث ولا زلنا في قلب الحدث فإننا لم نبدأ بها حتى الآن، ولكنها آتية لا محالة، وتحتاج إلى التخطيط المناسب لها، لأنها ستشمل تقييمًا للأضرار بعد انتهاء حالة الطوارئ، وستكون اللبنة الأساسية لإعادة بناء اللحمة المجتمعية، وتثقيف المجتمع ورفع الوعي ومنسوب الحصانة الداخلية، وأيضا تطوير ممارسات أفضل لضمان تعامل أفضل في حالات طارئة مستقبلية محتملة.

من المهم القول أن التعامل مع حالات الطوارئ وإدارتها يشتمل على ثلاثة مراحل كما أسلفت أعلاه إلا أن المحصلة النهائية لتجاوز الأزمات والانطلاق من جديد مرهون بالأداء المهني والجمعي في كل مرحلة على حدى وأي خلل في كل مرحلة سينعكس بالضرورة على المرحلة التي تليها وعلى الأداء النهائي. لا يمكن التغاضي عن المخاطر والتهديدات الكامنة جراء الحالة السياسية وخصوصًا وجود عناصر من اليمين الجديد التي تسلمت ملفات وزارية في الحكومة الأخيرة وتسعى بشكلٍ حثيث لفتح باب المواجهة مع المجتمع العربي على مصراعيه وهذا يتطلب من جميع المؤسسات الأهلية والمرجعيات السياسية التفكير بشكل جماعي وتفويت الفرصة على من يريد المس بمكانة المجتمع الفلسطيني ونزع الشرعية عنه من خلال التحلي بالمسؤولية والالتزام بالموقف الأخلاقي والقيمي الإنساني الكريم والعادل. 

اديلا بياضي شلون

مستشارة تنظيمية وموجهة مجموعات. حاصلة على لقب اول لغة وأدب إنجليزي وإدارة مؤسسات تربوية، حاصلة على لقب ثاني في العلوم السياسية من جامعة حيفا؛ ومديرة مشاريع في "قضايا" معهد قيادة وإدارة حملات في المركز العربي للتخطيط البديل. أحد قيادات "الائتلاف لرفع نسبة التصويت في المجتمع العربي" ومديرة حملة من باب لباب في إطار الائتلاف. كما وتنشط في عدة أطر، وتركز نشاطات مكثفة في حالات الطوارئ.

 

كريم
مقالة رائعة ومهمة في ظل هذه الفترة. اعتقد ان هناك حاجة لنشر هذه المبادرات المجتمعية بشكل أوسع ودعوة الجمهور والختصين، كل في مجاله، للمساهمة فيها ولو لفترة محدودة.
الجمعة 1 كانون الأول 2023
شاركونا رأيكن.م