التحوّلات السياسية والحزبية الإسرائيليّة والفلسطينيّة جراء حرب السابع من أكتوبر
لطالما كان اندلاع الحروبِ نتاجًا لقرارات سياسيّة تهدفُ لتحقيق غايات وأهداف استراتيجيّة وتكتيكيّة، تخدمُ بدورها الرؤية السياسيّة لمتخذيها والمُتعلّقة بالسلمِ والحربِ. ينطبق هذا الأمرُ على الحرب الحالية الجارية منذ السابع من أكتوبر الماضي، والتي باغتت وصعقت كلّ إنسان ذي ضمير حيّ، خاصّة عند طرح التساؤل حول الغايات والأهداف التي تنصبها القيادات القائمة عليها وتحاولُ تحقيقها. وبالرغم من أنّ موضوعنا الأساسي في هذا السياق لا يُعنى بخوض التحليل الأخلاقي، الّا أنه لا مناص من طرح سؤال مصداقية توظيف العنف العسكري لتحقيق غايات ومآرب سياسيّة، وإن كانت شرعية، في الوقت الذي به هناك ثمن إنسانيّ باهظ يدفعه بعضهُم، خاصّة المدنيين العزّل، لتحقيق أماني ومصالح كان جائزًا تحقيقُها بآليات بديلة.
في بعض الأحيانِ، تنشبُ الحروبُ بدون صياغة أهداف واضحة يجهرُ بها أصحاب الشأن، خصوصا لأولئك الذين يدفعون الثمن الأكبر نتيجتها. ما يعني ذلك بأنّ علينا أن نفرّق بين حروبٍ تُصاغ غاياتُها وأهدافها على نحو علنيّ تستبقُ وقوعَها حيث يمكننا بعد ذلك فحص مدى أو وتيرة ونجاعة تحقيقها على مدار الزمنِ، وبين حروبٍ تحملُ أهدافًا غير مُعلنة نشتقّها نحن من صلب العمليات العسكرية التي يتم تنفيذها خلال فترة وقوعها. على أرضِ الواقعِ، في كثير من الأحيان والأصحّ في غالبيتها، تكون غايات الحرب الحقيقيّة غير مُعلنة، لتغدو المُعلنة غطاءً يسعى لتشتيت الأنظار عن أهداف وغايات أبعد وأعمق بكثير مما هو معلن. ما يُعنى في هذا الحديثِ، بأنّه عند النظرِ الى أيّ حالة ونموذج حرب، علينا منذ البداية ألّا نكتفي بغاياتها وأهدافها المُعلنة، بل الأخذ بفعل الغوص العميق لمجرى أحداثها وعملياتها العسكرية وغير العسكرية كذلك لفهم منطقها ونظم وشكل معاركها والمقصود منها.
مما هو مُزمع عليه، إنّ الحرب الحالية الجارية منذ السابع من أكتوبر 2023، تملك مقاصد وتبعات هادفة الى تغيير معالم الصراع الإسرائيليّ-الفلسطينيّ على جميع مستوياته وأنماطه، ما يدفعنا بالتالي الى افتراض تبعاتها وإسقاطاتها الاستراتيجيّة، السياسيّة، المحليّة، الإقليميّة والدولية الكبيرة والتي من الصعب تكّهن كل مركباتها حتى الآن. مع ذلك، من الجائز البوح بأن شكل هذه الحرب الحالية وكيفية إدارتها لهما دون شك تبعات عميقة على الواقع الاستراتيجي في المنطقة برمتها وعلى توازنات القوى بين أقطابها.
للمباغتة الفلسطينية في السابع من أكتوبر وما نتج عنها من كشف عورة المنظومة العسكرية الإسرائيلية والثمن الباهظ بالأرواح، إسقاطات استراتيجية وعسكرية وسياسيّة ونفسيّة، حيث أنها دبت الرعب وأوقعت الهلع في قلوب الإسرائيليين، الذين باتوا يشكّون بقدرة المؤسسة الأمنية وقياداتها على الدفاع عنهم وقت الحاجة، ما دفع بالقيادات العسكرية والأمنية والسياسية إلى محاولة إدارة الحرب بشكل يهدف إلى الانتقام وتدفيع الثمن والترهيب حتى للمدنيين العزّل، بناءً على الاعتقاد أن ذلك سيردع الأجيال القادمة من اتخاذ مواقف وخطوات عنفيّة، بدلا من وضع أهداف واقعية من شأنها خلق واقع سياسي جديد يخدم ضمان الأمن والأمان لمستقبل طويل الأمد لجميع أطراف الصراع.
إن شكل الحرب الإسرائيلية في غزة يؤول الى الاستنتاج البسيط بأن أهدافها لا تقتصر عما هو معلن رسمياً فيها، حيث أن عمليات القصف العشوائية والهدم الممنهج والاقتلاع السكانيّ الجارف، له مقاصد وغايات تطاول كل أقطاب الصراع الاسرائيلي- الفلسطيني من جهة، وتصنع صورةً مخيفةً موجهةً ويتم بثّها ليس للفلسطينيين فحسب وإنما للبنانيين أيضاً من أجل الضغط على حزب الله، خصوصاً في بداية المواجهة مع المقاومة الفلسطينية، الامتناع عن أخذ خطوات من شأنها توسيع رقعة الحرب من جهة أخرى. ومن تبعات هذه الحرب الطويلة والقاسية ستكون التغييرات التي ستؤدي إليها في تشكيلة القيادات السياسيّة في كلا طرفيها، الإسرائيلي والفلسطيني وهو ما سنوجه إليه الأنظار في السطور الآتية.
لا يغيب بأنّ المبادر لهذه الحربِ، وبشكل غير معهود، هي القيادة الفلسطينيّة لحركة حماس في قطاع غزّة والتي اتخذت قرارًا استراتيجيًّا تاريخيًّا، تكمن داخله العديد من المخاطر المُتعلّقة بموازين القوى القائمة على الأرض من جهة، وتعميق الانشقاق الفلسطيني الداخلي بسبب تبعات الحرب من جهة أخرى. هذه المخاطرة التي قدمت إليها بعض القيادات الفلسطينيّة صاحبة القرار، لها تأثيرٌ كبيرُ الحجمِ على مستقبلها السياسيّ، إذا كان بمقدورها أصلاً الخروجِ من هذه الحربِ سالمةً. بات من الواضحِ بأنّ ما حققته المفاجأة العسكرية للهجوم المباغت الفلسطينيّ في السابع من أكتوبر 2023، سوف يحفظ ويسجّل قياداته ليس في التاريخ الفلسطينيّ فحسب وإنما في التاريخ العسكري - العالمي كذلك. الّا أنّ هناك بونًا شاسعًا بين تسجيل أسماء هذه القيادات في صفحات التاريخ الفلسطيني والعسكري، وبين قدرتها على حفظِ بقائها السياسيّ، وذلك لأن العديد من جوانب ومركبات هذه الحرب لم تكن متوقعة ولم يكن من الممكن التكهن بها أو توقعها أو التخطيط لها مسبقا، خصوصاً بسبب المفاجأة من هشاشة المنظومة العسكرية الإسرائيلية كما تجلت في السابع من أكتوبر من جهة والحاجة الماسة للقيادة السياسية والعسكرية الإسرائيلية إعادة الثقة النفسية والمعنوية للجمهور الإسرائيلي بالمؤسسة الأمنية والسياسية وبالتالي اتخاذ إجراءات عسكرية وأمنية قصوى وغير مسبوقة من جهة أخرى.
تفرض هذه الحرب تداعيات وتبعات كبيرة على تشكيلة القيادات الفلسطينيّة المستقبليّة، خاصّةً في ظلّ عجز القيادات التاريخيّة لمنظمة التحرير الفلسطينيّة وما نتج عنها في إطار السلطة الوطنية الفلسطينية من تجاوز للنخب السياسيّة التي تمثل المقاومة الفلسطينيّة في قطاع غزّة التي بادرت الى هذه الحرب، والتي تولّد عنها ثمن إنسانيّ وماديّ باهظ جدًّا سحق جزءًا كبيرًا من مقدرات الشعب الفلسطينيّ وحوّل حياة شرائح كبيرة منه إلى جحيم طويل الأمد وثقيل الوقع. إن نشوء قيادة حركة حماس وحركة الجهاد الإسلامي، خصوصاً في قطاع غزة، عبّرت عن تحّولاتٍ عميقةٍ في المجتمع الفلسطينيّ، نبعت من خلافات داخلية حول مسار نضال التحرر في ظلّ اعتقاد فئات واسعة من الشعب الفلسطيني أنّ قيادات منظمة التحرير انحرفت عن المسار السياسي الصحيح بنظرها، بتخليها عن المقاومة العسكرية وتعويلها على المسار الدبلوماسي لتحقيق الاستقلال، والذي أثبت بأنّه لا يجدي نفعًا. لهذا، طرحت هذه القوى منظوراً سياسياًّ واستراتيجيّاً بديلاً، محوره الأساسيّ هو الإبقاء على تكوينة سياسيّة وعسكريّة قادرة على تغيير موازين القوة مع إسرائيل ومحاولة خلق معادلات سياسية من شأنها أن تلزم الطرف الإسرائيلي بالتراجع عن بعضٍ من مواقفه من أجل حلّ الصراع. في هذا السياق، عكفت قوى المقاومة على خلق تحالفات إقليميّة وعالمية من شأنها أن تساعد في إحداث تغييرات إستراتيجيّة منشودة، وعلى رأس ذلك التحالف الذي أقامته مع قوى المُقاومة في الإقليم، وفي مقدمتها إيران. وفي ظل الواقع الصعب الذي آلت اليه الحالة الفلسطينيّة في الأراضي المحتلّة، وعدم قدرة قيادة السلطة الفلسطينية على تحقيقِ إنجازات يتمّ من خلالها قلب هذه الحالة، التي تواجه قوى إسرائيلية آخذة بالتشدد والتزمّت والتي تحدّ من قدرة الفلسطينييّن ممارسة أبسط سلوكيات الحياة اليومية، وبعد عدة مواجهات عسكرية بين حركة حماس وحركة الجهاد الإسلامي مع الجيش الإسرائيلي، قامت الحركتان بالهجوم المفاجئ في السابع من أكتوبر، الذي وضعت له عدّة مسوّغات على رأسها محاولات تهويد المسجد الأقصى، وسياسات الضم الاستيطانية، والوضع الصعب للعدد الكبير من السجناء الأمنيين الفلسطينيين والحصار طويل الأمد والقاسي على قطاع غزة. هدَفَ الهجوم الفلسطيني إلى مباغتة قوى الأمن الإسرائيلية وفرض واقع أمني جديد من شأنه تغيير موازين القوى من خلال انخراط قوى إقليمية في الحربِ، وتدخّل دوليّ من شأنه زحزحة الواقع الذي لم تعد تحتمله قوى المقاومة.
إن الردّ الإسرائيلي القاسي والذي أدى إلى موت عشرات الآلاف من المدنيين الفلسطينيين، وإلى انهيار شامل للبنى التحتية، ولدمار أعداد هائلة من مباني السكن في كّل أنحاء القطاعِ وتهجير مئات الآلاف من الفلسطينيين، عدا عن ضرب القوة العسكرية للحركتين وإفساد قدراتها الدفاعية والهجومية على حدّ سواء، يبقي التساؤل حول مدى تحقيق حماس والجهاد أهداف الحرب مفتوحاً على مصراعيه. وإذا ما أزحنا النظر عن الجانب العسكري ووجهنا اهتمامنا نحو تبعات الحرب السياسيّة، من الصعبِ أن نتجاهل المخاطرة السياسيّة التي اتخذتها قيادات الحركتين والإسقاطات المباشرة على تشكيلة النخب والقيادات السياسية للشعب الفلسطيني بأكمله. وبالرغم من صعوبة تكهن التشكيلة العينيّة للنُخب والقيادات السياسيّة الفلسطينيّة في المستقبل، إلّا أنه لا يمكن لنا تخيّل أيّ نموذج سياسي فلسطيني مُستقبلي دون الأخذ بعين الاعتبار التوازنات الجديدة بين القيادات الفتحاوية التي تراجعت ثقة الجمهور بها في السنوات الأخيرة لأسباب عديدة من أهمها انعدام جدواها في مواجهة سياسات الاستيطان والقمع الإسرائيلية، وبين قيادات حماس والجهاد وإمكانية نشوء جيل جديد من القيادات لا تزال معالمها غير مكتملة حتّى الآن. ومن المرجح وسط ذلك أن تُحاول إسرائيل وضع شروط تحد من إمكانية انخراط قيادات كانت ضالعة في هجوم السابع من اكتوبر في أيّ تشكيلة سياسية فلسطينية مستقبلية. إلا أنه من الصعب أن نتخيّل واقعًا فلسطينيًّا في ظلّ تجربة الحرب القاسية في قطاع غزّة واستمرار العمل العسكري القمعي الإسرائيلي الممنهج في مدن وقرى الضفة الغربية، وإسقاطاتها الاجتماعية والنفسية الحؤول دون دمج جميع القوى القائمة على الشأن الفلسطينيّ بما في ذلك الذين خاضوا الحرب الأخيرة في عمليات اتخاذ قرار وتشكيل مستقبل الشعب الفلسطينيّ بأكمله. كما أنه من الصعب تصوّر إمكانية تستطيع فيها القيادات الرسمية وعلى رأسها قيادة حركة فتح، أن تقوم بتحركات سياسية مستقبلية تحظى بشرعية جماهيرية دون أن تأخذ بعين الاعتبار قيادات من حماس والجهاد، ليسوا بالضرورة كانوا ضالعين في هجوم السابع من أكتوبر. لهذا، من الجائز القول إنّ حرب السابع من أكتوبر ستؤدي إلى تحوّلات وولادة صراعات جديدة في بنية القيادات والنخب الفلسطينية من الصعب التكهّن بأكملها الآن، إلا أنها ستؤدي إلى عمليات اصطفاف جديدة ومختلفة داخلها، خصوصاً بعد انتهاء الحرب الحالية.
في الحقيقةِ، تتجلى هذه الصورة في الواقع الإسرائيلي بشكل عكسيّ. حيث بإمكاننا أن نقرّ بصعوبة تخيّل واقع سياسي إسرائيليّ، تبقى فيه النخب السياسيّة والعسكرية التي أخفقت في السابع من أكتوبر، داخل مواقع قياديّة في المستقبل، وهذا على الرغم من حفاظها بشكل حالي على مواقع اتخاذ القرار والقيادة مع ما تحمله من إخفاقٍ وفشلٍ. إنّ حالة المجتمع الإسرائيلّي، بين واقع الحرب والتهجير والعدد غير المسبوق من القتلى والمصابين بين صفوف المدنيين والعسكريين لا يُبشّر لقيادة الإخفاق الاستراتيجي بمستقبلٍ زاهرٍ ومُستقرٍّ. لهذا، ستمرُّ تشكيلة النخب والقيادات السياسيّة الإسرائيليّة بمرحلة تغييرات جذرية طويلة ولكن حتميّة، نتيجة للشرخ العميق الذي حلّ على ثقة الجماهير الإسرائيليّة بها. لا يعني ذلك توقّع حدوث انقلاب اجتماعي وسياسيّ في الغد، ولكن كما كان لحرب أكتوبر 1973 تبعات اجتماعية عميقة وطويلة الأمد أدت إلى تغييرات سياسيّة جذرية في بنية الأحزاب والتشكيلات السياسيّة الإسرائيليّة، لنا أن نتوقّع أن تكون كذلك لهجوم أكتوبر 2023 تبعات وإسقاطات فاعلة وطويلة الأمد.
من الواضح بأنّ حزب "الليكود" بقيادة من استطاع أنْ يُحافظ عليه في فوّهة سدّة الحكم لمدة طويلة- رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، سيواجه صعوبات كبيرة في الحفاظ على شعبيته ومصداقيته كحزب مركزيّ بعدما تنتهي الحرب، خصوصاً بعدما يتمّ إبعاد قياداته الحاليّة عن الساحة السياسيّة. إنّ مهمّة التوحيد بين صفوف حزب "الليكود" والجمع بين أقطابه بدون شخصيّة محورية مثل بنيامين نتنياهو بعد سنوات طويلة من الحكم، ستغدو صعبة ومستحيلة الى حدٍّ ما. وبالرغم من أن استطلاعات الرأي الحالية تظهر عودة الدعم لبنيامين نتنياهو، حيّث يحظى بما يقارب عشرين مقعداً، إلّا أنها لا تأخذ بعين الاعتبار بأنّ الحديثَ يدورُ عن واقع استثنائيّ في ظلّ حرب ستتغيّر معالمه وقواعده بعد انتهائها وسيكون من الصعب جداً إقناع المجتمع الإسرائيلي، بما في ذلك أتباع الليكود الإبقاء على القيادة الحالية للحزب، بغض النظر عن إخفاقها الكبير في السابع من أكتوبر وفي إدارة الحرب بعد ذلك وفي الاستجابة لاحتياجات المدنيين الأساسية في الحدود الجنوبية والشمالية على حد سواء. لهذا، من الممكن القول إنّ سحب الشرعية عن قيادة نتنياهو بعد انتهاء الحرب ستؤدي إلى إخراجه من الساحة السياسيّة، وسيكون لذلك تبعات كبيرة من شأنها أن تؤدي إلى انهيار الليكود، أو على الأقل تراجعه على نحو لا يفسح له مجالا للحفاظِ على مكانته كبديل حزبي جدي عبر إقامة ائتلافات حكومية كما عهدنا في الأربع عقود الأخيرة. هذا كلّه إضافةً الى عاملين أساسيين أدخلهما هذا الحزب ولا يُسجّلان لصالحه; أوّلهما، وبغض النظر عن الإخفاق الإستراتيجيّ غير المسبوق، الأزمة النفسية والذهنية العميقة التي أدى لها الحزب في شرائح المُجتمع الإسرائيليّ قاطبةً والتي ستؤدي إلى نزع الثقة عن جميع قياداته، وثانيهما عامل الفساد السلطوي الذي أدخله الحزب في السنوات الأخيرة، والذي يتم ربطه في إخفاق الأداء العسكري والمدني للدولة يوم السابع من أكتوبر وبعدها، حيث أن مؤسسات الدولة لم ترقَ إلى المستوى المنشود للتعامل مع التحديات الجاثمة أمامها بجانب غِيابها عن الساحةِ، ما اضطر مؤسسات المجتمع المدني القيام بمهمات تطوعية تسدّ الثغرات القائمة، وتلبّي احتياجات المُجتمع في ظلّ الأزمة العميقة.
السؤال الذي يطرحُ نفسَهُ في هذا السياقِ، هو إمكانية بناء وابتداع بدائل حزبيّة مُخوّلة لاحتلال مركز المشهد السياسيّ الإسرائيليّ، ورأب الصدع القائم بين أطرافهِ المُتنافسة، خاصّة في ظلّ الأزمة العميقة المتمثّلة بفقدان ثقة الجمهور بقياداته العسكرية والسياسية حتّى درجة دفعها الى حضيضٍ لم نعهده في السابق. لهذا، فإنّ التنافس بين القوى المرجحة حاليا لتبوئِ موقع قيادي مُستقبلي، سوف يدفعُها بشكل اضطراريّ الى حسمِ تقاطعاتها وتعاقداتها المُشتركة في سبيل رسم خريطة سياسيّة تمكّنها من الاستجابة لاحتياجات المُجتمع على المستوى الاقتصادي والسياسيّ من جهة، والعسكري والأمني والنفسي من جهة أخرى.
من أهمّ معالم التوقّع المُستقبليّ، هو انخفاض أسهم ضباط الجيش في تقلُّد مراكز قوى سياسيّة وذلك لتراجع الثقة بخطاباتها وقدراتها الفعلية على التجاوب مع تحديات المستقبل. لا يشير هذا القولُ الى تحوّل الساحة السياسية الإسرائيليّة إلى أرض قاحلة وفارغة من قيادات عسكرية تلك أو أخرى، كما سنرى لاحقاً، إلّا أن هذا الوقت يدفعنا للفصلِ بين الحالة التي استبقت هجوم السابع من أكتوبر وبين الحالة المستقبلية التي لن تتمكن بها بعض القيادات العسكرية من ترجمة رأس مالها الاستراتيجيّ من الساحة العسكرية الى الساحة السياسيّة، ما سيُؤدي بدوره الى بزوغ نجم تنافسات جديدة بين قطاعات إسرائيليّة مختلفة تفرزُ شخصيات جديدة من مجالات حياتيّة مُختلفة مثل الحقل الاقتصاديّ، البنكي، الهاي-تيك، منظّمات المجتمع المدني، وسائل الإعلام وحقول أخرى. أي أنّ الائتلافات القائمة في الحقول الحالية لن تستطيع الحفاظ على بقائها، متفردةً في السلطة في المستقبل القريب، وكما تُظهر استطلاعات الرأي المتعددة التي نُشرت في الأشهر الأخيرة، هنالك ثلاث قوى سياسيّة سوف تبرز في المستقبل في حالة وقوع انتخابات قريبة، وسوف تكون بالمقابل قادرةً على تشكيل الصيغة السياسيّة المُستقبليّة الجديدة إذا استطاعت ان تتعاون فيما بينها رغم حالة التنافس السائدة بينها.
إنّ القوة السياسية الأكثر بروزاً الآن هو حزب "هَمَحَانِه هَمَمْلختِي" (المعسكر الرسمي) بقيادة بيني غانس وجادي ايزنوكوت، اللذين أثبتا للجمهور الإسرائيلي مدى ولائهما الوطني والتزامهما بالفصلِ بين مصالحهما السياسيّة واعتباراتهما الوطنية كما واستعدادهما للمجازفة الشخصية والسياسية في حالة الأزمات من أجل المصلحة القومية. وبالرغم من الشراكة المؤقتة في حكومة نتنياهو الحالية، إلا أن الدخول الظرفي الى الحكومة "الفاشلة" من أجل الحفاظ على ثقة الجمهور بالدولة تحسب لهما وليس عليهما عند قطاعات واسعة من الجمهور الإسرائيلي. يحظى هذا الحزب بدعم جماهيري واسع ويشكّل بديلاً واضحاً لِتقلُّد قيادة أي ائتلاف حكومي مستقبلي. إلا أنّ الساحة لا تبقى دون منازع على السلطة ولذلك نرى محاولات حثيثة من قبل أفيغدور ليبرمان، غدعون ساعر، نفتالي بينيت - رئيس الحكومة سابقاً - ويوسي كوهن- رئيس الموساد سابقاً - على إقامة ائتلاف حزبي جديد ليعبر عمّا يتمُّ تسميتُه مؤقتاً "باليمين الليبرالي"، وبالتالي يحتلُّ في المقابل موقع الليكود في الخارطة السياسية الإسرائيلية. لا يمكن لنا أن نتكهن مدى نجاح هذه الشخصيات في التنازل عن عنجهيّتها الشخصية ونرجسيتها من أجل الانضواء تحتَ سقفٍ حزبيِّ واحد من شأنه أن يتحول إلى منافس جدي لحزب "هَمَحَانِه هَمَمْلختِي" بقيادة غانس، إلا انه إذا ما تم ذلك ستكون لهذه الخطوة أبعادٌ حقيقيّةٌ على تركيبة الأحزاب المتصارعة على احتلال مركز الخارطة السياسية، وبالتالي جذب العدد الأكبر من الأصوات لصالحها في الانتخابات القادمة. ويبقى هنا الحديث عن قوة جديدة ثالثة ألا وهي بقيادة يائير غولان- نائب رئيس الأركان سابقاً- والذي نجح في تولي منصب رئيس حزب العمل التاريخي، عاملًا على إقامة ائتلافٍ حزبي جديد يجمع بين قوى اليسار الصهيوني وبالتالي من شأنه إعادة إحياء هذا المعسكر الذي طالما لعب دوراً سياسياً مهمًّا، والذي سيغدو حليفًا طبيعيًّا لحزب "هَمَحَانِه هَمَمْلختِي" في حال نجح الأخير في الحصول على دعم يكفيه لمحاولة إقامة ائتلاف حكومي مستقبلي. كما وتحظى القائمة الحزبية برئاسة غولان بما يفوق العشرة مقاعد في استطلاعات الرأي هذه الأيام، جزء منها يأتي على حساب حزب "يش عتيد" بقيادة يائير لبيد.
لهذا وبالرغم من التعدديّة الحزبيّة التي نشهدها، نرى بأن التنافس قد بدأ فعلًا بين معسكرين لا يزالان قيد التشكّل وهما: معسكر وسط-اليمين المُحافظ الذي لم يتمّ حسم تشكيلة قيادته ولكنه يبقي الباب مفتوحاً على ائتلافات من قوى اليمين الراديكالي، ومعسكر الوسط الليبرالي بقيادة غانس الذي لا يمكنه التعويل على ائتلافات مع قوى اليسار دون اليمين وذلك خوفاً على سحب الشرعية عنه في الشارع الإسرائيلي المتعطّش لقيادة تعبّرُ عن توجهاته القومية المحافظة من جهة، ولكن ذات مصداقية شخصية وسياسيةّ من جهة أخرى. لهذا، سيتخذُ الصراع السياسي-الحزبي في إسرائيل منحاً جديداً في المُستقبل القريب.
نرى بأنّ التنافس المستقبلي على حيازةِ مركز الساحة الإسرائيليّة، اشتدَّ عوده على نحو جليّ. فبروز حزب "هَمَحَانِه هَمَمْلختِي" في الاستطلاعات كبديل جائز لحزب "ألليكود" في تشكيل حكومة المستقبل، أظهر المحاولات الحثيثة للقيادات اليمينيّة المحافظة، البديلة لحزب الليكود، لتشييد حلف سياسيّ جديد، يلعب داخله كل من نفتالي بينت والسياسي المُخضرم أفيغدور ليبرمان دورا مركزيّا، بالشراكة مع ثعلب السياسة الإسرائيليّة الذي وإن لم يحظَ بدعم جماهيريّ واسع، الّا أنه ملك تأثيرًا كبيرًا على خلق تعاقدات سياسية جديدة وهو جدعون ساعر، صاحب الماضي الليكودي. تحقيق هذا الحلف المُستقبلي، سوف يؤثر بطبيعة الحال على حظوظ حزب "هَمَحَانِه هَمَمْلختِي" في ضمان مكانة ريادية لتشكيل ائتلاف حكومي مستقبلي. لهذا نرى محاولات من قبل غانتس للحدّ من إقامة أي ائتلاف حزبي يميني جديد. كما نعهد تعاونًا جديداً بينه وبين غريمه - شريكه السابق يائير لبيد وحزبه "يش عاتيد" لإعادة صيغة التعاون فيما بينهما مستقبلا من أجل إثقال وزن قوى الوسط المتماهية معه. لهذا، إنّ تشكيلة الواقع السياسيّ الإسرائيليّ ستغدو منوطة بتحركات حزبية على المدى القصير، بغية إتمام اتفاقيات حزبيّة لازمةٍ لتبوّءِ مركز الساحة السياسيّة الإسرائيليّة وطرح بديل حزبيّ صاحب قاعدة جماهيريّة واسعة.
هذا كلّه، لا يلغي دور الأحزاب الحريديّة أو يُخرجها من الساحة السياسيّة نهائيا، لأنّ الائتلاف معها والحصول على ثقتها، سوف يشكّل عاملًا مهمًّا في صياغة الائتلاف الحكومي المستقبلي، كما من شأنه أن يحسم من سيكون الحزب الذي سيحظى بدور رياديّ داخل هذه الصياغة المُستقبلية. هذا صحيح بشكل خاص في حال لم تتمكن القوى السياسية المذكورة سابقا وعلى رأسها "هَمَحَانِه هَمَمْلختِي" و"يش عتيد" وحزب جديد بقيادة نفتالي بينيت وأفيغدور ليبرمان في أن تتعاون فيما بينها من أجل تثبيت قدميها في الساحة الإسرائيليّة، دون الاستعانة الاضطرارية بمن كان لهم دورٌ أساسيّ في تدهور الواقع السياسي والاقتصادي الإسرائيلي في السنتين الأخيرتين بما ذلك الأحزاب الحريديّة.
يبقي هذا الواقع المُركب الساحة مفتوحةَ على مصراعي مستقبل ضبابي المعالم، الّا أنه يُظهر بشكل واضح بأنّ القوى السياسية المركزية، أي أحزاب الوسط، التي لم يكن لها حظوظ جيدة في التاريخ السياسي الإسرائيليّ السابق، تمرّ في تحوّل جدّي يجعلها لاعب مركزيّ داخله. من الجدير التذكير بأنّ كلّ محاولات إقامة أحزاب وسط ما بين "حزب العمل" اليساري وحزب "الليكود" اليميني في السابق باءت بالفشل، إلّا أنّه من خلال مواكبة تطورات الواقع الإسرائيلي في العقود الأخيرة خصوصا الاستقطاب لمجتمعهِ وانعكاساته في الساحة الحزبيّة، نلحظ الحاجة الماسّة التي تولّدت عند فئات واسعة في المجتمع الإسرائيليّ الى أحزاب وسطيّة تجسر الهوّة، خاصّة بسبب التحديات الآخذة بالازدياد في القطاع العسكري والاستراتيجي والاقتصادي. وهو صحيح للعقدين الأخيرين، وأصبح أكثر حتّى على المستوى الوجوديّ في أعين البعض، بعد أزمة الانقلاب الدستوري قبل الحرب والحرب الحالية الجارية. من الواضح بأنّ هذا الواقع التحوّلي السياسيّ سوف يُترجَم حزبيًّا بحسب الائتلافات المُستقبلية، وسوف يفرض تداعياته على مكانة النخب الإسرائيليّة المُختلفة لمدّة طويلة.
كل هذه التحوّلات الجارية تحت الرادار السياسيّ الحاليّ في الساحتين الفلسطينيّة والإسرائيلية، لا يمكن الفصل بينها. كما وأنّ هذه التحوّلات لن تحسم الشؤون الداخلية لكلا المجتمعين فحسب، بل أيضا شكل العلاقة المُستقبلية بينهما. إنّ نماذج وسطية بين أقطاب المُجتمعين، من شأنها أنّ تولّد آفاقًا مُستقبلية جديدة أقل دموية من الواقع المُعاش في الأشهر الأخيرة، حيث بات واضحًا للمجتمعين ولقياداتهما السياسيّة والعسكرية بأنّ العلاقة بينهما لا يمكن لها أن تُحسم بشكل نهائي بآليات عسكريّة فقط، حتّى وإن حاول كلُّ طرف من الاثنين التأثير على تصميم علاقتهما بواسطتها. فالمحاولات السياسيّة هي التي ستكون سيّدة الموقف، والآليات العسكريّة على قدرِ قوّتها وبسبب تراجيديّتها لا يمكن لها تحديد شكل العلاقة بين الطرفين ولا أن تكون سيدّة الموقف لحل الصراعات، بل الأفق السياسيّة: أي أنّ التشكيلة السياسيّة المُستقبليّة في الطرفين وبينهما، هي الحاسمة لمستقبل العلاقات بينهما، بالذات كوْنَ هذه الحرب قد أثبتت بأنّ توازن القوى العسكرية ليس العامل الوحيد والمؤثر على توازن القوة السياسية والقدرة الاستراتيجيّة والنفسية لهذه المُجتمعات، كي تتعامل مع التحديات الناجمة عن الصِراع بينهما. من هنا، تنجم أهمية فهم التحولات القائمة في الجانبين في الوقت الحالي، في سبيل استشراف تحوّلات مستقبلية إضافيّة داخلهما وبينهما والدفع إلى الأمام بتلك التي من شأنها خفض حدة التوتر والبحث عن بدائل سلمية لحل النزاع المميت والدامي بين الطرفين، وهو ما رمينا إليه في هذا السياق.
بروفيسور أمل جمّال
باحث في مجال النظرية السياسية والاتصالاتية المقارنة والفكر السياسي وعمليات الدمقرطة والمجتمع المدني، ومدير فرع الاتصال السياسي في قسم العلوم السياسية في جامعة تل أبيب