كيف تنجو الذات من مذبحة؟

عودة الفلسطينيّ إلى مستقبله

يواصل الكلام انهيارَه أمام هدير الحياة و الموت في غزّة. إنسانيّة فلسطينيّة تقاوم الكارثة بكلّ ما تملك من حياة وموت وجوع. وداعات من لحم ودم ترتجف في عراء الإبادة و في ضوء الكاميرات التي تتغلغل كسِكين في  أنسجة الجسد و النفّس و تسجّل تمزقاتها بدقّة تشريحيّة مفزِعة. أيقونات من ألم ورعب ويأس وحبّ تتناثر شظاياها في كل لحظة شاهدةً على بشاعة العالم و خواء إنسانيته. 

يحمل أخ أشلاء أخيه في كيس ويمشي في جنازة هي جنازة العالم كما نعرفه: كيف للقلب ألاّ ينكسر أمام هذا الحبّ و الشقاء. لا عزاء. لا عزاء.

يحتضن الجدّ الفلسطينيّ خالد نبهان جُثماني حفيديه ريم و طارق اللذين انتصرت عليهما غارة إسرائيليّة، و بخاطبهما بقلبٍ مذبوح: "روح الروح"... ماذا يحدث للروح في زمن الهمجيّة؟

ماذا تفعل النفس إزاء التلذّذ الإباديّ الذي يحيل كل شيء رمادًا وأشلاءً: الأجساد، البيوت، المباني، الشوارع، الهواء، المشاعر، المعاني، القيم، المُثُل، الوجود الإنساني برمّته؟

كيف تعيش النفس كلّ هذا الموت وكل هذا القتل والتدمير والتهجير؟ وكيف تنجو  الذات من مذبحة؟

تفترض هذه الاسئلة زمناً إنسانيّاً خطّياً تنتقل فيه الذات من مرحلة إلى أخرى، من سياق إلى آخر. من تاريخ إلى آخر. في الوقت الذي يدأب فيه المستعمِر على محو الزمن. يريد المستعمِر، في هذيانه العنصريّ، أن يستعمر الماضي والمستقبل، وأن يُنَصِّبَ الصدمة حاكماً نفسيّاً أوحد للذات الفلسطينيّة. لكنّ الحرب تعلن، فيما تعلن من نهايات وبدايات، انهيار الزمن الاستعماري ودخوله مرحلة من التيه التي لن يزيده التوحّش إلا سراباً. وتشهَد في المقابل الإشراق الملحميّ لذات فلسطينيّة نازفة ومفجوعة حتّى العظم تعلّم العالم درساً إنسانيّاً لا يُنسى في الموت والحياة وفي العودة إلى التاريخ وللمستقبل.

بعد الحرب سيطفو الجحيم النفسيّ للناجين بأعراضه كلّها من اكتئاب وقلق وذكريات صدميّة ومشاعر ذنب لا تحتمل. ومن حداد طويل قد يمتدّ، بصوره المتبدّلة، أجيالًا. لكنّ التجربة الفلسطينيّة المركّبة تدعونا إلى تجنبّ اختزال الآثار النفسيّة لهذه الحرب الإبادية في متلازمة كرب ما بعد الصدّمة PTSD، وذلك لتشابك آثارها النفسيّة مع خيوط الصدمة الاستعماريّة العابرة للأجيال التي نسجت إلى حدّ كبير الذاتيّة الفلسطينية معاناةً و معنىً،  هشاشةً و صموداً، حصاراً وانتصاراً لفكرة الحرّية كما صاغها غسّان كنفاني ببلاغته الثوريّة الحارّة: "الحرّية التي لا مقابل لها، الحرّية التي هي المقابل".

تُعلّمنا الأدبيات النفسية أن سيرورة الترميم العلاجيّة لآثار العنف الإباديّ طويلة و شاقّة، وتوجّه انتباهَنا إلى تعدّدية وخصوصيّة المعاناة النفسيّة في هذا السياق الاستثنائيّ من القسوة المطلقة: الأطفال المقذوفون خارج طفولتهم و خارج إنسانيّتهم، الغارقون في فقدانات لا حصر لها، المحرومون من كلّ أسباب الأمان والثقة بعالم خذلَهم، الرجال المقهورون المحرومون اجتماعياّ من الحق في الصراخ و التعبير عن الألم، النساء المواجهات لأشكال عديدة من العنف و السجينات في أدوار العناية.

لكن لا يمكن التعويل حصريّاً على العلاجات الفردية دون التدخّل في الواقع وفي المجتمع، بما في ذلك بناء شبكة اجتماعية فلسطينية عالميّة عابرة للحدود تدعم وتحتضن مسارات الترميم وإعادة البناء والشفاء.

هذا يعني أيضاً الاستكشاف العلاجيّ المثابر والحسّاس لنقاط التماس بين النّفسي والسياسي، بين المعاناة الفردية والمعاناة الجمعية، من موقع إنساني تحرّري لا يقع في فخّ الحيادية التي قد تبلغ في بعض تعبيراتها المشوّهة حدّ التواطؤ مع الحالة الاستعماريّة وتكريسِها عنفاً وقمعاً عنصريّاً.

يتعذّر فهم آثار هذه الحرب الوحشية على الحياة والذات الفلسطينيّة خارج سيرورة النكبة المستمرّة ودون تسييس اللاوعي والالتفات إلى ارتطاماته المختلفة مع العنف الاستعماري. المعالج الفلسطينيّ مطالب أكثر من أيّ وقت مضى بتموضع علاجيّ تحررّي نقديّ يصغي للّاوعي ويستحضر الواقع الاجتماعي والثقافي والسياسي،  وبموقف فكريّ وسياسيّ صريح من قضايا العدل والحرّية، وعلماً أن التحليل النفسي ولد تحرريّاً لكنّ تياراته المركزيّة لم تنجح، سواء عن وعي أو عن غير وعي، في التخلّص تماماً من  الميراث الاستعماري العنصريّ.

ليس تمادياً في التنبؤ الجزم أن هذه الحرب ستترك آثاراً عميقة على الذاتيّة الفلسطينيّة باعتبارها امتداداً للنكبة وانقطاعاً عنها في نفس الوقت.

من جهة، النكبة كمبنى استعماري وكعقيدة صدمة أنتجت وما زالت تنتج حتى هذه اللحظة عذابات وجراحًا نفسية وجسدية تفوق الخيال والإدراك. ومن جهة أخرى، النكبة ومقاومتُها كمصنع للحقيقة وللذاتيّة الفلسطينيّة المتحررة من خوفها الذاهبة إلى صحرائها كالأنبياء المهجورين من كلّ شيء إلّا من  كلام جديد يولد الآن فيهم ويغيّر العالم.

د. مصطفى قصقصي

اختصاصيّ نفسيّ عياديّ ومعالج نفسيّ ومؤسِّس مشارِك و رئيس سابق لرابطة السّيكولوجيّين العرب

رأيك يهمنا