ما "تَستُرُه" مُبارَزَة "الشُورت" والنِّقاب على جُدران دِمَشق

"جُدران تتحدّثُ أكثَرَ ممّا تُصْلح" – عِبارة تختزل واقعًا يعكس صَخَب التفاصيل الصغيرة وسَط صَمْت القضايا الكبرى.
في دمشق، لم تَعُد الجدران تحتَضن رسائل المَحبّة والسّلام، فقد أَفسَحت المَجال لملصقات تحدّد ما يجب أن ترتديه النساء، لتصبح الحكاية المرويّة من قَلب الشوارع عن "الشورت" و"النِقاب" أكثر حضورًا من آلام الناس ومخاوفهم وأحلامهم.
في مدينة تُعاني فيها الأرواح مِن شَبَح الموت والجوع، هناك من لا يزال مشغولًا منذ سقوط النظام حتى اليوم بالسؤال ذاته: "ما الذي يجب أن ترتديه المرأة؟" بين صَخَب المُتطرّفين ودَعَوات التَحرّر، هناك مَن لا يَجِد ما يَرتَديه في ليالي دمشق البارِدَة.
أَفراد يَنتظرون بِصَمت أن يتذكّرهم شخص، أن يسألهم أحد: هل ما زلتم أحياء؟
صامتون، ليسَ لأنّهم بلا صوت، بل لأن صَوت اصطكاك أسنانهم بردًا وضيقًا يَضيع وسط ضجيج الجَدَل حول لِباس المرأة، الذي طَغى على ما هو أَهَم، على معاناتهم التي لم تَجِد مَن يصغي إليها.
مِنَ الجُدران إلى الأولَويّات المَفقودة
لطالما كان لِباس المَرأة موضوعًا جدليًا يشغل الساحات العربية عمومًا والسورية خصوصًا، وهو نقاش ليس وَليد اللحظة، بل امتداد لجدالات قديمة متجدّدة، ومع ذلك يبدو أن طرح هذه القضية في الوقت الراهن يُشبه أن تَرى صديقك يختنق بحَبّة فستق فتسأله عن مصدرها بدل أن تنقذه.
ترزح الساحة السورية اليوم تَحت وطأة أزمات أعمق وأشد إلحاحًا، حيث تذوب ملايين الأمهات على مَهَل بحثًا عن أبنائهن المفقودين، وآباء عاجزون عن توفير قوتِ يوم لأطفالهم، وأقلّيات تَعيش في خوف دائم مِنَ المَجهول، ناهيك عن الانهيار الأمني الذي يهدّد حياة الجميع.
وَسَط هذا المشهد القاتم، يبدو أن التّركيز على لباس المرأة – وهو في الأساس حريّة شخصية – لا يرقى ليكون أولويّة تستحقّ النّقاش في هذه المرحلة.
إن الخَوض في قضايا سطحية مثل هذه لا يُقلل فقط من قيمة النّقاش العام، بل يُسهم في تسخيف القضايا المصيريّة التي تحتاج إلى أصواتنا جميعًا، ليس علينا أن ننسى أنه حينما طالب السوريون بالحرية، كان ذلك من أجل ضمان حياة كريمة ومستقبل آمن، وليس لتحويل النقاش إلى تفاصيل تهمّش المعاناة الكبرى، وتترك الأفراد يصارعون أوجاعهم على أرصفة النسيان.
بين النِّقاب والقَميص: قضايا سطحيّة تُغذّي الانقسام وتغفل الأولويات
في الآونة الأخيرة، يشهد الوسط السوري تصاعدًا في التركيز على الحديث عن ملصقات تتناول رمزيّات النِّقاب والقَميص باعتبارها محاور جدليّة أساسية، ما يُفاقم الانقسامات الفكرية والثقافية في مجتمع يعيش مرحلة حساسة ومليئة بالتحدّيات.
تُغفل هذه النقاشات، التي تَحمل مَخاوف من حُكم إسلامي متطرّف لدى البعض، حقيقة أن سوريا اليوم تواجِه أزمات أكبر تهدد حياة الأفراد واستقرارهم.
من خلال تحليل هذه الظاهرة، يمكن القول إن الشعب السوري بات يَميل إلى التّركيز على القضايا الواضحة والبسيطة كوسيلة هروب من تعقيدات الواقع المرير، سنوات القمع والحِرمان من التعبير عن أبسط الحقوق خلّفت "تروما" عميقة، جَعَلت من النّقاش حول الرموز السطحيّة مثل لِباس المرأة متنفسًا جماعيًا، بينما تظل القضايا الأعمق كالفقر، البطالة، وغياب العدالة الاجتماعية خارج دائرة الاهتمام.
في واقعِ بلد يعاني من أزمة اقتصادية خانقة، حيث فقد آلاف الأفراد وظائفهم قسرًا، وتزايدت حالات تصفية الحسابات والخطف والاغتيال، يتحوّل النّقاش حول لِباس المرأة إلى وسيلة لتشتيت الانتباه عن المُعضلات الأساسية.
ومن منظور آخر، قد يكون هذا التوجّه أداة متعمّدة تستخدمها السُلطة لتوجيه الرأي العام بعيدًا عن مسؤوليّاتها تجاه هذه الأزمات، فبدلًا من مواجهة النقد المجتمعي، تُغرق السلطة الناس في جدالات اجتماعية عقيمة، مما يخلق راحةً مؤقَّتة لها من الضغوط الشعبية، ريثما تضع خطّة إصلاحية لكلّ الخراب الذي خلّفه النظام السابق.
لكن في الواقع، يُسهم التركيز على هذه القضايا السطحيّة في تعميق الانقسامات داخل المجتمع السوري، بدلًا من تعزيز التماسُك الاجتماعي، الذي يُعد حاجة مُلحّة في ظل هذه المَرحلة الحَرِجة، تُغذّي هذه النقاشات النزاعات والخلافات، مما يزيد من تفكك النسيج الوطني ويُضعف قدرة المجتمع على مواجهة تحدياته الحقيقية.
وكما نرى أن أيّ محاولة لإشغال الناس بهذه المواضيع ليست إلا هروبًا من المسؤولية، وعبثًا يُفاقِمُ الأَلم الذي يعيشه السوريون يومًا بعد يوم.
الجُدران مرآة الوَعي الاجتماعي
ليست الجُدران مجرّد أَسطح صامتة، بل هي صفحات مَفتوحة تعبّر عن وعي المجتمع، وتطلّعاته، وأحيانًا صراعاته الداخليّة.
في دمشق، تحوّلت الجُدران إلى لوحات نابضة بالحياة، بين مبادرات شبابيّة تَسْرد تاريخ الثورة وحاضرها، فتُجسد حبّ الشعب السوري للحياة والحرية واحترامه التنوعَ، وبين ملصقات وجدالات تعكس انشغالات الناس اليوميّة وتوجهاتهم الفكرية.
ما يُكتب ويُرسم على الجدران يروي قصصًا مختلفة، بعضها يعكس وعيًا عميقًا بالقضايا الكبرى، كالوطن والكرامة والحرية، وبعضها الآخر يَنشَغل بقضايا لا تتناسب مع حجم التحدّيات التي تواجه البلاد، ففي ظلّ غياب الثّقة بحرية التعبير وضعف الوعي السياسي، برزت قضايا مثل لِباس المرأة وعملها كموضوعات مريحة يمكن مناقشتها دون خوف من القيود، ما جعلها حاضرة بقوة على الجدران.
لكنها تكشف أيضًا عن التباين في الوعي الاجتماعي بين فئات الشعب، بينما أظهرت شريحة واسعة انتماءً صادقًا للمصلحة الوطنية وإدراكًا بأولوية القضايا الكبرى، اختارت شريحة أخرى الانغماس في نقاشات سطحيّة تتجاهل حجم المعاناة وآلام الوطن، وهذا التناقض يُعيدنا إلى سؤال جوهري: ما الأولويات التي يجب أن تُعبر عنها أصواتنا؟
جُدران تَصرُخ بما لا يُمثّلنا
الجدران التي كانت تتجسس يومًا على كلامنا تحوّلت اليوم إلى منابر تتحدث باسم قضايا لا تعكس آلامنا الحقيقية، نحن الشعب الذي دفع أثمانًا باهظة ليكسر قيود الصمت، لم نقدّم تضحياتنا ليرتفع فوق جراحنا صوت ينشغل بالشّكل ويَنسى المضمون، يهمّش وجع أم تُلصق صورة ابنها المفقود على جدار، لتجد إلى جانبها ورقة تتحدث عن قيمة لباسها وكأن مظهرها هو ما يحدّد إنسانيتها.
أليس السؤال الحقيقي هو: ماذا يمكن أن يرتدي هذا الوطن ليركّز الناس على قيمة مآتمه؟
كيف يمكن أن تصبح الجدران التي تحمل هذا الكمّ من الحزن والأمل المعلّق صوتًا حقيقيًا يعبّر عن جوهر ما نَمُرّ به، بدلًا من أن تصبح مساحة للجدل الفارغ؟
نحتاج اليوم، أكثر من أيّ وقت مضى، إلى تحويل هذه المساحات إلى منابر تنطق بما يستحِق أن يُقال. فبدلًا من أن تكون مساحة للجَدل العقيم، يمكن أن تصبح منصّة تعبّر عن وعي مجتمعي حقيقي، يحمل في طياته رؤية واضحة للمستقبل، ومسؤولية تجاه بناء وطن يتّسع للجميع.

سدرة الحريري
صحافية متخصصة في التحقيقات الإنسانية والشأن السياسي السوري، تعمل على تسليط الضوء على القضايا الاجتماعية والسياسية في سوريا.