ما بين هبة أكتوبر 2000 وهبة أيار 2021

في مثل هذه الأيام من شهر رمضان الفضيل - قبل عامين تماماً- وفي أعقاب تضييق الخناق على المصلين والمعتكفين في المسجد الأقصى، واقتحام عناصر الشرطة والمستوطنين لباحات المسجد ولحي الشيخ جراح في القدس، اندلعت مواجهات عنيفة أدت إلى إطلاق صواريخ من قطاع غزة باتجاه مدينة القدس وانطلاق حملة عسكرية إسرائيلية ضد القطاع استمرت حتى منتصف شهر أيار. في تلك الفترة، خرج المئات من المواطنين العرب في القرى والبلدات العربية والمدن المختلطة في تظاهرات غاضبة للتنديد بانتهاكات المؤسسة الإسرائيلية والمستوطنين ونصرةً للقدس والأقصى. وسرعان ما قُمعت هذه المظاهرات وقوبلت بوحشية من قبل أفراد الشرطة والمستعربين، وتطورت إلى أحداث عنف بين العرب واليهود والتسبب بأضرار للممتلكات العامة. 

على الرغم من الهبات والتظاهرات الغاضبة التي تعم البلدات العربية على مر السنين، خاصة عند التنديد بالانتهاكات في القدس والأقصى أو عند شن حرب على قطاع غزة، إلا أنّ المواجهات في هبة أيار 2021 تعتبر الأعنف والأشرس منذ أحداث هبة أكتوبر من العام 2000، لأن المتظاهرين لم يواجهوا هراوات أفراد الشرطة وسلاحهم الفتاك فحسب، بل انضم المستوطنون والنيابة العامة وجهاز القضاء إلى منظومة القمع. 

خلال فترة المواجهات وبعيد انتهائها قام جهاز الأمن العام "الشاباك" بمرافقة الشرطة في تنفيذ حملة اعتقالات واسعة شملت المئات من الشبان العرب (بعضهم قاصرين) والتحقيق معهم في ظروف صعبة للغاية، تخللها منعهم من مقابلة واستشارة محامي دفاع وتشكيل ضغوطات غير مشروعة بحقهم أدت إلى انتزاع اعترافات من معظم المعتقلين بالمشاركة في أحداث هبة أيار. 

بالتزامن مع حملة الاعتقالات، تجندت النيابة العامة وقامت بتقديم لوائح اتهام ضد مئات المعتقلين. من التقرير الذي نشرته النيابة في شهر أيار 2022، يستدل أنها قامت بتقديم 397 لائحة اتهام، شملت 616 متهماً منهم 545 متهماً عربياً و- 71 متهماً يهودياً. شملت اللوائح بحق المتهمين العرب بنودًا خطيرة أبرزها المشاركة في أعمال شغب؛ التهجم على أفراد الشرطة؛ التسبب بأضرار للممتلكات والتسبب بأضرار جسدية. في معظم الحالات تضمنت لوائح الاتهام بنودًا بموجب قانون مكافحة الإرهاب أو نسب دوافع عنصرية للمتهمين، من شأنها مضاعفة العقوبات وفق القانون وإضفاء صبغة أمنية على التهم. كما قدمت النيابة طلبات باعتقال المتهمين حتى انتهاء الإجراءات القضائية ضدهم. فيما يتعلق بالمتهمين اليهود، فإن لوائح الاتهام التي شملت بنودًا بموجب قانون مكافحة الإرهاب أو على خلفية عنصرية كانت قليلة جدًا، ومعظم هذه الملفات انتهت بأحكام مخففة بعد تعديل لوائح الاتهام بحقهم وشطب البنود المتعلقة بقانون مكافحة الإرهاب التي نسبت لهم بدايةً.

هذا التعاطي الخطير مع معتقلي هبة أيار لم يقتصر على جهاز المخابرات والشرطة والنيابة، وإنما شمل أيضاً جهاز القضاء الذي أثبت أنه جزء من المنظومة في تعاطيه مع هذه الملفات، وذلك من خلال القرارات والأحكام التي صدرت بحق المعتقلين، حيث بقي معظمهم رهن الاعتقال حتى انتهاء الإجراءات القضائية ضدهم، في حين تم تحويل القلة القليلة منهم إلى اعتقال منزلي محكم بواسطة "سوار إلكتروني" وسط إبعادهم عن بيوتهم وبلداتهم، وفيما بعد إصدار أحكام مشددة للغاية وغير مسبوقة بحقهم شملت السجن الفعلي لسنوات طويلة إضافة إلى دفع تعويضات وغرامات بمبالغ كبيرة جدًا. يذكر أن العشرات من الشبان ما زالوا رهن الاعتقال ولا تزال الإجراءات القضائية بحقهم قيد البحث، ومن المتوقع أن تصدر أحكام مشددة بحقهم أيضًا. 

بات واضحًا من تعنت النيابة العامة في التعاطي مع ملفات معتقلي هبة أيار ومن الأحكام المشددة التي أصدرتها المحاكم الاسرائيلية بحقهم أنها لا تستند إلى الاعتبارات التي نص عليها القانون الجنائي في كل ما يتعلق بمستوى الأحكام وفيما بعد فرض عقوبات فردية تتعلق بملابسات القضية العينية وظروف المتهم الشخصية، وإنما نتجت عن دوافع انتقامية وبهدف الردع المستقبلي حتى لا يتجرأ أحد من الشبان العرب على المشاركة في أعمال احتجاجية مستقبلًا. هذا الاستنتاج يبدو جليًا كالشمس، خاصة إذا ما قارنا تعاطي النيابة العامة والمحاكم مع المتهمين اليهود والأحكام المخففة التي صدرت بحقهم على الرغم من مشاركتهم في أحداث خطيرة للغاية بحق العرب، وحتى مقارنةً بالأحكام المشددة التي صدرت في تهم مشابهة ضد شبان عرب مقدسيين، ليس إنصافًا من قبل المحاكم في لواء القدس وإنما لتأكيد التعامل بيد من حديد مع المواطنين العرب داخل الخط الأخضر، بهدف الردع ليس إلا. 

لقد شهدنا خلال الأعوام السابقة حملات اعتداءات واعتقالات كانت غير مسبوقة حينها. فمثلًا خلال العدوان على غزة عام 2008 والتظاهرات العارمة التي عمت البلدات العربية، طالت حملة الاعتقالات أكثر من 800 معتقل عربي، ثلثهم من القاصرين، إلا أن الأحكام التي صدرت بحقهم آنذاك لا تقترب من الأحكام التي صدرت وتصدر بحق متظاهري أيار 2021. وإن دل هذا على شيء فهو يدل على التجهيز المحكم والاستعدادات التي تقوم بها المؤسسة الإسرائيلية لمواجهة أي احتجاج عربي على أي عدوان إسرائيلي. لربما لم تستخدم الشرطة السلاح الفتاك، كما فعلت خلال أكتوبر 2000 عند استشهاد 13 مواطنًا عربيًا، لكن المنظومة الإسرائيلية على مختلف أذرعتها تطور على الدوم وسائل القمع وأساليب التحقيق وتوسيع حملات الاعتقالات وتشريع القوانين التي من شأنها تشديد العقوبات، مثل تشريع قانون مكافحة الإرهاب لعام 2016، والذي يعتبر من أشد القوانين صرامة ويتناسب مع تعامل دولة مع أعداء لها لا مواطنين فيها.  

أكثر من عشرين عامًا مضت على أحداث هبة أكتوبر. معظم معتقلي هبة أيار لم يكونوا قد ولدوا آنذاك بعد، وما زالت المؤسسة الإسرائيلية تتعاطى مع المواطنين العرب بنفس التوجه ولكن بأساليب مختلفة، "قانونية" وفق القانون، لكنها أكثر قساوة وشراسة. لم تستخدم السلاح الفتاك لقتل المتظاهرين في أيار 2021 كما في أكتوبر 2000، ولكن التعاطي مع المعتقلين لا يقل ظلمًا وإجحافاً. 

وفي حين تطور المؤسسة الإسرائيلية أساليبها وأدواتها بهدف الردع، لم نقم نحن، المواطنون العرب، بتطوير أساليب الدفاع والنضال والعمل الجماعي على جميع المستويات أيضًا بهدف الردع من القيام بمثل هذه الحملات الشرسة من اعتقال وبطش؛ من المطلوب أن يتكاتف المحامون العرب وأن يسطروا استراتيجية دفاع موحدة تهدف إلى حماية المعتقلين ونقل صوتهم ومعاناتهم. كل معتقل هو حكاية وقضية خاصة تخصه وتخص عائلته ولكنه في الوقت نفسه واحد من عشرات المعتقلين الحاليين (أو المستقبليين) يحملون نفس القضية ويجب الدفاع عنهم باستراتيجية موحدة تشمل التشبيك بين المحامين وتناقل الخبرات لإرهاق المحاكم والمحققين، لا المعتقلين وذويهم. لا بد من تجنيد جميع المؤسسات الحقوقية واللجان الشعبية ولجنة المتابعة ومنتخبي الجمهور للجم وحشية حملة الاعتقالات والعمل على التشبيك والتعاون، وتفعيل اللجان الشعبية لرفع صوت المعتقلين وذويهم عاليًا، وتجنيد وسائل الإعلام لرصد الانتهاكات منذ اليوم.

عامان من المعاناة لشبان في مقتبل العمر يقبعون في السجون في أقسام أمنية في ظروف صعبة للغاية. شبان لم تكن لهم أية سوابق أمنية أو جنائية سيقضون أهم سنين عمرهم في السجون، وعائلات تعاني الأمرّين دون ناصرٍ لها.  وعلى الرغم من مرور عامين على هبة أيار، ما زالت الملاحقة والاعتقالات مستمرة حتى يومنا هذا - أبرزها في عكّا واللد، وكأن الاعتقالات التي حصلت لم تكف لردع المواطنين العرب عن الاحتجاج والتظاهر. لهذا، فإن التكاتف والتجنيد هما مطلب الساعة حتى هذه اللحظة من أجل مساندة المعتقلين وذويهم ورفع صوتهم عاليًا، لأن هذا الجنون في التعاطي مع المعتقلين يجب مواجهته بمساندة ودعم وليس بسكوت أصم.


تصوير: سيرين محمد جبارين.

نمير إدلبي

محام مختص في القانون الجنائي والأمني

شاركونا رأيكن.م