احتجاج وارتقاء وإرادة شعبية هادفة
من الجائز أن يزعج ما سأقوله البعض عند قراءته وقبل التمعن بعمق بمعانيه، خصوصًا أنه يأتي في موعد ذكرى للعديد من الأحداث الموجعة كان آخرها هبة الكرامة التي دفع وما زال يدفع الكثيرون جراءها ثمنًا باهظاً، خصوصًا عند الحديث عن الأجيال الشابة في المدن المختلطة.
يقال إن خير الكلام ما قل ودل. هذا بالمجمل صحيح، ولكن في بعض الأحيان قلة الكلام والإيجاز يستحضران الحاجة للمجاز والاستدلال وبالتالي لفتح المجال أمام التفسير البلاغي الذي لا ينفع في كل الحالات، خاصة عند الحديث عن مواضيع تحتاج إلى بصيرة حية وتفكير بارد وحكمة مبدعة وحس شعبي دفّاق. لهذا، يخدم تفصيل الكلام والإطالة في بعضه الهدف. هذا صحيح عند التطرق لشرح أفكار نظرية أو عبر تاريخية من شأنها أن تصبح عرفاً واسع القبول ويلقى حسن الاعتبار. هذا صحيح أيضاً لكون الحقائق تشتق من المنطق النظري أو من المعرفة التجريبية أو من بواطن التاريخ أو كلها معاً وبالتالي يتطلب الوقوف عندها لبرهنة صحتها الإطالة في بعض الأحيان. وخير الكلام يعتمد العودة إلى التجارب الإنسانية في بعض الأحيان، بالرغم من فقدان التاريخ لمنطق مطلق مبطن فيه. العودة إلى التاريخ لاشتقاق العبر وللتعلم مما جربه البعض في مفارق وقرارات مختلفة على مرّ الزمن هي منهج خلدوني، من شأنه أن يفسح المجال، كما علمتنا المقدمة، لتقديم بعض التحليلات عساها تكون نافعة في المستقبل لدرء شر أو تجنّب مطبات من الأفضل الابتعاد عنها.
لهذا، لا يأتي هذا الكلام اللاحق للمحاسبة او لجلد الذات وإنما لإثارة بعض الأفكار واشتقاق بعض العبر الممكنة مما حدث في بعض الأماكن على مر العصور. ولكن قبل البدء بصُلب الموضوع، لا بد من بعض المسلمات التي لا حاجة للإطالة فيها وفي مقدمتها حق كل مجموعة تشعر بالإقصاء والتمييز ضدها والعنصرية تجاهها أن تحتج وتناضل من أجل تغيير هذا الوضع. هذا الحق تنص عليه كل المواثيق الدولية ولا يمكن اعتباره منّة من النظام السياسي، كما يشير البعض، وإنما يشكل واجبًا على كل من يشعر بالغبن والضغينة اتجاهه، لأن الكرامة الإنسانية لا تحتمل التجزئة أو الاقتصار. لهذا، الاحتجاج الشعبي ليس حقًا وواجبًا فحسب وإنما هو دافع أساسي في الكيانات البشرية على مر العصور، تجلى بأشكال مختلفة في سياقات متنوعة. ولهذا شكّل النضال الشعبي بأشكاله وأنواعه المختلفة ظاهرة جذابة، حيث تكمن طاقة هائلة لا يمكن التقليل من أثرها على مجرى التاريخ. وبالرغم من ذلك، النضال الشعبي، على جميع مسمياته، هو ظاهرة تراجيدية أيضًا، لكونها تدل على استمرار الظلم والتعسف باسم هوية أو مجموعة قيم، كما يتجلى الأمر في دول مختلفة، ديموقراطية كانت أم لا.
من المسلمات، أيضاً، أن الهبات الشعبية عشوائية بطبيعتها وبالتالي من الصعب الحكم عليها وكأنها منظومة عقلانية تخضع لقياسات دقيقة من حيث نطاقها أو أدائها خلال حدوثها. من الممكن أن تكون أحياناً جرفًا عارمًا يقتلع كل ما يواجهه، وانسيابًا بشريًا مليئًا بالمشاعر الحساسة، بطرق سلمية ومهادنة، في أحيان أخرى. وفي كلتا الحالتين، لا يمكن توقّع حدوثها ولا قوتها أو مدتها. كما لا يمكن برمجتها أو المبادرة لإحداثها، إذا لم تستوف شروط حدوثها والتي لا يمكن الاتفاق على جوهرها، رغم الأبحاث الكثيرة حولها. بالرغم من ذلك، لا يمكن التغاضي عن الحاجة إلى التمعن بها والتعلم من تجارب الماضي، من أجل تجاوز إسقاطاتها السلبية على تحقيق أهدافها. في هذا السياق، يشكل التفكير في استشراف بعض جوانبها والعمل على استخلاص الحد الأقصى من تحقيقها أهدافها همًّا وواجبًا يقع على عاتق قيادات المجتمعات التي يُمارَس الإجحاف بحقها والتمييز ضدها وبالتالي من المحتمل أن تهب للاحتجاج، في أية لحظة، ضد سياسات النظام الذي يحاول الهيمنة عليها. فالتاريخ، ورغم أنه لا يحتوي على الحقيقة المطلقة، إلا أنه يحتوي على الحقيقة القائلة بأن الشعوب لا تقهر إلى الأبد ولا بد أن يأتي اليوم الذي تهبّ فيه ضد ظالميها.
يأتي بنا هذا التنظير إلى مسلمّة أخرى في سياقنا الضيق، وهي تتجلى في الوعي التام بأن النظام الدستوري وأجهزة تطبيق القانون في إسرائيل غير مبنيين على مبادئ العدل والمساواة. مؤسسات الدولة، وعلى رأسها قوى حفظ الأمن والقانون،’ تعامل المواطنين العرب بناءً على حق ناقص تكتنفه عقلية الردع والتخويف والمعاقبة الفائضة. هذا التعامل مناقض للحق البشري في المساواة على المستوى المبدئي ويخالف مبدأ المعقولية وقاعدة الأخذ بعين الاعتبار حيثيات الأحداث، التي عادةً ما تتصدر التسويغات التي يقدمها القضاء الإسرائيلي وقوى حفظ الأمن في الحالات التي تحصل فيها تجاوزات قانونية من قبل مواطنين يهود، على المستوى العملي.
من المسلمات أيضًا أن التمييز والعنصرية متجذران في بنية الدولة وعقلية نخبها. بالرغم من اختلاف حدتها عند فئات مختلفة من هذه النخب، ينعكس التمييز والعنصرية ليس في سياسات توزيع الموارد وإحقاق الحقوق فحسب، وإنما أيضاً في سياسات المعاقبة الرادعة التي يتم فرضها على العديد من الشبان العرب جراء تحديهم لآلة القمع الشرطية، كما حدث في أيار 2021، بالرغم من الحالات المشابهة التي تخص شباناً يهود لكن تم التغاضي عن أفعالهم أو إبداء تفهم لدوافعهم عند محاسبتهم. كما يتجلّى التمييز في أنماط عمل قوى حفظ الأمن والمخابرات في المجتمع العربي بالمقارنة مع عملهم مع من يمس القانون وينتهج طرقاً مخالفة له من أساسه، كما هو الحال عند الحديث عن المستوطنين في الأراضي المحتلة عام 1967.
والآن، دعونا نتطرق إلى الموضوع الأساس؛ وهو الاحتجاج والتظاهر وتحدي السلطة، وهي عناصر تشكل مركبات أساسية في مبدأ سيادة الشعب، وبالتالي هي جزء من أي نظام ديموقراطي، لكونها من ضمن الحقوق الأساسية لكل مواطن بدون أية تفرقة. لكن في الحالة الإسرائيلية ينبغي أن نتطرق إلى انفصام مفهوم سيادة الشعب، حيث أن الشعب هو ليس المواطنين وإنما الشعب الذي يتم تعريف الدولة بحسب هويته، ألا وهو الشعب اليهودي. هذا الانفصام الذي ينعكس بشكل دستوري في عدم المطابقة بين المواطنة والقومية، كما هو الحال في أغلبية الدول الديموقراطية، يغذي الشرخ بين حق الاحتجاج والتظاهر المكفول للجمهور اليهودي، كما يتجلى ذلك في الأسابيع الأخيرة منذ إطلاق مشروع التعديل الدستوري للحكومة الحالية، وبين حق المواطنين العرب في التظاهر والاحتجاج على سياسات التفرقة والتمييز ضدهم. وإذا كان تعامل قوى حفظ الأمن مع هذا الحق دلالة على نوعية وطبيعة النظام السياسي فإن البون الشاسع بين تعامل هذه القوى مع الاحتجاجات والتظاهرات الجارية في شتى المدن الإسرائيلية، احتجاجًا على التعديلات الدستورية التي طرحتها حكومة نتنياهو السادسة، وبين تعامل هذه القوى مع تظاهرات واحتجاجات شعبية في المدن والقرى العربية في الماضي، هي مؤشر واضح على ازدواجية النظام السياسي والقضائي الإسرائيلي. إن اليد اللطيفة والتفهم ومجاراة المتظاهرين في تل أبيب وحيفا والقدس ومدن أخرى من قبل قوى حفظ الأمن، والتي نعتبرها إيجابية ولازمة، تختلف وتتحول إلى يد حديدية صلبة عند الحديث عن متظاهرين عرب. تحاول هذه القوى في الاحتجاجات العربية ليس ضبط الأمن العام والأمان الشخصي للمحتجين وإنما الحدّ من قدرتهم على تحقيق ولو جزء بسيط من أملهم في التأثير على سياسات السلطة في شتى المجالات. بالتالي، فإن عمل قوى حفظ الأمن ليس أمنياً، بل سياسي في أساسه. وما تخفيه هذه السياسة هو الإصرار على ردع المتظاهرين وسلبهم أية إمكانية للشعور بأن لهم الحق والقدرة على أن يكونوا شركاء في تحديد هوية وماهية النظام السياسي الذي يقرر منظومة حياتهم والقيم والأولويات التي يعيشون بحسبها. هذا التعامل ليس انعكاساً لانفصام السيادة بين القومية والمواطنة، كما أسلفنا وكما تعزز ذلك من خلال "قانون أساس: إسرائيل الدولة القومية للشعب اليهودي" فحسب، وإنما يبطّن العقيدة العسكرية المتجذرة في العقلية الإسرائيلية منذ ما قبل قيام الدولة حتى اليوم.
الكل يرى أن قوى حفظ الأمن والقانون، بما في ذلك جهاز القضاء، تتعامل مع الاحتجاج في المجتمع اليهودي في الأسابيع الأخيرة بكفوف مخملية، بالرغم من أننا نتحدث عن حالة غير مسبوقة، خصوصاً أن الشرخ الاجتماعي في المجتمع اليهودي عميق وتعصف به أزمة لم يشهدها من قبل. الحديث السلطوي عن الحق في الاحتجاج بشرط عدم خرق القانون هو قاعدة أعاد التذكير بها جميع القائمين على أجهزة الدولة، بمن فيهم وزير الأمن القومي المعروف بتطرفه وبكونه صاحب تجربة طويلة في تجاوز القانون وحديثه في السابق عن شرعية استعمال القوة في الحالات التي لا يمكن فيها تحقيق الأهداف المنشودة بشكل قانوني وشرعي.
يقوم هذا الوزير، بحسب ما أدلى به عدة مرات، بالتحضير لإستراتيجية قمعية في حال امتدت التظاهرات والاحتجاجات إلى المدن والقرى العربية. بحسب ما هو متاح إعلامياً، يتم التحضير لسيناريو تدهور الوضع الأمني في المدن والقرى العربية. وكما يبدو، فإن قوى حفظ الأمن تتجهز لضربة قاسية ضد احتجاجات قادمة وهبة شعبية عربية محتملة. إن مجرد الحديث عن ذلك إعلامياً يأتي للردع والتهويل والتخويف وبالتالي المس بحق الجمهور، بغض النظر عن هويته، في التعبير عن استيائه وامتعاضه من سياسات الحكومة. كما يبدو، فإنّ الوزير المسؤول يقوم بالتجهيز لذلك كنوع من المبادرة الرامية إلى دهورة الوضع الأمني وافتعال أزمة أمنية بقصد كبح المظاهرات والاحتجاجات في المجتمع اليهودي من جهة وإدخال الشرطة في حالة تضطر، بحسبه، إلى قمع الاحتجاجات في المجتمع العربي بشكلٍ تعسفي من جهة أخرى. يأتي هذا الاستشراف المستقبلي بناء على ما يتم الحديث عنه جهراً والتحضير له فعلياً. وبالتالي من الجائز القول أن الاستراتيجية التي يتم التجهيز لها تأتي لتحقيق ما يأمل به هذا الوزير وقطاعات واسعة من المجتمع اليهودي، وهو مواجهة شاملة يمكن من خلالها تنفيذ مآرب وفرض وقائع من شأنها أن تعطي الشرعية لسياسات ديموغرافية استيطانية جديدة على أرض الواقع، بما في ذلك ترسيم حدود أمنية جديدة بين المجتمعين اليهودي والعربي في شتى أنحاء البلاد، وعلى رأسها في النقب والقدس. يسوّغ قادة المجتمع الإسرائيلي، بمن في ذلك قوى حفظ الأمن، هذا الفصل بناءً على التفرقة بين الاحتجاج في المجتمع اليهودي، الذي يقتصر على تغيير سياسات الحكومة دون المس بشرعية الدولة كما يقولون، حتى وإن كانت هنالك تجاوزات قانونية، كما تجلى في إغلاق شوارع رئيسية، وبين أي احتجاج في المجتمع العربي، الذي - بحسب العقلية العسكرية الإسرائيلية - يهدف دائماً، ومهما كانت دوافعه ونطاقه، إلى تغيير هوية السلطة وقيمها والمبادئ التي تعمل بحسبها لكونها تمييز ضده. تدل هذه العقيدة الأمنية على أن قوى حفظ القانون في إسرائيل ما زالت تتغذى من العقلية العسكرية التي تعتبر الوجود العربي تهديداً أمنياً، بغض النظر عن أهداف الاحتجاج الحقيقية، النابعة من انعكاس هذه العقيدة في سياسات كل الحكومات الإسرائيلية. وتظهر العقيدة المتجذرة هذه في تركيز قوى الأمن، ومعها أبواقها في وسائل الإعلام العبرية، على الحالات الاستثنائية في احتجاجات المجتمع العربي والتغاضي عن النمط السائد، حيث يحافظ أغلبية المحتجين أغلب الأحيان على الأمن العام وعلى سلطة القانون.
لا مجال للدخول في هذا السياق إلى ما تطرق إليه العديد من فلاسفة المجتمع حول أهمية الإرادة الشعبية وقدرتها على تغير مسار التاريخ. إذا نظرنا إلى الماضي نرى أن هبات شعبية واسعة الإطار أخضعت العديد من الأنظمة، حتى الأشد قمعية منها، منذ هبات العبيد في أيام الامبراطورية الرومانية أو هبات الشعوب في كل من فرنسا الملكية أو روسيا القيصرية في العصر الحديث، وحتى بعض هبات الشعوب العربية في العقد الأخير. بعض الهبات والاحتجاجات الواسعة تهدف إلى تغيير سياسات السلطة وليس إسقاط النظام. ولهذا، فإن الوقوف عند الفرق بينهما والعمل على تحديد الوعي الجماهيري لهذا الفرق أهمية قصوى في نجاح هذه الهبات وقدرتها على تحقيق أهدافها بالرغم من أن بعضها يبدأ بهدف محدود وينجرّ إلى اهداف أوسع تعرّض كل الجهد المبذول إلى الخطر.
لفت منظرو الهبات الشعبية الأنظار إلى خطورة الغوغاء عند الحديث عن إرادة التغيير الشعبية. كما حذروا من تحكّم الرعاع بحركات الاحتجاج لعدم القدرة على ضبطهم، وبالتالي إمكانية تدهور الاحتجاجات إلى مجرد هيجان طائش، ما يفقدها أهدافها والمنطق الكامن في مجرد حدوثها، أي التعبير عن إرادة شعبية كامنة تعتبر الأهم في حياة الشعوب. لا شك في أن للهبات الشعبية مظاهر متنوعة ومنها الخروج عن المعقول، كما حدث في احتجاجات ذوي البزات الصفراء في فرنسا والاندجنادوس-M 15 في إسبانيا بين الأعوام 2011-2015 و-Black Lives Matter في الولايات المتحدة في الأعوام الأخيرة. في هذه الاحتجاجات أيضًا استغل بعض المتطفلين عليها الفرصة للقيام بأفعال تمس بقدسية وأهداف الاحتجاجات. كما ظهرت في أرقي الاماكن أيضاً ظواهر غير محمودة لا تتماشى مع روح الهبات الشعبية، كما حدث في كتالونيا واسكتلندا وكندا وبولندا وبلجيكا.
لكن الاحتجاجات الشعبية ليست مجرد تنفيس عن غضب أو غليان، مهما كان سببه. الاحتجاج الجماهيري والهبات الشعبية هي ظاهرة اجتماعية تعبر عن عدم رضى واستياء تتنوع حدته تجاه سلطة أو مبنى قوة يعتمد سياسات أو سلوكيات غير منصفة ومجحفة تتعمّد الإساءة أو التمييز أو القمع أو كل هذه معاً. لهذا، ليس من مصلحة المحتجين تحويل هذه الظاهرة المهمة إلى مجرد انفلات يعطي الشرعية لقوى حفظ الأمن لتسويغ بطشها وقمعها للاحتجاجات. تنبع أهمية هذا الكلام من كوننا نعي أن من بين أهداف قوى الأمن، في بعض الحالات، توليد ضغط مقصود تجاه شخصيات معينة لدفعها للقيام بأفعال متطرفة مخالفة للقانون، مثل حرق القمامة في الشوارع أو تهديد أمن مواطنين آخرين، وذلك من أجل تبرير وتسويغ استخدام العنف ضد جميع المتظاهرين. هذا السلوك يظهر التعاون غير المقصود بين محتجين منفلتين وبين قوى الأمن، والذي يشكل جزءًا من استراتيجيات القمع الأساسية في الأنظمة التعسفية.
بالرغم مما قلته حتى الآن، لا بد لنا من طرح السؤال: لماذا، بالرغم من وعينا بما أسلفت، يقع العديد من الشبان العرب في مطب خرق القانون أو خرق النهج المتبع عند الأغلبية الساحقة لمجتمعهم، ما يفسح المجال أمام الشرطة وأبواقها الإعلامية لدمغ جميع المتظاهرين بتهديد الأمن العام؟ كما لا بد من طرح السؤال: لماذا لم تنجح قياداتنا حتى الآن في توفير آليات ملائمة للحد من هذه الظواهر، لكي تفوّت على قوى حفظ الأمن تحقيق استراتيجيتها التي تهدف إلى خلق حالة الردع والحد من قدرة المحتجين على التأثير؟ لا تعني هذه التساؤلات إلقاء المسؤولية على القيادات العربية أو التغاضي عن وجود مدسوسين من قوى الأمن يهدفون إلى إخراج الاحتجاج السلمي عن مساره، لكي تحقق هذه القوى هدفها. لا بد من طرح هذه الأسئلة من أجل رصد الواقع بكل مركباته، كما تأتي أيضاً لتشجيع التأمل ببعض الأفكار التي يتم اشتقاقها من تجارب ومقاربات أقليات قومية أو عرقية تستعديها قوى حفظ الأمن، مثل حالة الأفارقة- الأمريكيين في الولايات المتحدة، أو الكاثوليك في شمال إيرلندا قبل معاهدة السلام أو الكتالونيين والباسك في إسبانيا في عقود سابقة.
يجب، في بعض الأحيان، إزاحة غشاء الرومانسية والنوستالجيا عن أحداث تاريخية، حتى وإن كانت مؤلمة، مثل يوم الأرض وهبة أكتوبر 2000 وهبة الكرامة 2021، من أجل اختراق سحابات الهواء التي تغطي قدرتنا على رؤية ما خلفها أو تحتها واستقراء بعض الدلالات النظرية التي تقبع تحت طياتها. لهذا، لا تأتي التحليلات اللاحقة للتقليل، ولو للحظة، من قدرات الشعوب ولا من الإرادة الشعبية عندما تقبع قطاعات واسعة من الشعب تحت نظام قمعي تعسفي، جسدي أو رمزي أو كليهما. كما لا تتغاضى للحظة عن بنية القوة القائمة في إسرائيل، الآخذة في التطرف والتعسف والعنصرية المتزايدة. مع ذلك، دعونا نتساءل: ألا تقوم قوى حفظ الأمن والقانون بالتعاون مع البعض من أجل زرع الارتباك وتدفع، أو على الأقل تمنح المجال أمام، البعض لاتخاذ خطوات تتجاوز المعقول لكي تنقض على باقي المحتجين وتشتت مساعيهم؟ ألا نعي أن قوى حفظ الأمن تستعمل سياسة الفرقة من أجل تعزيز عدم الثقة بين القيادات والجمهور وتأتي بعقاب شديد على البعض من أجل ضرب ثقة الجمهور بقياداته؟ وألا نعلم ذلك بعد كل التجارب الطويلة من هي القوى الاجتماعية التي تميل إلى حرق الأخضر واليابس؟ لهذا يجب أن نسأل كيف يمكن أن تنجح قوى حفظ الأمن في تعزيز عدم الثقة بين الناس والقيادات وما هي عوامل السقوط في المطبات التي تضعف قدرة الاحتجاجات على تحقيق أهدافها؟ ألا يلعب التنافس الحزبي والشخصي في بعض الأحيان دوراً سلبياً في ذلك، كما يتجلى ذلك في رفع الأعلام الحزبية في المناسبات الوطنية؟ هل يمكن التغاضي عن العوامل التي تخضع الهبات الشعبية في نهاية الأمر لاعتبارات وحسابات لا تتماشى مع الغايات التي من أجلها انتفضت الجماهير؟!
هنا يأتي دور القيادات، ليس خلال الهبات فحسب وإنما في الأوقات الاعتيادية، والتي من مهماتها الأساسية توعية الجمهور وصقل عزيمته من أجل تعزيز الصمود وإرادة التحدي من جهة، وتفويت الفرصة على أجهزة حفظ الأمن للمس بشرعية الاحتجاج والحد من القدرة على تحقيق أهدافه، من جهة أخرى.
ليس هنا المكان المناسب للدخول في أنماط وآليات القيادة. مع ذلك، القيادة في زمن الاحتجاج هي القدرة على إقناع جمهور واسع بمصداقية تحديد المسار الأفضل، قيميًا واستراتيجيًا، من أجل تحقيق أهدافه المنشودة وبأن الانصياع للقائمين على ذلك هو واجب يتماشى مقصده مع روح القيادة. لهذا، فالقيادة بطبيعتها مبدعة وخلاقة ومرنة وحساسة لمشاعر جمهورها لكنها لا تنجر وراء مشاعره وإنما تحدد المسار الصحيح وتحدد هوامشه لإفساح المجال أمام التعبير وممارسة الاحتجاج بأشكال متنوعة تصب كلها في مصلحة الجمهور وتلعب دورًا مهمًا في تحقيق إرادته والاستجابة لآماله.
بناءً على ذلك، لا بد من الفصل بين قيادة مرتبطة بالنظام المنشود والمراد تغيير سياساته وبين قيادة لها هوامش حراك واسعة لأنها لا تستمد شرعيتها أو وظيفتها من النظام، وإنما من إرادة شعبية متينة وعامة. القيادات التي لها وظائف رسمية محدودة الحركة في مدى التغيير المطلوب، وذلك لكونها جزءاً من بنية القوة القائمة بالرغم من عدم تماهيها مع النظام وسياساته. لهذا، كلما كان التغيير المنشود للاحتجاج أكبر كانت قدرة القيادات الرسمية على الحركة محدودة أكثر. بالتالي، يجب الأخذ بعين الاعتبار أنه لا يمكن التعويل على القيادات القابعة تحت منظومة القانون الرسمية لتغيير جذري، لأن جل وظيفتها هو العمل من خلال وبحسب قواعد اللعبة القائمة وبالتالي استغلال هوامش المساومة المتاحة في بنية القوة للضغط على أركان السلطة من أجل تغيير سياساتها التي تشكل الدافع الأساسي للاحتجاج. هذا صحيح بالنسبة للنواب في البرلمان كما لرؤساء السلطات المحلية الذين من الواجب عليهم مساومة ممثلي الدولة للحصول على حقوق ودعم مادي لا بد منه من أجل تقديم الخدمات الأساسية المستحقة والمشتقة من منظومة المواطنة من جهة، ولكن الضغط على ممثلي السلطة للحد من تعسفهم وتمييزهم وعنصريتهم، كي لا تتفاقم الأمور إلى حد الاحتجاج من جهة أخرى. لا يعني هذا عدم اشتراك ممثلي الجمهور الرسميين في الاحتجاجات، بل يعني معرفة تقاسم الوظائف قبل وخلال وبعد الاحتجاجات من أجل تفويت الفرصة على قوى حفظ الأمن المس بمصداقيتها والعمل على حفظ التراكم التوعوي العام كما أسلفنا سابقاً.
يعني هذا، وبحسب تجارب تاريخية متنوعة، أن أي تغيير يتجاوز المساومة اليومية، أي يتحدى بنية القوة بالرغم من بقاء الاحتجاج ضمن القانون، يعتمد عادةً على قيادات من نوع مختلف، مدنية في أساسها حتى وإن كانت محزّبة. هذه القيادات بطبيعتها فطرية أكثر وحتى وإن كانت تعمل من خلال حركات أو مؤسسات غير تمثيلية. تدل الأبحاث المقارنة على أن تواصلها مع جمهورها وقدرتها على تحريكه من جهة وانصياع الجمهور لتعليماتها من جهة أخرى أعلى بكثير. كما تدل الاحتجاجات الشعبية في دول مختلفة على أن بعض القيادات الشعبية تطفو على السطح خلال الاحتجاجات فقط، ولم تكن بارزة قبلها. هذا النوع من القيادة يتشكل من خلال القدرة على حشد وتوجيه المحتجين وشحنهم بالطاقات والإرادة والعزم في مواجهة التقييدات المفروضة عليهم أو لقطع الطريق على قوى حفظ الأمن لإحباط مساعيهم. هذا ما حدث في روسيا وبيلاروسيا وبولندا وفرنسا وإسبانيا والولايات المتحدة وتونس ومصر خلال احتجاجات الربيع العربي في العقد الماضي، ما شكّل ركناً إيجابياً في نجاح الاحتجاجات، لكنه شكّل تحدياً كان يجب تداركه بسرعة لكي لا يتحوّل إلى عبء يُضعف حركة الاحتجاج ويخلق ارتباكاً ومنافسات لا حاجة لها.
هبة الكرامة ليست مجرد ذكرى عاطفية وحدثاً طرأ في موعد معين على رزنامة الزمن. كما أن الهبات الشعبية ليست ضرباً من ضروب النوستالجيا التي يتم التغني بها فقط. إنها تراكم للوعي واستذكار فعّال. من مسؤولية القيادات السياسية والثقافية تحويلها إلى ذكاء جماهيري ومعرفة شعبية. لذلك، هي جزء من التفكير الاستراتيجي المطلوب إجراؤه من قبل القيادات قبل وخلال وبعد الاحتجاجات. على هذه القيادات العمل على تعزيز المراجعة الشاملة لملابسات ما حدث ولماذا وإلى أين آلت الأمور. انتظار أن تصل قدرة الجمهور على استيعاب التمييز والعنصرية إلى حد لا يطاق وبالتالي الخروج إلى الشوارع للانتفاض قبل العودة إلى سبات غير مبرر - ليست من سمات القيادة. إذا كانت "القيادة" تنتظر حركة الشارع لتركب عجلة التاريخ فهي ليست قيادة. من جهةٍ أخرى، عدم القدرة على استقراء الواقع الاجتماعي وجس نبض الجمهور هو، أيضاً، علامة على انعدام القيادة. صحيح أن القيادة قادرة على تحريك الشارع، إلا أن هذه القدرة غير محدودة لاتخاذ هذه الخطوة. القيادة هي القدرة على خلق التماهي بين روح الجمهور وشعوره وبين تحديد الاستراتيجيات اللازمة لتحقيق أهداف هذا الجمهور المنشودة وترجمتها إلى ممارسات على أرض الواقع.
يجب ألا ننسى أن أحد أهداف الاحتجاج هو تحقيق العدالة. وهذا الهدف من الصعب تحقيقه بآليات غير عادلة وبمراوغات انتهازية أو بعض الفيديوهات المصورة. الاحتجاج العقلاني يتضمن الاتساق الكامل بين الوسائل والأهداف ووضع الخطط اللازمة لتفادي مواجهات لا حاجة لها وإحباطات وانتكاسات واردة. الاتساق بين هذه المركبات يدعو إلى الانضباط ويحد من قدرة السلطة ومؤسسات حفظ القانون على المس بشرعية الاحتجاج، وبالتالي تقويض أهدافها. تظهر الاحتجاجات الناجحة أن القيادات قد قامت بتحديد الأهداف، وفي مقدمتها تفويت الفرصة على من لا يريدون لهم تحقيق أهدافهم وإحباط عزيمتهم من خلال الاستعانة بمتطرفين أو متطفلين يساعدون في سحب الشرعية عن الاحتجاج أو من خلال تعزيز تنافس القيادات أو من خلال ردع البعض عن المشاركة خوفاً من عدم توفر حاضنة جماهيرية في حال تمت مقاضاتهم. إن وضع الاستراتيجيات والتكتيكات بشكل مبرمج ومدروس لمواجهة هذه التحديات هو الذي أنجح العديد من الاحتجاجات في دول مختلفة في العالم. كما أن إقامة الائتلافات اللازمة بين مركبات المجتمع، بما في ذلك التواصل مع ممثلين جماهيريين لمجتمع الأغلبية لضمان انضمام بعضهم لحركة الاحتجاج هو جزء مهم من مسؤوليات القيادة. ما أنجح احتجاجات الحقوق المدنية للأفارقة الأمريكيين في ستينات القرن الماضي، بقيادة مارتن لوثر كينج جونيور، كان انضمام أعداد كبيرة من البيض للاحتجاجات وإبقاءها سلمية. لهذا، فإن تفويت الفرصة على قوى الأمن ضرب الاحتجاج في صميمه هو هدف استراتيجي لكل احتجاج ويجب أن يكون الأهم في سلم اعتبارات القيادات ولا يمكن الانتظار حتى لحظات الاحتجاج من أجل ضمان عدم الوقوع في هذه المطبات. الاحتجاج يشبه الغمام فلا شكل واضح أو تركيبة منتظمة له، ومع ذلك إدارة حركة المحتجين وضبط نبضهم يجب أن يعمل كما الساعة، أي بانتظام ورتابة وسكينة. فقط من خلال هذا الدمج تحققت آمال الملايين من المحتجين في العالم وأتت بمستقل أفضل لهم ولأولادهم. إرادة الشعوب لا تقهر وكل القيود قابلة للكسر إذا ما تم استعمال الآليات العقلية، التنظيمية والروحية بحكمة ونباهة.
الصورة: لاورن زيف وموقع "سيحا مكوميت".
بروفيسور أمل جمّال
باحث في مجال النظرية السياسية والاتصالاتية المقارنة والفكر السياسي وعمليات الدمقرطة والمجتمع المدني، ومدير فرع الاتصال السياسي في قسم العلوم السياسية في جامعة تل أبيب