هبة الكرامة: ملاحظات حول تجربة اللد

أتت هبّة الكرامة، أيّار 2021، بعد أشهر طويلة من الاعتداءات على القدس بشكل عام وعلى حيّ الشيخ جرّاح بشكل خاص. استمرّت هذه الاعتداءات على مدار أشهر عديدة وجوبهت بمقاومة شعبية واسعة شارك فيها سكان القدس والداخل الفلسطيني من خلال مظاهرات أسبوعية وفعاليات ونشاطات عديدة في القدس وخارجها. تصدّرت قضية الشيخ الجراح العناوين محليًا وعالميًا وتحوّلت قضية إخلاء عشرات العائلات من الحي إلى قضية رأي عام أشغلت الفلسطينيين في كل أماكن تواجدهم وحازت على اهتمام كبير من أنصار القضية الفلسطينية في العالم.

بالإضافة إلى محاولة التهجير في الشيخ جراح وأحياء أخرى في القدس، كانت اعتداءات المستوطنين قد تفاقمت بشكل كبير في أغلب المدن والقرى الفلسطينية المحتلّة عام 1967، الأمر الذي أدّى إلى انفجار الحالة ودخول جزء كبير من أبناء شعبنا الفلسطيني في حالة اشتباك مع الاحتلال الإسرائيلي. وكان ما جرى في شهر رمضان المبارك عام 2021 في القدس والمسجد الأقصى، حيث ازدادت الاعتداءات على أبناء شعبنا المتواجدين في باب العامود واستخدمت الشرطة الإسرائيلية العنف بشكل واسع، ما أدّى إلى إصابات يومية في صفوف المصلّين والمعتكفين في المسجد الأقصى. وهو ما أدى إلى التصعيد في غزة وشن إسرائيل عدوانها مرّة أخرى على شعبنا في قطاع غزة، لتشتعل فلسطين التاريخية بمحاولات لصدّ العدوان من خلال مظاهرات وفعاليات شعبية نضالية في كل القرى والمدن في فلسطين التاريخية. ومن ثمّ تطوّرت الاحتجاجات في فلسطين إلى تظاهرات ضخمة، لم نشهد لها مثيلاً من قبل، مناصرة للقضية الفلسطينية، في عدد كبير من العواصم والمدن في كل أرجاء العالم.

لم يشهد الداخل الفلسطيني حراكاً سياسياً بحجم هبّة الكرامة في أيار 2021، منذ الانتفاضة الثانية عام 2000. فقد شهدت الغالبية العظمى من البلدات العربية مظاهرات ونضالات فردية وجماعية. شملت هذه النشاطات قرى وأماكن لم نعهد لها مشاركة سياسية نضالية في السابق. إلا أنّ مركز الثّقل كان في ما تسمّى بالمدن المختلطة في الداخل الفلسطيني وهي اللد، الرملة، يافا، حيفا وعكا.

لماذا المدن المختلطة؟

كي نفهم لماذا تركّز الحراك في المدن المختلطة بشكل خاص، علينا أن نعود إلى المشروع الذي أطلقه المستوطنون في هذه المدن، بالأخصّ بعد خطة فكّ الارتباط مع غزة عام 2005، وهو مشروع "الاستيطان في القلوب". إثر الانسحاب الإسرائيلي أحادي الجانب من قطاع غزة، بادر عدد كبير من قادة الاستيطان إلى مشروع استيطاني جديد، داخل الخط الأخضر هذه المرّة، وخاصّة في المدن المختلطة. كان هدف المشروع المُعلن "محو الخط الأخضر"، يقصد بذلك المستوطنون شرعنة احتلال عامّ 1967 كما شرعن حزب مباي احتلال 1948. ركّز المستوطنون حملاتهم الإعلامية على شعارات "حُكم تل أبيب كحُكم يتسهار"، بما معناه أنّ مصير تل أبيب مماثل لمصير مستوطنة "يتسهار" أو غيرها من المستوطنات.

انتشر مشروع "الاستيطان في القلوب" في المدن المختلطة بدعم كبير من الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة. دعمت هذه الحكومات عددًا كبيرًا من مشاريع "النواة التوراتية" في هذه المدن لكي تتعامل مع ما تسمّيه "القنبلة الديموغرافية"، إذ تعتبر الدولة بمؤسساتها وأحزابها المختلفة الوجود العربي، في الدولة بشكل عام وفي المدن المختلطة بشكل خاص، تهديدًا ديموغرافيًا. لذلك دعمت الدولة نقل أعداد كبيرة من مستوطني قطاع غزة سابقًا ومستوطني الضفة الغربية إلى العيش في المدن المختلطة.

لماذا اللد؟

الحكومات الإسرائيلية رأت في الوضع الديموغرافي في اللد ووصول نسبة السكان العرب في المدينة إلى ثلث السكان خطرًا ديموغرافيًا وأمنيًا كبيرًا على الوجود اليهودي في اللد وفي منطقة المركز. فقد حوّل أريئيل شارون ملفّات اللد وعكا إلى مكتب رئيس الحكومة لكي يتابعها بشكل مباشر وليذلل كافة العقبات أمام الوزارات المختلفة من أجل التسريع في تهويد المدينتين. لذلك، نرى دعمًا أكبر لكثير من مشاريع الاستيطان في المدينتين. وبعد سنوات من الاستثمار والدعم لمشاريع المستوطنين في مدينة اللد، استطاع هؤلاء انتخاب رئيسٍ للبلدية، هو يائير رافيفو، الذي تربّى وترعرع في شبيبة الحاخام الإرهابي مئير كهانا. وكان رافيفو قد أدار في السابق الحملة الإعلامية لبنيامين نتنياهو.

في العاشر من أيّار عام 2021، شارك المئات من أبناء مدينة اللد في مظاهرة ضد الاعتداء على أبناء شعبهم في القدس والمسجد الأقصى. ومع رفع العلم الفلسطيني في المظاهرة، شنّت قوات الشرطة هجوماً عنيفاً جدًا على المتظاهرين وفرّقت المظاهرة باستخدام القوة والعنف المفرطين. وفي أثناء عودة المتظاهرين إلى بيوتهم، شنّ المستوطنون هجومًا آخر في المدينة، استشهد على إثره الشاب موسى حسونة وأصيب عدد آخر من الشبّان. على أثر هذا العدوان، دخلت مدينة اللد، وعلى مدار عدّة أسابيع، إلى دائرة من العنف المنظّم على يد قطعان المستوطنين من داخل المدينة وخارجها بحماية الشرطة وقوى الأمن. أصبح هناك خطر على حياة المواطنين العرب في اللد وأعلنت الشرطة على مدار أيام عديدة منع تجوّل ليليّ في المدينة على السكان العرب فقط وقامت باعتقال المئات من الشباب وإدخالهم إلى السجون بدون أن تتيح لهم التقاء محامين ووجّهت للعشرات منهم تُهما متعلقة بالإرهاب.

في خضم الأحداث في هبة الكرامة في مدينة اللد، تنظّم ما يقارب 700 مستوطن من مستوطنات الضفة الغربية وحضروا إلى المدينة بهدف الاعتداء على المواطنين العرب و"تلقينهم درسًا" حول "من هو السيّد" في هذه البلاد و"من هو العبد". هؤلاء المستوطنون أعلنوا عن نواياهم العنصرية والعنيفة على شبكات التواصل الاجتماعي. إلا أنّ الشرطة سمحت لهم بدخول المدينة بالرغم من إعلانها منع التجوّل فيها. كما تبرعت بلدية اللد لهم بمباني البلدية للاستعداد لمسيراتهم العدوانية. وقام المستوطنون الذين يسكنون في المدينة بوضع إشارات على بيوت السكان العرب لتسهيل إمكانية تمييزها عن بيوت اليهود، بهدف الاعتداء عليها.

بعد أسابيع من التوتر والعنف، وصل عدد الشبان العرب المعتدى عليهم، من الأجهزة الأمنية أو من المستوطنين في المدينة، إلى العشرات. كما أُغلقت المصالح التجارية العربية وحرّض المستوطنون عليها وشنّوا حملات لحصارها ومقاطعتها. كما تسبب عدوان المستوطنين وقوات الأمن المختلفة بأضرار كبيرة جدًا في بيوت السكّان العرب وأملاكهم. حالات الاعتداء على المواطنين اليهود وأملاكهم كانت أقل بكثير ومن الصعب مقارنتها بحجم الأضرار التي لحقت بالمواطنين العرب وأملاكهم. إلا أنّ تقرير مراقب الدولة الذي صدر حول أحداث هبة الكرامة، اختار أن يتجاهل ذلك، مثلما فعلت الشرطة وقوات الأمن المختلفة التي لم تحقق في جرائم المستوطنين واعتداءاتهم. وهذا بالإضافة طبعاً إلى الإعلام الإسرائيلي الذي تابع الأحداث وحرّض - وما زال يحرّض حتى الآن - على المواطنين العرب في المدينة؛ وبالإضافة إلى مختلف القيادات السياسية في الأحزاب الصهيونية، من الائتلاف والمعارضة، التي دعمت عدوان المستوطنين وقوات الأمن.

لم يعد لدى المواطن العربي إمكانية لحماية نفسه أمام كل هذا العدوان سوى أن يتنظّم بشكل جماعي وأن يحاول أن يدفع جزءًا من إرهاب الدولة وإرهاب المستوطنين ضدّه. بعد التجربة المريرة في مدينة اللد، وأهم ما آلت إليه أحداث أيار وهبة الكرامة، هو أهمية التنظيم السياسي والتعويل على أنفسنا، إذ لا نستطيع أن نعوّل على دولة إسرائيل وأجهزتها الأمنية أن تقوم بدورها الأساسي بحمايتنا كمواطنين. في كل لحظة امتحان، تعود هذه الأجهزة لتعتبرنا أعداء فقط. لا بديل أمامنا كفلسطينيي الداخل إلا أن نتمكّن من بناء مؤسساتنا الوطنيّة وتعزيز دورها وتقويتها وتثبيتها على الأرض لتكون رافعة وحاضنة لشعبنا وحامية له في تحدياته المختلفة القادمة.


الصورة: لاورن زيف وموقع "سيحا مكوميت".

سامي أبو شحادة

أكاديمي وسياسي فلسطيني، مقيم وناشط في مدينة يافا، نائب سابق في الكنيست ورئيس حزب "التجمع الوطني الديمقراطي"

شاركونا رأيكن.م