لَم أَعُد ذلك الطّفل": اعتقالُ الأطفال الفِلسطينيين بين سَلب الطُفولة وإسكات الأَصوات

"عندما تم اعتقالي من منزلي، شَعرتُ وكأنهم اختطفوني... لم يتحدث إليّ الضباط أو الجنود إطلاقًا. حاولت أن أسأل أين أنا وماذا يحدث لي؟ لكن أحد الجنود كان يضربني ببندقيته لإسكاتي... منذ ذلك الحين، لم تعد الأشياء كما كانت. حتى البيت، أمي وأبي، الحيّ وأصدقائي... كلّ شيء تغيّر."
هذه شهادة طفلٍ فلسطيني يبلغ من العمر 12 عامًا، اعتُقل من منزله في القدس الشرقية خلال ساعات الفجر، بذريعة توجيه إهانة لفظيّة لمستوطن، أو ما وصفته السلطات الإسرائيلية بـ "الاعتداء اللفظي" في البلدة القديمة. قضى الطفل أسبوعين في التّحقيق والاحتجاز. لم يَعُد اعتقال الأطفال الفلسطينيين حدثًا استثنائيًا، بل أصبح جزءًا راسخًا من منظومة العنف السياسي التي تستهدف الأطفال في القدس الشرقية والضفة الغربية، وأداة ممنهجة في الإستراتيجية الإسرائيلية لقمع الأصوات الفلسطينية وتفكيك النّسيج المجتمعي.
وفقًا للحركة العالمية للدفاع عن الأطفال في فلسطين (DCI) حتى نهاية عام 2024، يَقبع 300 طفل فلسطيني في السجون الإسرائيلية، بالإضافة إلى 112 طفلًا رهن الاعتقال الإداري، دون تُهم أو محاكمة، وغالبًا بناءً على "أدلة" سِرّية.
توثّق تقارير منظمات حقوق الإنسان، مثل بتسيلم، ومؤسسة الضمير، وجمعية حقوق المواطن في إسرائيل وغيرها، انتهاكات جسيمة لحقوق الأطفال أثناء الاعتقال والتحقيق، بما في ذلك: الاعتقال الليلي، والتَعنيف الجسدي، النّفسي والجِنسي، استجواب الأطفال دون حضور شخص بالغ، التحقيق ساعاتٍ طويلة خلال الليل، ومنعهم من التواصل مع ذويهم. والمفارقة أن هذه الممارسات تتعارض مع القوانين الإسرائيلية نفسها، التي تنص صراحةً على حماية الأطفال والمراهقين من هذه الانتهاكاتت. لكن في حالة الطّفل الفلسطيني، يُنظر إليه في عيون السلطات والمؤسسات الإسرائيلية كـ"خطر"، ضمن خطاب أمني مشبَع بنزْع الإنسانية، حيث يتم تصويره كـ "إرهابي بالفطرة"، مما يبرر هذه الانتهاكات ويشرعنها. إن الانتهاكات المستمرة التي تتفاقم مع تفاقم الأحداث السياسيّة والصراعات، ويُعاد تشكيلها حسب مصالح المؤسسات الإسرائيلية، تثير تساؤلات مهمّة حول تأثيرها على الأطفال المعتقلين؛ صحّتهم النفسية وتَصوّرهم للمستقل.
انعدام الأَمان وتَشوُّه الواقِع: "أعينهم في كل مكان"
مِن أبرز التأثيرات النفسية التي ترافق تجربة الاعتقال والأسر هو تحطيم الرابط الآمن الذي يتكوّن في مرحلة الطفولة بين الطفل وعائلته. العائلة، التي يمثّلها أساسًا الأب والأم، والمنزل، تُعد المصدر الأول للأمان في حياة الطفل. عندما يُعتقل الطفل مِن منزله، وهو مساحته الآمنة، وفي وقت يتعذّر فيه على الوالدين التصدّي لهذا الاعتقال، يُكسر التصوّر الذي يبنيه الطّفل حول والديه وبيته كمصدرين للأمان الجَسَدي والنفسي. تؤدّي هذه التجربة إلى زعزعة واقع الطفل، حيث يُصبح كلّ مكان كان يُفترض أن يكون ملاذًا آمنًا مصدرًا للتهديد والخوف: المَنزل، والمَدرسة، والحيّ.يظلّ انعدام الشُّعور بالأمان يرافق الطفل ويتفاقم بشكل أكبر في ظلّ العُنف الاستعماري المستمرّ والسيطرة الممنهجة على الفَضاء الجغرافي بطرق متعدّدة، مثل الرقابة المستمرّة، والتجسّس، ووجود كمّيات كبيرة من الشرطة والجنود وغيرها من الإجراءات التي تتم تحت سِتار مجموعة من الذرائع منها "المشَّرع"، و"الأمني"، و"الطارئ". وبذلك، يتحوّل الحيّز الذي يعيش فيه الطّفل إلى "قَفَص" غير آمن، كما تصفه شلهوب-كيفوركيان، حيث يتعرض للسيطرة المُفْرِطة والمراقبة المستمرة.
الاعتقال، الخَوف وسِياسة الإِسكات
إحدى أبرز التأثيرات النفسيّة التي ترافق الأطفال المعتقلين هي الشعور بالخوف الشّديد والمستمر. نتيجةً للتعرض لشتى أنواع العنف، وبالذات العنف النفسي المُمَنهج، يجد الطفل نفسه في مواجهة تهديدات مباشرة وغير مباشرة تهدف إلى زعزعة إحساسه بالأمان وتقويض ثقته بمن حوله، مثل الإذلال والإهانة، والتهديد بإيذاء أفراد عائلته أو بهدم منزله، والعزل التام، والتلاعب النفسي، وغيرها من الأساليب التي تُستخدم لتحطيم نفسيّته وسلبه الشعور بالأمان، وزرع الخوف كأداة للسيطرة على حياته .ولا ينتهي هذا الخوف بمجرّد انتهاء الاعتقال، بل يستمر ويلقي بظلاله على حياة الطّفل النفسيّة والاجتماعية، ليصبح عائقًا رئيسًا أمام استعادة طفولته الطبيعية. معظم الأطفال المعتقلين الذين أَجرَيْت معهم مقابلات خلال بحثي حول اعتقال الأطفال الفلسطينيين في القدس، صرّحوا بعدم قدرتهم على العودة إلى الدراسة كما في السابق؛ بعضهم ترك المدرسة تمامًا، وآخرون قطعوا علاقاتهم بأصدقائهم، خاصةً بعد تعرّضهم للحبس المنزلي. امتنع جزء منهم عن زيارة أماكن وَرَد ذكرها خلال التحقيق خوفًا من الاعتقال مجددًا، بينما أكّد معظمهم أنهم لم يعودوا الأطفال أنفسهم بعد الإفراج عنهم.
في السياق الاستعماري، يرى فرانتز فانون أن هذا العنف يُستخدم كأداة قمع نفسي تهدف إلى إِسكات أصوات الأطفال من خِلال التهديد والتخويف والسيطرة النفسية. يُدخَل الأطفال إلى "قفص" صنعته القوة الاستعمارية، حيث يُجردون من طفولتهم ويُحرمون من فرصة التعبير عن إنسانيتهم وكرامتهم. قَمعُ أصوات الأطفال يهدف إلى تدمير قدرتهم على التواصل مع هويتهم الثقافية والجماعية، مما يؤدي إلى مَحو الذّاكرة الجماعية الموروثة للأجيال القادمة. وبالتالي، يُنتج هذا العنف جيلًا كاملًا يعيش في قفص من الخوف والسيطرة والقَمع، مُقتَلع من هويته الثقافية والتاريخية، وخاصة تاريخ شعبه وأرضه. في النهاية، تبقى رواية المُستعمِر، وتصوره للعالم وثقافته المسيطرة هي السائدة.
سَلب الطّفولة والصّدمة المُستمرّة
على الرغم من التأثير النفسي الفوري للاعتقال والعنف الممارَس على الأطفال المعتقلين، والتي يُمكن ملاحظتها خلال الاعتقال وبعده مباشرة، هناك تأثير يُعرّف إكلينيكيًا باضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، ويُشار إليه بعدة دلالات تشمل: الذكريات المزعجة، وتجنب المَواقف، والتغيّرات السلبية في التفكير والمزاج، والزيادة في الإثارة (وفقًا للدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية DSM-5). إلا أنه نظرًا للسياق السياسي الاستعماري الذي يعيشه الطفل الفلسطيني، فإن الحّديث عن اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) على المدى البعيد لا يعكس الصورة الكاملة. فالعنف المستمر في حياة الطفل الفلسطيني يخلق صدمات متتالية تفوق قدرته على تحليلها وفهمها، مما يؤدي إلى تراكم صدمات مستمرة ومتجدّدة، ويجعل التعافي منها أمرًا مستحيلًا أو في غاية الصعوبة. إحدى النتائج البارزة والمهمة في سياق بَحْثي حول اعتقال الأطفال، هي قدرة الأطفال على وصف الاعتقال كجزء من عملية مستمرة (Process)، وليس مجرّد حدث عارض أو منفصل. بكلماتهم الخاصة، ذَكَر الأطفال الحواجز التي يمرون بها يوميًا، ورؤية الجنود في كلّ زاوية من حياتهم، بالإضافة إلى الحروب المستمرة والتوتر السياسي الذي يحيط بهم. كما تحدّثوا عن هَدم المَنازل والاعتقالات المتكرّرة التي أصبحت جزءًا من واقعهم اليومي، إضافة إلى العديد من السياسات القمعيّة التي فرضت عليهم. ساهمت كلّ هذه العوامل في تفاقم شعورهم بالخوف المستمر، والإحباط العميق، والعجز الذي نتج عن الاعتقال، مما حول الصدمة إلى صدمة مستمرة ومُتراكمه، وأسهم في سَلب طفولتهم.
الصَدْمة وإعادة بناء الطفولة:
"سوف استمر باللعب في أزقة البلدة، هذه بلدتي"
بالرغم من الصدمة المستمرة التي يتعرّض لها الفلسطينيون منذ النكبة حتى الحرب الحالية على غزة والعُنف الاستعماري في الضفة الغربية، فإننا نرى أن الأطفال الفلسطينيين حاولوا دائمًا إعادة بناء طفولتهم، ومساحتهم، وأملهم بطرقهم الخاصة، محاولين الاستمرار في العيش والصمود رغم الألم والمعاناة. من نتائج البحث يمكننا الإشارة إلى عدّة طرق استطاع الأطفال المعتقلون من خلالها بناء حَصانة نفسية والاستمرار بممارسة طفولتهم وحقوقهم الأساسية، خاصة في ظلّ غياب أو نقص الخدمات المجتمعية النفسية المخصصة للأطفال المعتقلين.
لجأ بعض الأطفال إلى الرياضة واحتراف رياضات معيّنة ذات طابع مقاوم للظلم (مثل الكابويرا)، كنوع من التفريغ النفسي واكتساب الثقة. أصرّ آخرون على إتمام دراستهم للالتحاق بالجامعات، في تحدٍّ لظروفهم القاسية. كما تطوّع بعض الأطفال في مجموعات دعم للأطفال المعتقلين، ليكونوا جزءًا من حلقة دعم نفسي واجتماعي لمواجهة الآثار السلبية للاعتقال. ولعل أبرز محاولات الاستمرار هي محاولة تفسير الواقع وتشكيل وعي جديد يساعدهم على فهم الصدمة التي تعرّضوا لها، وتصوّرهم لأنفسهم كمقاومين وصامدين في وجه العنف الاستعماري بدل أن يكونوا ضحايا هذا العنف. يعزز هذا الوعي الجديد من قدرتهم على تحويل الألم إلى قوة، ويؤكد تمسّكهم بحقهم في الحياة والحرية، وفي مواجهة محاولات طمس هويتهم.
ختامًا، كان من المُهمّ لي كباحثة تسليط الضوء على التأثيرات النفسية للاعتقالات كجزء من مَنظومة سياسيّة وعنف استعماري يستهدف الأطفال الفلسطينيين يعمل على قمعهم نفسيًا، إسكات أصواتهم، وتدمير طفولتهم، وتقويض قدراتهم على النمو والتطور. من هذا المنطلق، فإنه من الضروري تطوير طرق تدخل علاجية وتربوية تتناسب مع هذا السياق الاستعماري المعقّد، بحيث لا تقتصر المعالجة على التعامل مع الصدمة كَحَدث عيني، بل يجب أن تكون معالجة شاملة تأخذ بعين الاعتبار التّراكم المستمر للصدمة الناتجة عن العنف المستمر والممارسات الاستعمارية. يجب على هذه التدخلات أن تركز على بناء الحصانة النفسية للأطفال من خلال أدوات تُعزز من قدرتهم على مواجهة واقعهم المعقد، بما يتناسب مع هويتهم الثقافية والنفسية، إضافة إلى دعم الطرق التي اعتمدها الأطفال للاستمرارية والتأقلم مع الواقع.
