بَصمَة الصّراع على التّكوين النّفسي للأَطفال العَرب الفِلسطينيين في إسرائيل

يرتَكز مضمون مقالَتي هذه على انطباعاتي الذاتيّة من خلال عملي في العلاج النفسي ولا يستند على أدبيات مهنيّة في المجال، والتي لا شكّ قد تُضيف وتعمّق فهمنا لحال الطفولة العربيّة الفلسطينية في إسرائيل.

مما لا شكّ فيه أن للصراع الإسرائيلي الفلسطيني - الحروب المستمرّة وغياب الأفق السياسي والحلول والمشاكل الاجتماعية والسياسيّة الناتجة عنه - الأثر العميق والمُركّب على الأطفال العرب، بشكل مباشر وغير مباشر. حقيقةً، الوضع النفسيّ للطفل العربي يُقلقني كمهني ويُشغِل بالي في كثير من الأحيان، لكن ما يقلقني بالأخص هو أن التأثيرات السلبيّة للوضع السياسي لا تحظى بالاهتمام الكافي لدى الأهل والمُربين والمهنيين. آمل أن تسليط الضوء على التأثيرات النفسية والاجتماعية المرئية منها (مثل الخوف والغضب) والمخفيّة (مثل اللامبالاة، والصراعات المكبوتة وفصام الهوية والانتماء) قد يرفع الوعي بالمشكلة ولربما يكون قاعدة لبناء خُطط تدخُّل.

يجدر التنويه إلى أن الأطفال العَرب مختلفون في ما يتعلق بحالتهم النفسية وليسوا جميعًا في الحال نفسه، إذ نجدهم "متموضعين" على نقاط مختلفة على كلّ سُلم من التأثيرات النفسية، وهذا مُرتبط بمبنى شخصيّتهم، ومدى تعرّضهم للحالات القاسية، ودور الأهل وآراؤهم وعوامل أخرى عديدة. على سبيل المثال، إذا أخذنا سُلّم الأمان- الخوف فنرى أطفالًا يميلون نحو الخوف وهنالك نحو الأمان أكثر، والأغلبية متواجدة على نقاط مختلفة في الوسط.

على الرغم من أنه لا مجال لمقارنة ما يمرّ به الأطفال العرب في إسرائيل مع ما يمرّ به الأطفال في غزة أو الضفة الغربية، فإن العيش في إسرائيل يُعرض الأطفال لتجربة أقل خطورة لكنها أكثر تعقيدًا. أكثر ما يُميّز هذه التجربة هي وجود صراعات نفسية مكبوتة نتيجة للحالة التي أسميها "الثنائيّة التناقضيّة". فمن جهة، ينكَشف الطفل العربي للوجه القبيح للصراع مثل القتل والدمار والعنصريّة مما يثير داخله مشاعر تعاطف وتماهٍ مع الفلسطينيين كضحيّة ومشاعر سلبية وعدائية تجاه "اليهود" كجناة. ومن جهة أخرى، يضطّر إلى كَبت هذه المَشاعر وإخفائها كونه يَعيش مع اليَهود ويراهم ويحتكّ بهم في الشوارع والحافلات والأماكن التجارية. لهذا الكبت ثمن نفسي كبير بحيث يخلق في داخله صراعات لا تجد لها حلولًا! قد تتحوّل إلى حالة من الإحباط والعجز واليأس واللامبالاة أو قد تظهر على شكل سلوكيات عدوانية أو إدمانية (الألعاب الإلكترونية، إدمان الشاشات، الأكل العاطفي وغيرها).

أما إذا خرجنا من الحالة المُعقّدة، فنجد أن حالة الخوف والقلق هي الأكثر شيوعًا نتيجة للمشاهد "القريبة" (مثل هدم البيوت في البلدات العربيّة، وتصرف الشّرطة التعسفي مع المتظاهرين، وهجوم جماعات يمينية متطرفة على أشخاص عزل) والمشاهد "البعيدة" عبر الشاشات لصور الموت والقتل والجرحى والدمار ووجع الفقدان والصراخ والعويل في غزة والضفة الغربية.

في ظلّ غياب منظومات دفاعيّة نفسية ناجعة، وحالة التماهي مع المشاهد القاسية، كون البنى النفسية لدى الأطفال قيد التطور، قد يؤدي هذا التعرُّض إلى "امتصاص" الأطفال لهذه الصور التي تُشكل لهم "صدمات" وبالتالي تسلبهم الشعور بالأمان. قد تظهر هذه التأثيرات في مخاوف الأطفال من الأمراض، على سلامة الأهل، ومن العتمة، والامتحانات، والمستقبل. في الحالات الأكثر صعوبة، قد نشخّص "اضطراب ما بعد الصدمة" (PTSD)  وعوارضه الاكتئاب، والتفكير الزائد، وكوابيس ومشاهد فجائية (Flash back)، والقلق، واليقظة المفرطة، والتراجع الاجتماعي والأدائي.

الحالة النفسية الموازِية للخوف هي الغضب والعدوانية. يَخلِق تماهي الطفل العربي مع ما يتعرض له الشعب الفلسطيني حالةَ "نحن" و"هم"، فما يشاهده في وسائل الإعلام وما يسمعه في البيت والشارع والمدرسة يؤجج بداخله مشاعر العداء والكراهية. مقابل شعوره بالعجز تجاه كل ذلك، قد تسمعه يشتم "اليهود" ويرغب في الانتقام منهم ويصفهم بأنهم سيئون ومجرمون ويمتلئ قلبه بالحقد والغضب. غالباً لا يعرف الأهل كيفية التعامل مع هذه "الحمولة" النفسية فيتأرجحون بين السُكوت أو نهيه للكفّ عن ذلك لئلا يسمعه أحد فيتورطون مع السُلطة. لا شك أن الأهل أنفسهم يتخبطون بين الموافقة الطبيعية مع مشاعر الأبناء والعقلانية والحماية والحفاظ على التوازن الأخلاقي.

في كلتا الحالتين، الخوف والغضب، قد تظهر عوارض سلوكية وذهنية أكثرها شيوعاً هي صعوبات في التركيز والتعلم والأطفال مع معلميهم وزملائهم، مما يؤدي إلى تراجع في الأداء المدرسي والدافعيّة للتعلم والقيام بالواجبات المدرسية، وكذلك صعوبات في التحضير الصباحي، التأخر والغيابات وغيرها. في بعض الأحيان، تظهر العدائيّة بالسلوكيّات العنيفة على أنواعها بين الطلاب، وبين الطُلاب والمعلّمين، مثل حالات التنّمر الجَسدي والإلكتروني وضد الممتلكات مما يُفقد الطلاب الشّعور بالأمان المدرسي.

في اعتقادي، الحالة الأكثر تعقيداً و"غير المرئية" تتمثّل في حالة التشرذم في مسيرة بلورة الهوية القومية والسياسية ومشكلة الانتماء. كلّما كبر الأطفال وزاد وعيهم تُثار لديهم أسئلة لا نهاية لها ولا أجوبة مُحدّدة لها حول الهوية والانتماء. "من أنا؟" ولأي مدى أنا فلسطيني؟ إسرائيلي؟ أنتمي إلى هنا أم هناك؟ فهو فلسطيني أكثر بالوراثة وأقل بالممارسة. فهو لا يَحمل علم فلسطين ولا يعرف النّشيد الوطني الفلسطيني ولا يشجّع منتخب فلسطين ولا يملك جواز سفر فلسطينيًّا ولا يتعلّم تاريخ الشعب الفلسطيني في المدرسة، ومعظم الأهالي لا يمارسون التثقيف الوطني والسياسي. في المقابل هو يرى العلم الإسرائيلي فوق مدرسته، ويسمع النشيد الوطني أحياناً ويتعلم اللغة العبرية منذ الصفوف الأولى وتاريخ الشعب اليهودي لاحقاً، وحتى قد يتابع مباريات المنتخب الإسرائيلي الذي يلعب في صفوفه لاعبون عرب. وعندما يُقارن بين التطور الحاصل هنا مقابل الوضع السيئ والفساد هناك يُفضّل هنا على هناك رغم أنه وأهله لا يشعرون أنهم جزء مما هو هنا.

بصفتنا بالغين، أهالي ومربين، ملقاة علينا مسؤولية مساعدة الأطفال ودعمهم النفسي والعاطفي، وإعطائهم الفرصة للتعبير عن مشاعرهم وآرائهم بواسطة الحوارات والرسم والكتابة والموسيقى وخلق بيئة آمنة توفر لهم نشأة صحّية ومتوازنة. لكي نكون لأطفالنا العون والقدوة و"المرساة" لسفينتهم المتخبّطة علينا من جهة العمل على حصانتنا النفسية، ومن جهة أخرى تعميق ثقافتنا ووعينا السياسي والقومي، مما يخلق مناخًا يتأثر به أطفالنا ويتلقون "العدوى" اللازمة في مواجهة حالة وجودية مميزة ونادرة.

د. عامر جرايسي

معالج ومحلل نفسي وموجه أهالي

رأيك يهمنا