كيف تمسّ التحرشات الجنسية في أماكن العمل بالأمن الاقتصادي والتقدم المهني للنساء العربيات؟
إن التحرش الجنسي يعتبر أحد أشكال العنف المبني على النوع الاجتماعي الذي تواجهه النساء في بيئة العمل والذي يمكن أن يدفع بعض النساء للانسحاب من سوق العمل. تمس التحرشات الجنسية في أماكن العمل بكرامة وحرية النساء العاملات، بالأمن الاقتصادي والثبات والتقدم الوظيفي لديهن، تُؤدي لأضرارًا صحية ونفسية للنساء ضحايا التحرشات والاعتداءات وتمسّ بمبدأ تكافؤ الفرص.
في هذا المقال، سأسلط الضوء على المس الكبير الذي تحدثه التحرشات الجنسية في التقدم المهني والاقتصادي للنساء اللواتي تعرضن للتحرش الجنسي، وسأقوم بعرض قصص مختلفة تلقيتها في عملي، لنساء تعرضن في أماكن عملهن للتحرش الجنسي وكيف أثر هذا الحدث على حياتهن المهنية والاقتصادية.
لا نملك معطيات قطرية حول حجم الظاهرة في أماكن العمل في المجتمع العربي بالتحديد بسبب عدم تبليغ النساء العربيات عن تعرضهن لتحرش جنسي في مكان عملهن أو تقديم شكوى للشرطة لأسباب مختلفة تحول دون توثيق بلاغات بشكل كافٍ، مثل الخوف من الوسم أو فقدان العمل وتدهور الوضع الاقتصادي والمعيشي وفي بعض الأحيان بسبب عدم القدرة على إثبات فعل التحرش ومخافة إلقاء اللوم عليهن وتحميلها المسؤولية، وان وجدت إحصائيات فهي الإحصائيات التي تُعد في مراكز خطوط المساعدة وهي غير شاملة.
إسقاطات التحرش الجنسي على الأمن الاقتصادي والتقدم المهني للنساء
تتعرض النساء في قطاعات العمل، والمهن والوظائف المختلفة للتحرش الجنسي على اختلاف وظائفهن وتخصصاتهن، وخاصَّة في المهن التي يهيمن عليها الطابع الذكوري والتي تسودها سياسات ذكورية تمييزية بحق النساء، فيكون لرفضهن وقع سلبي على ظروف عملهن، ويصبح عرض العمل أو شروطه أو الترقية رهنًا بقبول أو تحمل العروض والإيحاءات الجنسية غير المرغوبة بها.
بعض النساء اضطررن إلى ترك وظائفهن في أعقاب تحرش جنسي قد تعرضن له، والبعض الآخر بلَّغن عن غيابات متكررة عن العمل. معظمهن تعرضن للمس في الأجور أو طبيعة وظروف العمل كرد على رفضهن للإيحاءات والعروض الجنسية، فتم تقليل ساعات عملهن، أو حصلن على تقييمات سيئة لأدائهن الوظيفي ولم يتمكنَّ من الحصول على توصية من مكان العمل، أو حرموا من المكافآت والترقيات، وتم طردهن أو فصلهن تدريجيا.
في معظم الحالات ظلت بعض النساء عاطلات عن العمل لبضع سنوات بسبب الصدمة المتكررة. وغيّرت العديد منهن مهنهن وبدأوا من جديد في أسفل السلم الوظيفي، في وظائف بأجر أقل من الوظيفة التي كنّ عليها في السابق. البعض منهن تعرضن للغرق في الديون، وخاصَّة الأمهات أحاديات الوالدية، بسبب عدم قدرتهن على سداد القروض أو الدفعات المختلفة إثر تعرضهن للتحرش الجنسي، واضطراراهن لترك العمل أو الانتقال لوظيفة أخرى، فضلًا عن زيادة النفقات الصحية مثل جلسات العلاج النفسي وغيرها.
وبالتالي في كثير من الأحيان يضر التحرش الجنسي باستقلالية النساء الاقتصادي ويعزز اعتمادها على الرجل.
رفضت عروض المدير فسحبت صلاحياتها ونقلت من مكتبها إلى طابق الاستقبال
رشا (اسم مستعار) كانت تعمل في إحدى الشركات كمديرة موارد بشرية، بدأ مديرها بالتحرش بها بالتعليق على مظهرها وحياتها الشخصية وترك ملاحظات مكتوبة بخط اليد في مكتبها ليلًا. عندما أخبرته أنها غير مهتمة، أصبح يغرقها بطلبات العمل والمهام، وبالتدريج تم تقليص مسؤولياتها وإلغاء الامتيازات التي كانت تتمتع بها، ثم تم نقلها من طابق المكتب إلى منطقة الاستقبال. فهمت رشا أنه ليس لها مستقبل في هذا المكان وأنه يجب عليها الاستقالة. اضطرت للانتقال للعمل في وظيفة براتب أقل بكثير في مجال مختلف لم تكن لديها خبرة فيه. اليوم وبعد سنتين على الحدث، ما زالت لا تكسب نفس الراتب في وظيفتها السابقة.
حاول لمسها وعندما رفضت ذلك اعتدى عليها بضمها رغمًا عنها
في أحد المصانع، تعرضت سعاد (اسم مستعار) لتحرش جنسي حين بدأ المسؤول عن القسم الذي كانت تعمل به بالتحدث معها عن علاقته الجنسية بزوجته ثم حاول لمسها وعندما رفضت ذلك اعتدى عليها بضمها رغما عنها، فقامت بإبعاده وهربت من المكان. قام المسؤول بتكرار محاولة الاعتداء عليها مستغلًا وجودها في مناطق مظلمة أو داخل المصعد الكهربائي ولكنها واصلت الرفض وإبعاده. تقول سعاد إنها كانت بحاجة ماسة للعمل وهذا هو سبب تحملها ومواصلة عملها رغم التحرشات التي كانت تتعرض لها من قبله، قام المسؤول بالادعاء بأنها لا تقوم بعملها كما يجب واستطاع ضم أصوات أخرى من عاملين آخرين ضدها وانتهى الأمر بطردها من العمل.
قال "إن العلاوة في المعاش تتطلب منها تقديم أغراض أخرى له"
وفي أحد المكاتب تعرضت أماني (اسم مستعار) لابتزاز جنسي، حين توجهت لمشغلها صاحب المكتب وطلبت منه علاوة في الراتب بعد سنتين عملت بهما واجتهدت وأحرزت نجاحات باهرة، فكان رده أن العلاوة في الراتب تتطلب منها تقديم أغراض أخرى له. في البداية تجاهلت أماني الموضوع وتظاهرت بأنها لم تفهم ما يعنيه؛ كي لا تخسر كل ما بنته في وظيفتها، ولكن صاحب العمل استمر في التمادي بتقديم عروض ذات طابع جنسي وتشكيل ضغط عليها من أجل قبولها في العروض لزيادة راتبها. اضطرت أماني لترك العمل، وظلت لشهور عديدة تبحث عن عمل مناسب وما تزال تشعر بالأسف على المشاريع التي كانت قد اجتهدت في إنجاحها.
بخصوص الراتب ما تقلقي كوني حنونة معي وبتطلعي راضية
وفي إحدى مقابلات العمل كمساعدة أبحاث، وظيفة أحلامها كما تقول رهام (اسم مستعار) والتي لطالما انتظرت فرصة تُدخِلها إلى هذا المجال، وخاصَّة أنَّ تخصُّصها لا يمنح الكثير من هذه الفرص. سأل المشغل عن نوع الرائحة التي تضعها وعبّر عن إعجابه بها وطلب منها أن تضعها في العمل لاحقًا عندما تبدأ به، ظل المشغل يحدق بها أثناء المقابلة ثم قال لها "بخصوص الراتب ما تقلقي كوني حنونة معي وبتطلعي راضية". لم تكمل رهام المقابلة وانسحبت بشعور من الإهانة وخيبة أمل كبيرة.
"تعمليش منها قصة، كلها نكتة، مقربناش عليكِ"
تعمل مريم (اسم مستعار) في مكتب للتأمينات، جميع الموظفين فيه رجال. خلال ساعات العمل، كان الموظفون يرمون النكات ذات الفحوى الجنسي، ويتحدثون عن أمور ذات إيحاءات جنسية دون أخذ وجودها بعين الاعتبار. كانت مريم تتظاهر بأنها لم تسمع أو لم تفهم وتضطر أحيانا لوضع سماعات في أذنها لتتفادى هذه الأحاديث، وعندما اعترضت على تصرُّفاتهم ورفضت أن تكون جزءا من هذه الثقافة التنظيمية السامة قالوا لها باستهتار "تعمليش منها قصة، كلها نكتة، مقربناش عليكِ". قدمت مريم لاحقًا استقالتها بالرغم من الضغط الاقتصادي الذي تسببت به استقالتها وقالت: كنت على استعداد للفقر والجوع وعدم الاستمرار ليوم واحد في مكان العمل. ما تعرضت له مريم هو تحرش جنسي غير مباشر وهو نوع تحرشات شائع جدًّا في أماكن العمل.
ردات فعل النساء على للتحرش الجنسي في أماكن العمل
يظهر من القصص أعلاه أنه في معظم الحالات تقدم النساء استقالتهن من أجل الهروب من بيئة العمل التي تسودها التحرشات، في الحقيقة لا تقدم النساء العربيات بلاغات عن التحرش الجنسي إلا في حالات عدم مقدرتهن على الاستقالة. نظرًا لأن التحرشات الجنسية تكون مصحوبة بمضايقات وتنكيل من قبل آخرين في أماكن العمل، مثلًا صاحب العمل الذي يخاف أن تشوه الشكوى سمعة مكان العمل يقوم بإسكات المتحرش بها، فتفقد النساء ثقتهن في مكان العمل وانتمائهن له، وبالأخص عندما يمتنع المشغل أو صاحب العمل من التحقق من حادثة التحرش أو يتم تصنيف المشتكية على أنها "مثيرة للمشاكل" وتتسبب بتشويه سمعة مكان العمل.
عدم توازن القوى في أماكن العمل
عدم توازن القوى وانعدام المساواة بين المرأة والرجل وتنميط الدور الاجتماعي من أهم أسباب التحرش في العمل، فهنالك طرف يتمتع بامتيازات تفرضها المجتمعات الذكورية، وتتمثل في الفرص التي يتمتع بها الرجال بينما لا تتمتع بها النساء بالقدر ذاته.
من الممكن أن يحدث التحرش الجنسي في علاقات العمل الأفقية أي بين الزملاء، قصد التشويش على النساء والتأثير على فعاليتهن مما قد يحول دون عدم الوصول إلى كامل إمكاناتهن، لكنه غالبًا ما يقع في العلاقات الهرمية، إذ يستغل المتحرش سلطته ويساوم الضحية على الوظيفة أو الترقية أو أي امتيازات وظيفية أخرى، أو حتى على إنهاء العمل. ولذلك هنالك أهمية لوجود النساء في مواقع سلطة واتخاذ قرارات في العمل؛ الأمر الذي من شأنه إحداث توازن قوى في مكان العمل وبالتالي سيادة بيئة عمل متوازنة وآمنة من التحرشات الجنسية.
على الرغم من الإنجازات في النهوض بمكانة النساء في مجال التعليم والعمل، ما يزال هنالك تمثيل زائد للنساء في المهن ذات "الياقات الوردية" مثل التدريس ورعاية الأطفال وخدمات التغذية التي تتميز عادة بانخفاض المكانة والأجور الضئيلة، وتفضل بعض النساء مثل هذه المهن؛ ولذلك إن التحرش الجنسي يشكل ممارسة تهدف لتقويض المكانة المهنية للنساء وإبعادهن من مواقع الصلاحية في المهن التي يشغلها الرجال ويتم اتباع سياسات تمييزية متجذرة فيها من أجل شرعنة التسلسل الهرمي التنظيمي الذي يستبعد النساء مثل "العمل بساعات إضافية" من أجل تفسير فجوة الأجور بين الجنسين.
تعامل المشغل في المجتمع العربي مع ظاهرة التحرش الجنسي
يتعامل المشغل العربي عادةً على أساس عدم وجود هذه الجرائم في مكان العمل، ويتجنب مواجهتها ومعالجتها في حال معرفته في وقوعها، وبدلًا من أن يطور الأدوات اللازمة لمنع هذه الظاهرة ومواجهتها ومعالجتها، واتخاذ التدابير اللازمة من أجل ذلك، يقوم بالوصول إلى تسوية تظلم المتحرش بها عادةً بنقلها من مكان عملها أو طردها، ولا شك أن الوصمة المجتمعية التي تخاف بسببها النساء مواجهة المتحرش تشكل تربة خصبة لهذه التسويات والقبول بها. بحسب المادة 7 من قانون منع التحرش الجنسي تقع على المشغل واجبات في مستويين، المستوى الأول منع حدوث تحرش جنسي وتنكيل في مكان العمل والمستوى الثاني معالجة شكاوى التحرش الجنسي والتنكيل وعدم قيامه بواجبه حسب القانون يعرضه المساءلة.
نظرة المجتمع النمطية للمرأة
تساهم نظرة المجتمع النمطية للمرأة العاملة في تعرضها للتحرش الجنسي في مكان العمل، فهنالك فئة من الرجال عقولها قاصرة على تقبل واحترام النساء العاملات معهم باعتبارهن كيانا مستقلا بذاته يتقاسم معهم نفس الحقوق والواجبات، بعيدا عن النظرة الذكورية التي تعتبر المرأة حيثما وجدت على أنها بضاعة وجدت لتلبية رغبات جنسية. كما يقوم المجتمع بتوجيه أصبع الاتهام إلى المرأة على اختيارها لملابسها أو لطريقة تعاملها مع الجنس الآخر في مكان العمل، في استبعاد تام للمشكلة الحقيقية ليصبح فعل التبليغ عن التحرش لعنة حقيقية تواجه النساء اللاتي يجدن أنفسهن أمام سيل من الاتهامات والهجمات غير المنطقية ما يفقدهن القدرة على التحدث عن معاناتهم الجسيمة في فعل التحرش.
خاتمة
لا مصداقية في إجراءات تسعى للمساواة بين الجنسين في مكان العمل ما لم تتخذ فيه إجراءات فعالة للتصدي لظاهرة التحرشات الجنسية.
أماكن عمل خالية من التحرشات الجنسية يعني حماية كرامة وحرية النساء، وقيامهن بمزيد من النشاط المهني والاقتصادي فيها، كما يعني معدلات أعلى من النمو الاقتصادي والإنتاجية والمزيد من المساواة في توزيع الدخل ودرجة أكبر من الاستقرار الاقتصادي للنساء والعائلات والمجتمع.
إن الحديث عن منع التحرشات الجنسية ودعم المساواة بين الجنسين في أماكن العمل ينبغي أن يكون في صدارة جدول الأعمال، وعلى المشغلين القيام بمسؤولياتهم الكاملة أمام القانون من خلال تذويت حق النساء بالعمل في بيئة آمنة كحق أساسي. هنالك ضرورة لوضع سياسات تنظيمية تحد من التحرشات الجنسية في أماكن العمل لمساعدة النساء على التقدم مهنيا واقتصاديا، لا شك أن الحديث عن عملية ليست قصيرة الأجل، ولكن من شأنها تحقيق إنجازات ملموسة. وأخيرًا من الضروري ضمان الحماية للنساء، وتوفير آليات فاعلة لتقديم الشكاوى و آليات إنفاذ القانون في مكان العمل وتعيين مسؤولات ذوات كفاءات لمنع التحرش الجنسي في مكان العمل.