الذكاء الاصطناعي - كيف يؤثر على حياتنا؟
"يؤثر الذكاء الاصطناعي على حياتنا بشكل كبير، حيث يمكنه تحسين كفاءة العمل وتوفير الوقت والجهد. يستخدم الذكاء الصناعي في العديد من المجالات مثل الطب والتعليم والنقل والتسوق عبر الإنترنت. يمكنه تحليل البيانات بشكل سريع ودقيق واتخاذ القرارات الأمثل. ومع ذلك، يجب أن يتم استخدامه بشكل مسؤول لضمان عدم تأثيره على العمالة وحماية الخصوصية."
هذه السطور من اجابة تشات-جي بي تي على سؤالي: "كيف يؤثر الذكاء الاصطناعي على حياتنا؟ عدَّد لي أهم الأمور حتى 50 كلمة". أستطيع أن أقول إنني أتفق مع هذه الإجابة إلى حد كبير، وأن الصياغة أبهرتني. والصورة التالية أنتجها أيضا برنامج ذكاء صناعي لوصف "تأثير الذكاء الصناعي على الإنسان" وفق ما وصفته للبرنامج، والمهم أن لهذه الصورة لا يوجد مثيل آخر في الإنترنت، بل وبإمكاني أن استخدمها بحرية، ومع القليل من الإضافات يمكنني أن أبيعها كلوحة فنية خاصة بي.
أصبح من الصعب تمييز الإنتاجات الرقمية - هل هي بشرية أم من انتاج الذكاء الصناعي. تتكاثر وتتطور بتسارع هذه البرامج وأصبح لدينا المئات منها. منها ما يمكننا من إنتاج مقاطع موسيقية من وصف نكتبه، أو إنتاج صورة لتعبيرات نصية نخترعها، أو إنتاج فيديوهات من كلمات نصوغها، وكذلك إنتاج وصف نصي لصور نختارها، وملخصات علمية لمواضيع تهمنا، واختيار الرحلة الملائمة لاحتياجاتنا، وتوجيهنا لأية أعمال لها نسبة نجاح عالية، وغيرها الكثير الكثير من الأمور الأخرى التي تغير قوانين لعبة التكنولوجيا الرقمية وحياتنا.
الذكاء الاصطناعي - AI - Artificial Intelligence من أين وإلى أين؟
تعود بداية العمل على الذكاء الاصطناعي إلى عام 1956 كمجال أكاديمي ومشاريع أولية نحو تطوير عقل صناعي بريادة علماء ومفكرين من شركة IBM، مع أن الفكرة بدأت قبل ذلك بعشرات السنوات بين العديد من المفكرين والعلماء من عدة مؤسسات أكاديمية وعلمية. تطور الذكاء الصناعي مع التطورات في عوالم الحاسوب والتكنولوجيا الرقمية وتحول من بدايات في حل مسائل جبرية معقدة إلى الفوز على بطل العالم الروسي كاسباروف في الشطرنج عام 1996، ومع بداية هذا القرن تسارعت التطورات لتشمل عدة مجالات. ومن أكثر هذه المجالات هو تطوير التعامل مع لغة البشر المكتوبة والمحكية وبعدة لغات. ما زالت التطورات مستمرة والشركات الرائدة في هذا المجال تسعى للوصول إلى ذكاءات صناعية تحاكي وتفوق البشر ليس فقط في الذكاء التحليلي، بل وتعلن عن توجهها لتطوير قدرات عاطفية، اجتماعية الى جانب الذكاء الصناعي، بل ويقولون - أبعد من ذلك - إنهم يسعون للوصول إلى الذكاء الصناعي لـ "الوعي الذاتي"، فهل هذا ممكن؟
كيف يعمل الذكاء الاصطناعي؟
باختصار، الذكاء الاصطناعي يعتمد على حوسبة ملايين المعطيات والإنتاجات البشرية الرقمية لبرامج محوسبة "لتتعلم"، بمعنى تعالج، تنظم، تحلل، تدمج وتنتج وفقا للمعطيات. الخوارزميات (أي مجمل خطوات طريقة حل لمشكلة ما) التي وفقها تبرمج برامج الذكاء الصناعي التي تتميز بكونها مستمرة في التعلم من معطيات جديدة ومن تقييم إنتاجاتها وأدائها على يد البشر أو بطرق محوسبة، وبهذا تتكون سيرورة تقدم وتطور مستمرة في دقة هذه البرامج. فمثلا هنالك بوتات (Bots) في الصين تساعد القضاة للبت في القضايا بسرعة وباستخدام أكبر كم من الأدلة. في أحد الأبحاث في أمريكا لبرنامج القاضي الإلكتروني، وجدوا أن نسبة الأخطاء لدى القضاة البشر أعلى من نسبة الخطأ في القرارات لدى القاضي الإلكتروني، الذي ما زال طور التطوير. كون التكنولوجيا الرقمية تتطور بتسارع فهي تمكن برامج الذكاء الصناعي أيضا من التوسع والتعلم المتسارع لرفع الأداء والدقة والتوسع في مجالات جديدة.
بماذا يتفوق الذكاء الاصطناعي على الذكاء البشري؟
من الواضح أن التكنولوجيا الرقمية بخوارزمياتها الذكية، أسرع وأدق من الإنسان في الكثير من المجالات، فالمنتجات الرقمية تقدم خدمات لملايين الناس خلال ثوان بينما يحتاج الموظف على الأقل دقائق للقيام بمهمة واحدة.
هناك برامج طبية ذكية تستطيع تمييز ملايين الأمراض خلال ثوان، بينما يحتاج الطبيب عشر دقائق لفحص وتمييز مرض شخص واحد، ناهيك عن دقة البرامج التي تعتمد على ملايين المعطيات السابقة والأبحاث الحديثة، التي لا يستطيع أي متخصص في وقته المحدود الوصول إليها. يمكن للروبوتات أن تطفئ حرائق خطرة أو تبيد مجمعات بشرية وتخرج دون تضرر. الذكاءات الصناعية عمليا تكرر ما يعرفه الإنسان، وتجمع المعارف البشرية لديها منذ ملايين الناس وتبقيها حتى بعد موتهم، كل ذلك تعالجه وتحلله وتنتج منه بسرعة أكبر ودقة أعلى مما يمكنه الإنسان القيام به.
بماذا إذن نتميز بذكائنا البشري عن الذكاء الاصطناعي؟
الإنسان صنع وبرمج هذه الأجهزة، لكن هذه الأجهزة لا يمكنها صنع إنسان. الذكاء الاصطناعي والذكاء الإنساني البيولوجي يعملان بطرق مختلفة، ومن هنا توجد المحاولات التطويرية للدمج بينهما، لتعدي الحدود التكنولوجية. إنتاجات الذكاءات الصناعية لا يمكنها أن تتخيل، أو تتعامل مع قضية أو حدث جديد، لا يوجد له معطيات سابقة فالإنسان يتميز بالتفكير الابتكاري والخلاق والإبداعي، وأيضا لا يستطيع الذكاء الصناعي تصحيح أخطاء بشرية على أسس قيمية وأخلاقية. فمثلا برامج القضاء المحوسبة، ستستمر بقرارات ظالمة على نفس الفئات المظلومة مسبقا من القضاة البشريين، فسيستمر القاضي الرقمي بالتعلم وتكرار الأخطاء وظلم البشر. إضافة لذلك فالإنسان لديه تعدد في الذكاءات، والمهارات والقدرات، فيمكنه تحريك يده بذكاء، والحديث بتعاطف، والتعرف على وجه إنسان صادفه سابقا، في حين أنَّ الذكاء الصناعي يكون متخصصا في بضع مجالات محدودة. العقل البشري بطاقة قليلة يمكنه الخروج بالكثير من الأفكار والمهام، بينما حواسيب الذكاء الصناعي تستهلك طاقة يمكن بها إضاءة مدينة كاملة.
الإنسان مخلوق يتميز بتنوع طرق التعلم، وبمستويات تفكير معقدة، والقدرة على تحويل تعلمه وتجاربه إلى حكمة، الإنسان مخلوق أخلاقي، مخلوق لديه نعمة الاختيار، ولكنه أيضا يتحمَّل مسؤوليَّة ذلك الاختيار. إنَّه مخلوق بيولوجي قمة في التركيب والتعقيد، من مبنى جسدي، فكري، عاطفي وروحاني. مجمل هذه الميزات تجعل من الإنسان المخلوق الأكثر قدرة على تحسين حياته وحياة البشرية، أو طبعا عكس ذلك للأسف - جعله قادرا على اختيار أن يكون الأكثر إساءة لنفسه وبيئته. فهذا المخلوق لا يمكن الوصول إلى شبيه له "لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلْإِنسَٰنَ فِىٓ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍۢ (القرآن الكريم، سورة التين - 4). لكن ستبقى هنالك محاولات تقليد، أو تغيير في الطبيعة البشرية التي خلقنا الله عليها، وهنا يظهر الدور المركزي للأخلاقيات والإيمان لتكون البوصلة التي نختار من خلالها مسار حياتنا والميزان الذي وفقه نحاول التمييز بين الصالح والطالح.
كيف نتعامل مع هذه التطورات؟
الذكاء الاصطناعي الذي نشاهده اليوم ليس إلا جزءا من بداية الطريق وسيكون فيها الكثير من الخير والشر. علينا كبشر تحديد أية أمور نستطيع بأمان تركها للذكاء الصناعي والاستفادة من أدائها، مثل المجالات الطبية، والتحليل والاستنتاج من بيانات كبيرة. أية أمور "نتشارك" بها، مثل مهام إدارية، إنتاجات غذائية، مساعدات إنسانية. أية أمور من الخطر إعطاء المجال لتطويرها ونشرها ودمجها بحياتنا، مثل خرق الخصوصية، والتأثير على العقول والفكر الإنساني الحر.
بلا شك إن التطورات التكنولوجية الرقمية بدأت تأخذ الكثير من أماكن العمل ذات سمة التكرارية، توجه رغبات وقرارات الناس بذكاء لأجندة من يبرمجها ويطورها، تعطي قوة أكبر لمن سبق إليها. لكن أيضا بالمقابل نفس هذه التكنولوجيا الرقمية والذكاءات الصناعية فتحت آفاقا وفرصا جديدة، مثل وظائف جديدة من نوع آخر، وصول المعرفة لأماكن لم تصلها مسبقا، تواصل وتعاون بشري واسع، خدمات أسرع وأدق وغيرها الكثير من أمور أضافت على حياتنا.
التطورات السريعة عليها أن تجعلنا نعيد التفكير في الكثير من الأمور وأهمها التربية والتعليم، لتوجيه أولادنا ومجتمعنا وتدريبهم ليبقوا ذوي معنى ونجاح في هذه الحياة، لتكون بوصلتهم فعل الخير والفائدة للبشر والبيئة. من هنا فمن الواجب أن نوجه بوصلة التربية والتعليم نحو تطوير القدرات، لنبقى نحن من ندير أنفسنا وما حولنا ولا نتحول إلى مقاطع مما تديره الذكاءات الاصطناعية ومن يقف خلفها، إليكم باختصار توضيح حول القدرات الست:
تنور رقمي: استثمار بحكمة ومسؤولية لعالم تكنولوجيا الرقمية لما فيه الفائدة للفرد والمجتمع والبيئة، التحول الحكيم من الاستهلاك الى الإنتاج.
قدرات اجتماعية وثقافية: إدارة حياة اجتماعية محلية، قطرية وعالمية، فهم واستثمار تعدد الثقافات، مسؤولية جماعية، تواصل وحوار، تعاون ومشاركة.
تفكير وتعلم: تنويع بطرق التعلم، تقييم ذاتي، مستويات تفكير عالية، إيجاد حلول، تفكير إبداعي، تفكير ناقد، ابتكار.
إدارة الموارد: تقييم الموارد ومعرفتها، إدارة الوقت، المال، الطاقة، العلاقات.
تكيف ومرونة: ملاءمة سريعة وبجودة للتغيرات، مرونة في التفكير.
حصانة وتوجيه ذاتي: الوعي الذاتي وتوجيه البوصلة الشخصية، إدارة المشاعر، التعامل مع التحديات، تقوية الإيمان الداخلي، فهم ومعرفة القيم والثوابت الشخصية.
الذكاء الاصطناعي واقع ويتسارع في التطور، تأثيره كبير على مجمل حياتنا، ويضعنا أمام خيار جديد: هل نسارع في تطوير أنفسنا لندير نحن هذه الحداثة؟ أم لا نكترث ونتحول إلى مقطع يسهل للذكاء الاصطناعي إدارته وتوجيهه كيفما يشاء؟
د. أسماء نادر غنايم
محاضرة وباحثة في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات ومؤسسة ومديرة في مركز InnDigital - للتطوير التكنولوجي في المجتمع والتربية. [email protected]