قراءة نيتشيانية لإجراءات إعادة صياغة المشروع الصهيوني

في كتابه إرادة القوّةِ، ينتقدُ فريديريك نيتشه العلاقةَ السببيّةَ بين الأخلاق والفعل الإنساني ويتحدّثُ عن انّ الدافعَ الأساسيَّ للسلوك هو الواقع الوضعي والحيثيات التي تلمّ بالفاعل البشري، الهادفُ الى السيطرةِ والتأثيرِ، من أجل تأكيد الاستمرارية، خاصةً في حالات الصراع. إنّ تقليلّ نيتشه من أهمية الوازع الأخلاقي كعامل دافع أو هدف منشود للفعل الإنساني، لا يعطّلُ أهميّته كمسوّغ أو مشرّع لهذا الفعل. إنّ الجانِبَ الأخلاقيَّ مرافقٌ بشكل جدلي لكلِّ فعلٍ بشري، حتّى لو اقتصر ذلك على كونه أداة من شأنها أن تغلّف الاعمال الأكثر احتيالاً بغطاء جميل وحسن. فالأخلاقُ والحكمُ على الأفعال، الدوافع والاعتبارات الإنسانيّة، رافقت الحياة البشرية منذ القدم، ما يطرح التساؤلَ حولَ مصدرها ومقوّماتها ومقاييسها. وبالرغم من انتقاد نيتشة لمنظومة الأخلاق المهيمنة في المجتمعات الأوروبية، الّا انّه لا يلغي أهمية الأخلاق كعامل مهم في الحياة البشرية، بل يسعى الى التحذير من وضعٍ يجعلُ من استغلال قيمٍ اخلاقيّةٍ معيّنة لتنفيذ مآرب او أعمال لا تمتّ للأخلاق الحسنةِ بصلةٍ، إمكانية متاحة. وقد كان نيتشة أكثرَ حذراً من نيكولو ماكياڤيلي، الذي فصل في كتابه الأمير فصلاً تامًّا بين السياسةِ والأخلاقِ، جاعلًا من السياسةِ المجال الذي يهدف الى التمجيد والحفاظ على القوّة بكل الوسائل، حتى تلك المُنافية للأسس الأخلاقية الأساسية منها. 

على ما يبدو انَّ هذا الاختلاف القائم بين رؤية نيتشه وعقيدة ماكياڤيلي يشكّلُ الدافعَ الذي يسيطرُ على مجرياتِ الأمورِ في الواقع الإسرائيلي في الأشهر الأخيرة، خصوصًا في كل ما يتعلّقُ بمحاولات بينيامين نتنياهو، الذي يتحكمُ بمقاليد السلطة والآخذ بزمامها في البلادِ منذ أكثر من عقدين، لصياغة أهدافه السياسيّة وعلى رأسها التعديل الدستوري المطروح على الساحة على أنّه لا يأتي ليخدِمَ مصالح شخصية، بل من أجل دمقرطة النظام السياسيّ الإسرائيليّ، وفسح المجال أمامَ قطاعاتٍ مجتمعيّةٍ تم استثنائها في الماضي للانخراطِ في المُشاركةِ السياسيَّةِ والتأثيرِ على عملياتِ اتّخاذِ القرارِ المتعلّقة بنمطِ عيشِها وعقائِدِها وقيَمِها. بمصطلحات نيتشيانية، إنّ صياغةَ التعديلات المطروحة بلغة أخلاقيّة عامّة، هو فعلٌ يهدِفُ إلى منحها الشرعية وتسويغها بشكلٍ يُخفي أهدافَهَا الماكيافيلية الحقيقيّةَ المتعلّقةَ بإرادة القوّة والسيطرة والانفراد بالتحكّم بمفاصل السياسة الأساسية وتوجيهها من أجلِ تحقيق الهيمنة الكاملة على مؤسّسات الدولةِ وموارِدِها.   

على الرغمِ من أهمية التأكيد على الدور المحوري لنتنياهو، إلا أنه لا يمكنُ اختصارُ ما يحدُثُ، لإرادةِ شخصٍ واحدٍ، حتّى وان كانَ له تأثير كبير على المشهدِ السياسيّ. قد ينعكسُ ذلك بما اثبتته الايّام الأخيرة بانّ الصراعَ الدائرَ بين المُعسكراتِ المُختلفَةِ في إسرائيل، مرتبطٌ بأسس ومبادئ وهويّة الحركة الصهيونية أجمعها، وبما تصبو اليه القوى المهيمنة على هذه الحركة في العقود الأخيرة من أجل حسم الجوانب الإقليمية المتعلقة بالسيطرة اليهودية على كافة المجال الجغرافي الواقع بين نهر الأردن والبحر المتوسط، وتغيير البنيةِ الطبقيّة-الاجتماعيّة-الأثنيّة في إسرائيل، وإعادة صياغة المنظومة القيمية والعقائدية المهيمنة على الحيّز العام ومؤسّسات الدولةِ، وإخضاع كلّ ذلك لمنظومة دستورية تعتمد الإجراء الأغلابوي لإضفاء صبغةٍ ديموقراطيّةٍ على قرارات وواقع يتنافى مع الروح والعقيدة الديموقراطية من الأساس. وفي خضم هذا الصراع كلّه، ليس نتنياهو الّا محورًا مركزّيًا له، يلعبُ داخله دورًا تاريخيًّا، كان قد لعبه دافيد بن چوريون من قبله في الماضي بالرغم من الفرق الشاسع بينهما واختلافِ الظروف التاريخية التي أحاطت ولا زالت تحيط بهما. 

إن تنبيه نيتشة من اتاحة امكانيّة استخدام الأخلاق لتحقيق الفكر الماكياڤيلي، مهمٌّ لفهم ما يجري في إسرائيل ليس في الأشهر الأخيرة فحسب، وإنما ما يجري منذ سنوات من محاولات حثيثة من أجل إعادة صياغة التاريخ والواقع الصهيوني لكي يتماشى مع إرادة القوة للفئة التي خسرت المعركة في السيطرة على مجريات الأمور في الحركة الصهيونية قبل عقود، ولتثبيت تأثيرها على صياغة المستقبل اليهودي في البلاد وخارجها كما تجلّى ذلك في الإصرار على سن قانون القوميّة في العام 2018  والتغيّرات القانونيّة والدستوريّة المطروحة منذ ذلك الحين. 

في هذا الصدد، لا بدّ من احياء ذاكرة الصراع الذي دارَ داخل هذه الحركة في سنوات العشرينات المتأخّرة والثلاثينات من القرنِ العشرين، والتي ادت الى خروج القيادي فلاديمير جابوتينسكي ومؤيديه (هريفزيونيستم، أيّ معيدي النظر) من مؤسسات الحركة الصهيونية الرسمية بتلك الفترة، واقامة مؤسسات بديلة هدفت الى فرض ظروف وواقع اكثر تحدّيًا على المؤسساتِ الرسميةِ بقيادة دافيد بن چوريون، وبالتالي فقدان التأثير على تطوّر ومأسسة الحركة الصهيونية ومن ثم إقامة الدولة العبرية بناءً على اعتبارات ومصالح أعطت الأسبقية والقيادة لنخبةٍ، تنحدر اثنياً من أصول اشكنازية وتفضّل رؤية تمزج بين الاشتراكية القومية واللبرالية الفردية، وتنتمي ايديولوجياً لعقيدة برغماتية متجنبةً الظهور بحلّةٍ حضاريّةٍ تتنافى مع الارث التنويري الأوروبي، متهمةً جابوتينسكي واتباعه بالفاشية والتطرف والدكتاتورية.

من بين الخلافات الأساسية في تلك الفترة، كانت الرؤية المستقبلية للواقع اليهودي في فلسطين، وبناءً على ذلك نمط العلاقة مع حكومة الانتداب البريطاني. اعتقد جابوتينسكي بانّ على الحركة الصهيونية ان تكون أكثر وضوحاً وحزماً وقسوةً بما يتعلّقُ بهدفِها الأساسيّ وهو إقامة دولة يهودية، ولذلك عليها ألا تنتهجَ استراتيجيةً مرحليّةً وبطيئةً تجاهَ الفِلسطينيين، وإنّما أن تفرضَ وقائعًا على الأرض، دون الاخذ بعين الاعتبار الظروف الدبلوماسية وحساسية العلاقة مع حكومة الانتداب، معلّلا ذلك على ان ما تقوم به الحركة الصهيونية هو الذي يحدّدُ إمكانيات ثباتها في مواجهة الظروف التاريخية، خصوصًا بعد صعود الحركة النازية الى الحكم في المانيا. حاول جابوتينسكي ترجمةَ عقيدته التي كان قد صاغها في مقاله الشهير "الحائط الحديدي" من العام 1923 والذي بدوره أسس لفكرة العمل الدؤوب لفرض وقائع على الأرض وارغام الفلسطينيين الخنوع بوسائل عسكرية، دون الاخذ بالحسبان الملابسات الدبلوماسية آنذاك، وذلك بُغية تثبيت قدم الاستيطان اليهودي في فلسطين، ومن ثم المساومة بناءً على هذِهِ الوقائعِ مستقبلاً. 

انّ الخلافَ الذي نشأ في تلك الفترةِ، والّذي طال كل جوانب الحياة، بما في ذلك التحكم بالموارد وعمليات اتخاذ القرار في أروقة الحركة الصهيونيّةِ، أدّى الى انقسامٍ مؤسساتيٍّ عميقٍ، كان من الممكن انْ يُضعفَ كلَّ الحركةِ لو انّ الظروفَ التاريخيّةَ لم تأتِ بما حدَثَ بعد ذلك بسنوات. اوّلُ هذِهِ التحوّلاتِ التاريخيّةِ كانت المواجهةُ الكبرى بينَ الحركَةِ الوطنيّةِ الفلسطينيّةِ وحُكومةِ الانتدابِ البريطانّي، التي أدّت الى إنهاك الأولى ومحو اغلبية القيادات السياسية والعسكرية الفاعلة داخلها في تلك الفترة، نتيجًة لسياساتِ القمعِ القاسيةِ منْ قِبَلِ حُكومَةِ الانتدابِ، الامر الذي كانَ له تبعات مأساويّة على أحداثِ النكبة بعد عشر سنوات. كما انّ اندلاع الحرب العالمية الثانية أدّت الى رأبِ الصدع في الحركة الصهيونية لمواجهة الاحداث العصيبة التي حلّت بالمجتمعات اليهودية في أوروبا بشكلٍ عام، وفي المانيا على وجهِ الخصوص. 

لم تؤد احداثُ هذِهِ الحربِ الى الالتزام الكامل بموقف موحّد ورص الصفوف بشكل تامّ في الحركة الصهيونية. لذلك، بقيت الخلافات الايديولوجية والاستراتيجية قائمةً بين المعسكر المهيمن على مؤسسات الحركة الصهيونية بقيادة بن چوريون، والحركة المعارضة بقيادة ميناحيم بيچين بعد وفاة جابوتينسكي في العام 1940. هذِهِ الخلافاتُ بين المُعسكرين وصل إلى أوجّه في الصدام العسكري المعروف تاريخيا بمعركة "التالينا" في شهر حزيران (يونيو) 1948. وبالرغم من أنه لا يمكن اختزال الخلاف بين المعسكرين في تلك الفترة على الشأن العسكريّ، لانّه طال الرؤية الايديولوجية والمبادئ الأساسية للدولة اليهودية، خصوصا فيما يتعلق بمساهمة كل من الأطراف في إقامة الدولة والتأثير على سياساتها المستقبلية، إلا أنّ استعمالَ السلاحِ من أجل فرض إرادة بن چوريون على مؤسسات الدولة وعلى رأسهم وحدة الجيش، عكَسَ عُمقَ الخلافات وعدم الثّقة والكراهية بين الاطراف.

انّ عمق الخلاف هذا بين المعسكرين، انعكسَ في عدم دعوة مناحيم بيجين للتوقيع على وثيقة استقلال الدولة، وهيمنة المعسكر العمالي بقيادة بن چوريون، الذي مع سياسته، ائتلفوا كلّ من اتباع حزب مپام، اچودات يسرائيل وحركة همزراحي وحركة الصهيونية العامّة. وبالرغم من انّ ثلاثة من السبعة والثلاثين موقّعًا على وثيقة الاستقلال مثّلوا الحركة المعارضة (هريفزيونيستم)، الا انّ الاجماعَ على وثيقةِ الاستقلالِ التي شملت ممثل الحزب الشيوعي في تلك الفترة، كان قد أسدَلَ الستارَ على خلافاتٍ جذريّةٍ بين الأطراف بكلّ ما يتعلّقُ بهويّة الدولة اليهوديّة وعلاقات القوّة القائمة بين قياداتها المختلفة. استعداء بيچين من قبل بن چوريون والمسّ بكرامة اتباعه أدى إلى تعميق الهوة بين المعسكر العمالي بقيادة الأول والمعسكر المعارض بقيادة الثاني، الذي وبالرغم من تصريحاته بالسعادة حيال إقامة الدولة، لم يكن راضياً عن استحواذِ الأوّل على كل مرافق الدولة والتحكم بمواردها، وتهميش كل من ينتمي لمعسكر المعارضة وابعادهم عن عمليات اتخاذ القرار. لهذا السبب، استعمل مناحيم بيچين مزيج من الديماغوغية الأثنية، خصوصاً بما يتعلق بالشرخ القائم والكراهية المتزايدة بين الشرقيين والأشكناز، بالرغم من كونه وكون اغلبية القيادة المتماهية معه من أصول أوروبية، والشعبوية الخطابية لتهييج المشاعر لحشد واستقطاب الجماهير من أصول طبقية ضعيفة، على وجه الخصوص من أصول شرقية، لدعم مواقفه الحازمة حيال القضيّة الفلسطينية من جهة، ولغة دستورية وقضائية رسمية من أجل الإبقاء على شرعية محاولاته الاستيلاء على السلطة بآليات انتخابية اغلاباوية من جهة أخرى.  

انّ الحديث عن هذه الفترة التاريخية ليس محضَ صدفة، وانّما يتعلق بالأحداث الجارية في الأشهر الأخيرة والتي انعكست في محاولات حزب الليكود بقياداته الاشكنازية واتباعه الشرقيين، إعادة صياغة هوية الدولة لكي تتماشى مع ما كان منشودا ورائجًا من قبل قيادات الحركة المعارضة بقيادة جابوتينسكي وبيچين ليس قبل قيام الدولة فحسب، وإنما بعد ذلك أيضاً. يكفي التعمّق بالدلالات التاريخية للخطاب الليكودي في السنوات الأخيرة، خصوصاً توجيه النقد اللاذع لهيمنة النخب الاشكنازية اللبرالية من الطبقة الاقتصادية الميسورة على مؤسسات الدولة وتهميش قطاعات واسعة من المجتمع اليهودي وعلى رأسهم الشرقيين والمتدينين، حتى وإن كانوا اشكناز، لكي نؤكد على أن النخبَ الليكودية الاشكنازية في اغلبيّتها لا تزال تبحثُ عن الفرَصِ التاريخيّة والوسائل القانونية لكي تقلبَ موازينَ القوى لصالحها من خلال استغلال كل الوسائل القانونية لتعزيز حوكمتها ولتطبيق فكر الحائط الحديدي، بما في ذلك في المناطق المحتلة في العام 1967. وبالرغم أننا لا ندّعي بأن هنالك استمرارية اجتماعية متّسقة بين البنية الاجتماعية للمجتمع اليهودي في السنوات الأولى لقيام الدولة وحتى اليوم، إلا ان الضغينة المبيتّة لدى فئات اجتماعية واسعة، بما في ذلك الشرقيين في "مدن التطوير" في اطراف البلاد والمتدينين المتزمتين ضد سياسات النخب الاشكنازية اللبرالية التي هيمنت على مؤسسات الدولة وعلى مرافق عديدة في القطاع الخاص، تدلّ على أنَّ سيكولوجية الرعاع، خصوصاً الكراهية وإرادة الثأر، تنتقلُ من جيلٍ إلى اخرٍ، ومن الممكن أن يتم استنساخها لأغراض سياسية، حتّى لو تبدّلت الظروفُ وتغيّرت الشخصيات. 

إنّ خطابَ الكراهيّةِ الموجّه ضد الهيمنة الاشكنازية في أروقة العديد من المؤسسات والأحزاب اليمينية، المتدينة منها خاصّةً، واستغلالها من قبل قيادات سياسية في حزب الليكود لتأليب الرأي العام ولتجييش الداعمين لصالح الانقلاب الدستوري، تدلُّ على أنّ الصراعَ الجاري منذ شهور في إسرائيل له جذورٌ أعمق من أن يتمَّ اقتصاره على خلاف سياسيّ عابر. دلالة على ذلك هو الاتّهام الديماغوغي الذي يصرّحُ بِهِ العديدُ منْ قِياداتِ الليكود بأنّ قيادتَه، وعلى الرغم من تحقيق الحزب نجاحات قاطعة في الانتخابات على مدار عقود، لا تنجحُ بتطبيق سياساتها المرجوة بسبب ما أسماهُ بعضُهُم، وعلى رأسهم بنيامين نتنياهو "الدولة العميقة". هذه العبارةُ هي لغةٌ مشفّرةٌ يقصِدُ منها بأنّ المؤسساتِ الرسميّةَ للدولةِ، ما زالت رهينة حُكم النخب الاشكنازية اللبراليّة، تقومُ داخلها باستغلال وظائف الوزارات المُختلفة، موظّفةً لُغة قانونيّة من شأنها الحدّ من قدرة الأغلبية الليكودية الحاكمة وحلفائها من اليمينِ ممارسة سياساتهم كما يرتؤوه صحيحاً، بما في ذلك الشؤون الأمنية والاستراتيجيّة، توزيع موارد الدولة ومكانة الدين في الحيّز العام. طالَ هذا الادّعاءُ الجهازَ القضائيّ، وفي طليعتِهِ المدّعي العام السابق شاي نيتسان والمستشار القضائي للحكومة السابق اپيحي ماندلبليت، الذين تمَّ اتّهامُهما بتلفيقِ لوائحِ اتهام ضدّ بنيامين نتنياهو من أجل تسهيل إجراء انقلاب سياسي في إسرائيل بوسائل وإجراءات قضائية. وفي تتبّعٍ دقيق للخطابات التي تعجُّ بها الفترة الأخيرة، نرى بأن هذه اللّغة، لا تزال تهيمن على خطاب الليكود خاصّة حتى يومنا هذا، خصوصاً عندما تمّ اتهام المستشارة القضائية الحالية للحكومة، چالي بهراڤ-مياره بالتآمر على نتنياهو بذرائع قضائية مختلفة، من أجل الحدّ من قدرته على ممارسة صلاحياته بتهمة "تضارب المصالح"، بِما في ذلك منعه من إيجاد مخرج للأزمةِ الدستوريّةِ التي تعصفُ بإسرائيل وبالتالي إسقاط حكومته. ليس فقط، بل يتمّ اتّهام قضاة المحكمةِ العُليا بتجاوز صلاحياتِها، والتّدخل في شؤون قيميّة وسياساتية من الطبيعي أن تكونَ تحت رِبقة سلطة الحكومة والكنيست، معلّلين بانّ مثل هذه التدخّلاتِ تأتي على حساب إرادة جمهور المُنتخبين الغفير، المكوّن خصوصاً من أصول شرقية في أطراف البلاد، وينتخب الليكود ويمنحه الأغلبية اللازمة لتشكيل حكومة شرعية لها أجنده سياسية لا تتماشى، بحسب التهمة، مع مصالحِ مجموعةِ إنتماء القُضاة، والمقصود هو النخب الأشكنازيّة التقليديّة. بعبارةٍ أخرى، لهذا الهجومِ الشرسِ على موظّفي الدولة واتهامهم بالإخلال بالنظام الديموقراطي، صبغةٌ إثنيّةٌ بالرغم من تجنّب استعمال هذه اللغة بشكل مباشر، وهو يصبُّ في الصراع التاريخي من خلال استخدامه للغة الضحية بشكل ديماغوغي من قبل قيادات ليكودية لنزعِ الشرعية عن كل من يعترضُ على هيمنةِ الليكود وحلفائِهِ على مؤسّساتِ الدولةِ، إلى درجة اتهامه، ولو بالترميز، بالخيانةِ والتماهي مع أعداءِ الدولة. 

من أجل التأكيد على ذلك يكفي استدعاء الهجوم الذي شهدناه من قبل محامي الحكومة الخاص ايلان بومباخ، على وثيقة الاستقلال وموقعيها خلال التداول في المحكمة العليا يوم الثلاثاء، الثاني عشر من أيلول (سبتمبر) 2023،  حتى وإن أبدى أسفه على ذلك لاحقاً، كدلالة ولو رمزية على الاستياء المتجذّر والمبيّت في بعض أقطاب المجتمع اليهودي المتعلق ليس بالمكانة الدستورية لوثيقة الاستقلال فحسب، وانّما بمكانتها الرمزية عندَ النخبِ التقليدية للمجتمعِ اليهوديّ، التي تذكر بهيمنة الفكر العمالي بقيادة بن جوريون على الحركة الصهيونية، وتثبيت اقدام النخب الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية المتماهية معه خلال العقود الأولى لإقامة الدولة. إن محاولة سحب القدسية عن وثيقة الاستقلال ليس وليد صدفة أو لحظة عابرة ولا يعكس أهداف قضائية فقط، بل هو جزء من الخطاب المبيّت ضد النخب النافذة كمن تعبّر عن استمرارية هيمنة الرواية الصهيونية كما تمت صياغتها من قبل صوّاغ وثيقة الاستقلال، خصوصاً بما يتعلق بإقامة الدولة العبرية على جزء ضئيل مما تعتبره الفئات القومجية "ارض الميعاد" المرصودة الهياً بشكل حصري لليهود وبتفضيل قيم ومبادئ لبرالية، حتى وإن لم يتم العمل بحسبها، على العقائد والقيم المتجذرة بالتوراة والعمل بناءً عليها. لهذا فإن التهجّمَ على هذِهِ الوثيقَةِ التاريخيّةِ للدولةِ العبريةِ، والتي تعتبرها فئات واسعة كبطاقة الهوية الأساسية للنظام والمجتمع اليهودي، هي جزءٌ من عملية شاملة تسعى الى إعادة صياغة كاملة لكل الرواية الصهيونية، وتشكيل جديد للوعي العام حول هوية الدولة اليهودية والدور المهمش لضحايا الصهيونية الاشكنازية اللبرالية، التي بحسب القائمين على التغيير الدستوري المطروح ما زالت تحدُّ مِن إمكانيّةِ ترجمة التغييرات الديموغرافية في البلاد إلى سياسات على أرض الواقع وبالتالي تمس بمبدئ حكم الأغلبية، الذي يعتبر، بحسب ذلك، أهم مبدأ في الديموقراطية. بعبارةٍ أخرى، انّ الصراع الجاري اليوم في إسرائيل، يعكِسُ محاولةً من قبل فئات اجتماعية واسعة، حتىّ وان اختلفت برؤيتها الايدولوجية أو قيمها الشخصية، ان تأتلفَ مع بعضِها البعض من أجل إعادة صياغة تاريخ الدولة وهويتها الاجتماعية والسياسية والأيديولوجية، لتمنحَ مِنْ جديد، بحسب ادّعاء هذه الفئات، من تم استثناؤهم، المشاركة الكاملة في صياغة هوية الدولة والتحكم في مؤسساتها، ورسم سياساتها وتوسيع مواردها في تلك الفترة. تَنظُرُ هذه الفئات الى المحكمة العليا بتركيبتها الاثنية الحالية وخِطابها الدستوري العقلاني المُصرّح بصفتها، الصرح الحائل دون امكانيتها ترجمة قوتها الديموغرافية إلى قوة سياسيّة فاعلة. 

لهذا، وبناء على ما تقدّمَ، كلّ قراءة للشرخِ القائمِ بينَ أوساطٍ اجتماعيّةٍ وسياسيّةٍ مُختلفةٍ، ليست مخوّلة اختزاله بالمصالح الشخصية لبينيامين نتنياهو، بالرغم من محوريته، او بالرؤية الدستورية المتطرفة لبعض شركائه من اليمين الايديولوجي المتطرّف بالرغم من دورهم التاريخي في هذا السياق. إنّ الخلافَ المنعكس في الانقلاب الدستوري والمتمثل في تغييرات قانونية، هو خلاف اجتماعيّ جوهري عميق بين من يعتقد بانّ حقَّه بالتأثير والتمثيل في مؤسسات الدولة المختلفة هُضِمَ وهُمِّشَ باسم معادلة دستورية وقانونية ومؤسساتية منافية للعدل الاجرائي الأغلاباوي، أي حكم الأغلبية، بغض النظر عن مبادئ وقيم ديموقراطية أساسية، وبأن الوقت قد حان لتصحيح هذا الغبن التاريخي، وبين من يعتقدون بانّ ما حدث خلال إقامة الدولة والعقود التي تلتها كان لا بدّ منه من أجل تثبيت اقدام الدولة في ساحة الصراع الإقليمية، وبأن مقاصد ونوايا النخب التي أسست الدولة وقادتها على مدار عقود كانت وما زالت حسنة وتخدم أسمى أهداف الحركة الصهيونية وهو: تأمين سيادة الشعب اليهودي على نفسه.

 يعتقدُ بعض قيادي المعسكر الليكوديّ ومعهم قيادات قوميّة متديّنة، بانَّ المعادلة المؤسساتيّة والدستورية التي تحكُمُ الدولةَ، تفسَحُ المجالَ أمامَ النخبِ المهيمنة الحفاظ على سيطرتها وإمكانية تحديدها لتوجهات الدولة العامة وخصوصا بكل ما يتعلّق بتقسيم مواردها والحفاظ على التوازن بين علاقاتها الدولية وبين سياساتها الإقليمية، بالذات في موضوع حسم الصراع مع الحركة الوطنية الفلسطينية. هذه المعادلةُ بحسب اعتقاد الأقطاب الاجتماعية المتمثلة بحزب الليكود وشركائه الحاليين، لا تخدِمُ رؤيتَهُم الأيدلوجيّة فحسب، وانّما أيضًا مصالحهم الطبقية والسياسيّة. لهذا تحاولُ هذِهِ القطاعاتُ المجتمعيّةُ بقيادةِ النُخَبِ القومجيّة استعمال كلّ الطرق القانونية المتاحة من أجل تعديل التوازنات المؤسساتيّة، خصوصا بين السلطات التنفيذية والتشريعية من جهة، والقضائية من جهة أخرى من أجل اضعاف الأخيرة لصالح ممارسة سياسيات من شأنها ان تغيّر سياسات الدولة الاستراتيجيّة والسياسية والاقتصادية. 

على رأس هذه التغييرات المنشودة، فرض وقائعٍ من شأنها ان تحسمَ الصراعَ مع الفلسطينيين لصالح هيمنة يهودية كاملة على كل البقعة الجغرافية الواقعة بين نهر الأردن والبحر المتوسط، دون اعتبار ايّ كان لردود الفعل الدولية والإقليمية، وقد نعزو ذلك الى الاعتقاد السائد في هذه القطاعات منذ مقالة جابوتينسكي المذكورة سابقًا، بأنّ المهمَّ هو علاقات القوّة وما تقوم به القوى اليهوديّة، وليس ما هو مقبول من قبل أطراف دولية ذات شأن، وعلى رأسها الأمم المتحدة. يتجلّى هذا الموقف عن كثب أكثر في محاولات حكومات نتنياهو الأخيرة تجنّب التعامل مع القضية الفلسطينية بشكل سياسيّ والقفز من فوقها من أجل خلق معادلات إقليمية جديدة مع الدول العربيّة من ناحية، وفرض وقائع استيطانية جديدة على ارض الواقع في أراضي الضفة الغربية من ناحية أخرى.

التحولات الدستورية المطروحة على الساحة الإسرائيلية نفسها في الأشهر الأخيرة كما ذكرنا سابقًا، تجمعُ بين المصالح الشخصية لرئيس الحكومة بينيامين نتنياهو وبين الرؤية الايدولوجية لقطاعات واسعة من المجتمع الإسرائيلي، التي تريدُ حسمَ توازنات القوى داخل المجتمع اليهودي لصالح عقائد ومبادئ وقيم يهودية متزمتة، حتىّ وان كان في ذلك صدام مع قطاعات أخرى في المجتمع اليهودي ومع قوى دولية تريد لإسرائيل الإبقاء على المعادلة القاضية بأن احتلال العام 1967 غير شرعي، وبأن الحفاظ على هوية الدولة كيهودية وديموقراطية يلزم مساومة على جزء مما تتحكم فيه الدولة العبرية منذ ذلك الوقت. قد يعيدنا ذلك الى النقاش الذي دار في قاعة المحكمة العليا يوم الثلاثاء الثاني عشر من أيلول (سبتمبر) 2023، والذي به لاحظنا انّ الخطاب القانوني الذي هيمن على النقاش، لم ينجَحْ في إخفاء الخلافات الايدولوجية والسياسية والطبقيّة التي تقبع في مقدّمة هذا الخلاف. 

بالرغم من الحفاظ على لغةٍ قانونيّةٍ مهذّبة في أغلب عمليات التداول، الا انّ بعض الخطابات التي قام بها ممثلو الحكومة الحالية، خصوصاً رئيس لجنة الدستور والقانون والقضاء، سمحا روتمان، تعكس اللا-وعي الايديولوجي والسياسي المبطّن في الخلافِ الجاري في الأشهر الأخيرة. ما تحاولُ ان تقومَ به القوى المسيطرة على أروقة السياسة في إسرائيل في الأشهر الأخيرة هو إعادة الصراع الذي كان قائمًا في عقود ماضية من اجل حسمه من جديد لصالح رؤيتها الايديولوجية ومصالحها السياسية والاقتصادية. بهذا، يمكن اعتبار الصراع الحالي على انه صراع جديد حول شكل وجوهر إقامة الدولة اليهودية. وإذا كانت انتخابات 1977 قد اعتبرت من قبل البعض بمثابة انقلاب سياسي في تاريخ الدولة العبرية، فانّ الصراع الحالي هو عبارة عن محاولة إرساء الدولة على دعائم جديدة- قديمة، تبشّر بولادة دولة ذات هويّة أيديولوجية واجتماعية وسياسيّة تختلف عما عهدناه حتّى الان.

تعيدنا هذه القراءة لعملية الهندسة السياسية الجارية في إسرائيل إلى العلاقة المركبة بين القوة والأخلاق. إن الادعاء النيتشياني بأن الإرادة الإنسانية توّاقة للقوة وبأنها في بعض الأحيان تغلّف نفسها بغلاف أخلاقي لكي تمنح نفسها شرعية، حتى وإن كان مقصدها الحقيقي مناف للمبادئ الأخلاقية الأساسية، يعكس بشكل جيد الخطاب الانتقائي الذي يتشبّثُ بالإرث الديموقراطي، وبشكل خاص بأن الديموقراطية هي حكم الأغلبية من أجل تشكيل واقع يتنافى مع جوهر الديموقراطية القائم على منظومةِ الحقوقِ المتساويةِ لكلّ المشاركين في الإجراء الديموقراطي والحفاظ على كرامة الأنسان وحقوقه بغض النظر عن هويته أو انتمائه. انتقاد نيتشة لميتفيزيقيا الأخلاق لا يعني أنّهُ يفصِلُ بين السياسةِ وعُلاقات القوّة والأخلاق كما أراد ذلك ماكياڤيلي. فالعكس هو الصحيح، حيث أنَّ نيتشه يموّضعُ الأخلاق داخلَ علاقاتِ القوّة والظروف الموضوعية للعملِ الإنساني وليس خارجها. أي أنّه، بعكس العديد من الفلاسفة المثالييّن، لا يمنَحُ الأخلاقَ مكانةً فوقيّةً تُقاس بمقاييسه السياسيّة، بل يُظهر بأنّ الأخلاقَ هي السياسةُ، أيّ هي ما يستدلّ مِن سلّم الأفضليّات القيمي والعقائدي والمادي المبطّن في الإجراءاتِ والتداولاتِ السياسيّة. وإذا أردنا الاستدلالَ عن تفسيرٍ لما يحدثُ في إسرائيل، فلا بد من أن نرى كيف يتمّ تسخير الاخلاق لإرادة القوّة لفئاتٍ سياسيةٍ تتضارب مقاصدها مع أهم المبادئ الأخلاقية المتمثّلة في الحريّةِ والمساواةِ وحقِّ تقريرِ المصيرِ، ومحاولتها تطويع المجتمع الإسرائيلي بأكمله لخدمة مآربها الأيديولوجية ومصالحها الاقتصادية ونكوصها النفسي.    

لا بدّ في نهاية هذا المقال وبسبب المنصة التي ينشر عبرها من التذكير بانّ الما يقارب سبع ملايين ونيف من العربِ الفلسطينيين الذين يعتبرون نفس البقعة الجغرافية الواقعة بين نهر الأردن والبحر المتوسط وطنهم، لا يُؤخذون بعين الاعتبار في الخلاف الدستوري والسياسي القائم في إسرائيل، إلا من باب كونهم تهديد لأمنِ الدولةِ العبريّةِ أو هويّتها اليهودية، ما يتماشى مع رؤية الحائط الحديدي الأساسية. هذا صحيح ايضاً لبعض فئات المعارضة للائتلاف الحاكم وللمحكمة العليا وبالتالي يبقى الخلافُ داخليًّا للمجتمع اليهودي، لا يأخذ الحقوق القومية والإنسانية الأساسية للفلسطينيين على محمل الجد، كما يتجلّى ذلك في موقف المحكمة تجاه شرعية قانون القومية وتأييد بعضِ أحزابِ المُعارضة له عندما تمّ سنّه في العام 2018. لهذا على كل مركبات المجتمع الفلسطيني، بغض النظر عن اختلاف ظروفها القانونية والسياسية، ان تعطيَ مجالًا للتفكير فيما تصبو اليه لنفسها ولمحيطها. كما أنّ على قياداتها ونخبها ان تستجوبَ ضميرها، وتتساءل إذا كانت تقوم بما هو مطلوب منها داخل حدود مسؤولياتها، ليس من أجل دفع الضريبة الأخلاقية المتوقعة منها، وإنما من أجل العمل على النهوض بمجتمعها ومحاولة التأثير قدر الإمكان على مجرياتِ الأمور، وذلك قبل فوات الأوان، خصوصاً في ظلّ الظروف الحالية التي يتم فيها إعادة صياغة المشروع الصهيوني من جديد، وتهميش الحق الفلسطيني الشرعي بالحرية والكرامة والمساواة. 


الصورة: لرئيس الحكومة بغين في ذكرى ميلاد الرئيس الأسبق بن غوريون ال94 - من تصويريوسي روت \ المكتب الصحفي الحكومي.

بروفيسور أمل جمّال

باحث في مجال النظرية السياسية والاتصالاتية المقارنة والفكر السياسي وعمليات الدمقرطة والمجتمع المدني، ومدير فرع الاتصال السياسي في قسم العلوم السياسية في جامعة تل أبيب

شاركونا رأيكن.م