إسرائيل وسياسة التهديد بنكبة جديدة

قبل الحرب الإسرائيلية الحالية على غزة، عادت النكبة الفلسطينية إلى جدول الأعمال في إسرائيل على خلفية عدة أحداث مرتبطة بها، بكيفية ما، لعلّ أولها إنتاج فيلم إسرائيلي بعنوان "طنطورة" حول المذبحة التي ارتكبها لواء عسكري إسرائيلي ("لواء إسكندروني") في قرية الطنطورة الفلسطينية (قضاء حيفا) في إبان ارتكاب مجازر النكبة عام 1948، والتي تم إنكارها في الماضي. وثانيها، إحياء ذكرى النكبة في بعض الجامعات الإسرائيلية (جامعة تل أبيب وجامعة "بن غوريون" في بئر السبع) بالرغم من وجود قانون إسرائيلي يمنع إحياءها. وبموازاة هذا استمرت أيضًا عمليات كشف عن وثائق من الأرشيفات الإسرائيلية تتطرّق إلى ما ارتكب من مجازر وآثام خلال النكبة، بما جعل هذا الماضي الإسرائيلي المظلم يلقي بظلاله على الحاضر. كما أن هذا الماضي الظلاميّ ألقى بظلاله قبل ذلك على الهبّة الفلسطينية التي اندلعت في أيار/ مايو 2021 وشملت على نحو رئيس ما يعرف باسم "المدن المختلطة" داخل أراضي 1948، وهي بالأساس مدن اللد والرملة، ويافا، وعكا، وحيفا. وكشفت هذه الهبّة عن بنية عنصرية لدى قطاعات كبيرة في المجتمع اليهودي لم تسلّم ويبدو أنها لن تسلّم بفكرة أن العرب الفلسطينيين في اسرائيل لهم انتماء وطني، وهم جزء من الشعب العربي الفلسطيني ومن قضيته التي بلغت الذروة في أحداث النكبة.

وإذا ما توقفنا عند مناسبة إحياء الذكرى الـ 75 للنكبة قبل عام، يمكن القول إن الأصوات الإسرائيلية التي اعترفت بأن نكبة 1948 كانت السبب الوحيد لما يُعرف بـ"قضية الأقلية العربية في إسرائيل" كانت قليلة، وظلّت الغلبة من نصيب أصوات خلُصت إلى نتيجة مسبقة الأدلجة، فحواها أن إحياء النكبة يشكل أبلغ تعبير عن التمسك بالماضي وعدم الاستعداد لمماشاة الحاضر من خلال نسيان ما كان والتطلع من ثمّ إلى ما سوف يكون. وكان من الملفت على نحوٍ خاصٍ أن بعض هذه الأصوات، بمن في ذلك تلك المحسوبة على اليمين الإسرائيلي الجديد، ذهبت إلى الاستنتاج بأن مشاركة حزب عربي في الائتلاف الحكومي الإسرائيلي (الذي وقف وراء حكومة بينيت- لبيد المنتهية ولايتها)، لأول مرة في تاريخ الأحزاب العربية التي لا تدور في فلك الأحزاب الصهيونية، يعتبر دليلًا واعدًا على اصطفاف مأمول بين صفوف الفلسطينيين في إسرائيل، بين فريق يؤثر أن يتمسّك بالماضي انطلاقًا مما حدث في إبان النكبة على الأقل، وبين فريق آخر حسم أمره بأن يتعامل مع الحاضر، وبأن يدير ظهره إلى الماضي المرتسم تحت وطأة النكبة على وجه التحديد. وبرز بين هذه الأصوات المحلل السياسي لقناة التلفزة الإسرائيلية 12، عميت سيغل، وهو أحد الضاربين بسيف زعيم الليكود ورئيس الحكومة بنيامين نتنياهو وتيار اليمين الجديد. وإذ نشير إلى هذا الجدال الدائر بين الإسرائيليين، فليس لكي نحكم على صوابه أو على عدم دقته، إنما لتوضيح جانب من جوانب التفكير الإسرائيلي فيما يتعلق بالنكبة، وهو الجانب الذي يشي بهروب أصحابه إلى الأمام من مستحقاتها عمومًا، وخصوصًا فيما يرتبط بما يعرف بعلاقات الأكثرية اليهودية والأقلية الفلسطينية داخل أراضي 1948.ويتجاهل أصحاب هذا التفكير أن الفلسطينيين أينما كانوا ليسوا في حاجة إلى أي مُسبّب في الظاهر كي يسترجعوا نكبتهم، فهي كما قيل ويُقال مرارًا وتكرارًا مستمرة في الحاضر، سواء من خلال المواجهة التي يخوضونها مع إسرائيل، أو من خلال المواقف التي تستجد بين الفينة والأخرى، إن كان من طرف جهات عربية أو دولية. وجولة المواجهة التي خاضها الفلسطينيون في عام 2022، وكذلك الجولة التي سبقتها في عام 2021 والتي بدأت من القدس (حي الشيخ جرّاح) وسرعان ما شملت سائر مناطق فلسطين ولا سيما أراضي 1948، قد تكونان جاءتا بالصدفة متزامنتين مع ذكرى النكبة الفلسطينية، ولكن لا يمكن بحال من الأحوال عدم رؤية أن السبب الواقف وراءهما يعود إلى تلك النكبة، وإلى تداعياتها المستمرة، التي ليس من المبالغة القول إنها بمنزلة الشرارة المتوهجة التي لا تخبو لأي جولة مواجهة فلسطينية، بما في ذلك الراهنة والسابقة، وكذلك المقبلة، كما كانت الحال حتى الآن.

عند هذا الحدّ، ربما ينبغي أن ننوه بأن الناطقين بلسان اليمين الإسرائيلي الجديد يحاولون أن يدمغوا معارضيهم، من أوساط الإسرائيليين، ولا سيما فيما يخص قضية النكبة، بشبهتين: الأولى، أنهم يساريون؛ الثانية، أنهم مصابون بقدر كبير من "كراهية الذات"، يصل إلى درجة العقدة النفسيّة التي يوصم بها كل المُعادين للسامية في أنحاء العالم.

أما الأمر الأكثر جدة في الأعوام القليلة الماضية، والآن في خضم حرب الإبادة المستمرة على قطاع غزة، فهو ما طرأ من مستجد على مواقف اليمين الإسرائيلي، والذي تراكمت إشارات قوية تشي بأنه قام بالانتقال من إنكار النكبة إلى الإقرار بها وبفظائعها بجانب التلويح علنًا بالاستعداد لتكرارها، كما انعكس ذلك في تصريحات عدد من المسؤولين الحكوميين والبرلمانيين.

وما زالت تتصادى، على سبيل المثال وليس الحصر، تهديدات يسرائيل كاتس (وزير الخارجية الإسرائيلي الحالي) للطلاب الجامعيين الفلسطينيين بنكبة أخرى إذا ما استمروا في التلويح بالعلم الفلسطيني؟ بل وحثّهم على تذكّر عام 1948 وأن يتحدثوا بشأن ما شهده مع أجدادهم وجداتهم. وقال كاتس أمام الكنيست الإسرائيلي: "إذا لم تهدأوا، فلسوف نعلمكم درسًا لن تنسوه أبدًا". كما أن عوزي ديان، الجنرال احتياط في الجيش الإسرائيلي وعضو الكنيست الإسرائيلي السابق، حذّر الفلسطينيين بأن عليهم توخي الحذر، ذلك بأنهم سيواجهون وضعًا يعرفونه، ألا وهو النكبة، فيما لو رفضوا الخضوع طواعية إلى الإملاءات الإسرائيلية.

وثمة مثل هذين التهديدين الكثير من التهديدات التي أصدرها ويصدرها كبار السياسيين الإسرائيليين، وهي كما ذكرنا تثبت في الوقت عينه أن الادعاءات التي تتمسك بها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة وفحواها أن الرواية الفلسطينية للنكبة تمثل تشويهًا خسيسًا لوقائع التاريخ هي ادعاءات باطلة من أساسها.


استخدام الصورة بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال ملاحظات ل [email protected].

أنطوان شلحت

كاتب صحافي ومحلل سياسي فلسطيني.

رأيك يهمنا