غزة مدينة الأيتام... نكبة ما بعدها نكبة!
لم أدرك يوما مدى صعوبة وقسوة الكتابة عن الحاضر، ذكرياتنا وماضينا مشبع بما روته الجدات والأمهات والآباء عما حدث معهم في نكبة الـ 48 وكيف أجبروا على الهجرة، وترك بيوتهم بينما نرى ونلمس مفاتيح بيتهم الضخمة تاركين خلفهم حصاد العام، فقد فزعوا بعد مجزرة دير ياسين وفروا بأطفالهم إلى المجهول تفرقوا وتشتتوا، لم يكن والدي الأفضل حظا فقد هاجر أغلب إخوته وأخواته ليستقروا في إحدى مخيمات الدول العربية وبعضهم لدول أجنبية وهاموا في الأرض خمس وسبعون عاما...! بينما ظل أبي هائما في البلاد يسير مئات الكيلومترات بينما تمشي خلفه أمي واخوتي الكبار وقد أجهدهم الجوع والعطش والمرار حتى وصلوا مدينة غزة، ولم يطمئن قلب أبي مع أصوات انفجارات غير بعيدة ليعيد السير ويسير خطوة خطوة ويمضي نهاره وليله حتى وصل إلى مدينة رفح ووقف هناك في مكان يبدو بعيدا عن القتل والدمار والحرب هناك توقف قليلا ليلتقط أنفاسه ويعد أطفاله، ويلمح عيون زوجته فعلى حين غرة أصبح لاجئا في فلسطين في مدينة أخرى غير قريته التي ولد وترعرع وأصبح شابا فيها..
وضع حجرا على حجر وبدأ يبني بيته الطيني بينما أمي تساعده في نقل الأحجار وجلب القش وإعداد خلطة البناء، يداهما تشققت رأيتهما حين ولدت وكبرت في المخيم، فالمخيم دوما هو أصل الحكاية، رأيت تجاعيد وجهيهما، وأنفاسهما اللاهثة حين تأتي ذكرى البلاد البعيدة بفعل الاحتلال، كبرت وشربت هواء المخيم وقصص قديمة موجعة لم أدرك بعد عمر طفولتي وشبابي أننا سنعيشها بقسوة المغتربين، لم نعد نحتفل بذكرى النكبة فقد جاءت بشحمها ولحمها لتطحن حاضرنا وتمضغنا كغول لا مثيل له في الأساطير والحكايا الفلسطينية، فهو غول يأكل كل شيء أمامه البيت والشارع والأطفال والآباء والأمهات، كل ما أذكره الآن أني ومع بشاعة حرب الإبادة التي استعرت ولازالت أنني شكرت الله أن أبي وأمي قد فارقا الحياة منذ سنوات كي لا يعيشا نكبة جديدة أكثر بشاعة وطحنا لكل أحلامنا وحاضرنا ومستقبلنا، بل مضغت ماضينا فقد أصبحت كسحابة صيف عابرة مقارنة بالجرائم البشعة التي نشهدها، حمدت الله أنهما ليسا على هذا الكوكب كي لا يتجرعا مرارة الفقدان لابنتهما الشهيدة خديجة بعد أن تجرعا مرارة الفقد لابنهما الكبير الشهيد محمد في طريق التهجير الأول، كل شيء يبدو غريبا في الذاكرة الفلسطينية الحاضرة فقد تبدلت أمانينا وأمنياتنا وأصبحنا استثناء يحتاج الآخرون لفهم ما نريده وما نشكر عليه وما نتمناه..!!
قالوا لي في مواساتي احمدي الله أختك استشهدت لديها قبر وشاهد وبإمكان بناتها وحفيداتها زيارتها في مقبرة لها باب ولها معالم غيرك لا قبر لأهله، نعم بكل تأكيد حمدت الله وصمت، قالوا لي احمدي الله جسدها قطعة واحدة وقد كان لها كفن أبيض وغيرها كثيرون لا معالم لأجسادهم وبعضهم لازال فقيدا تحت الردم، نعم بكل تأكيد حمدت الله وصمت، قالوا لي ودعتها بناتها وزوجها وأخيها رأوها وقرأوا لها الفاتحة ووضعوا قبلة حزينة مكلومة على جبينها النازف والملفوف بالشاش الأبيض غيركم لم يقبل ولم يودع، حمدت الله رغم أني لم أرها ولم أودعها ولم أقبل جبينها وكل ما أذكره زيارتها الأخيرة لبيتي لتهنئتي بنجاح أولادي بالتوجيهي، ضحكنا كثيرا يومها وفرحنا كثيرا لم يعد لدي سوى بعض الصور وصوتها الحنون عبر فويسات الواتس أثناء الحرب فهذا ارثي وأنا ممتنة لله أنه لدي شيء أتمسك به كذكرى للحبيبة..!
من يفهم لغة الغزيين حين يرقص فرحا وطربا لأنه حصل على كيس طحين وكأنه امتلك قصرا...! من يفهم لغة المحرومين الآن وهم يواجهون حروبا كلها تملك وجه شيطان وأيدي فتاكة تنهش جسده وروحه وهو يقف يواجه قنابل وصواريخ بلحمه الحي...!! قال صديق عزيز بالأمس ونحن نحاول أن نفهم من ينهشنا ومن يربت على ظهرنا.. الناس تركوا عرايا أمام طوفان القتل ولازالوا يحاولون الحياة...!! صديقتي الجميلة في غزة قالت بوجع مكتوم كنت محامية قد الدنيا لي مكتب وبيت وعملي الخاص الآن أصبحت نازحة بلا بيت وبخيمة لا أملك مساعدة نفسي فكيف سأعود لأساعد النساء...!! صديقة أخرى التي افتدت نفسها بآلاف الدولارات كي تنجو من نكبة غزة، تقف مشدوهة الآن فهنالك حربا أخرى (حرب الغربة) لم تدركها بينما كانت تناضل من أجل البقاء على قيد الحياة...!!
أختي الوحيدة المتبقية في رفح تراسلني مع كل قذيفة وصاروخ يلعن السلام ويتفجر في لحم الأهالي والبيوت بثبات وصبر لا أفهمه لأكثر من سبعة أشهر، هي مرة وحيدة شعرت بطعم الخوف والتعب حين وصفت صوت الكوادكابتر كفحيح أفعى تمر بين الشوارع وفي البيوت وتصدر أصواتا مخيفة، وهي تقطن في بيت المخيم نصفه بلا سقف يحدق في السماء وفي الطائرات الملعونة التي تصطاد رائحة الخوف ومحملة بكاميرات ورصاصات وقنابل لتثير الرعب والخوف في كل الأماكن...!! تكتب فزعة بين الفينة والأخرى، سمعت صوتها المخيف في شارع المخيم بالقرب من البيت، صرخت بهلع المغترب "أدخلي غرفتك وأغلقي الباب جيدا أغلقي الشباك" لا تجازفي، لا شيء يستحق في وحدتنا سوى أن نحتضن أنفسنا، لنشعر أننا لازلنا على قيد الحياة...! تقول بعد ليلة عصيبة:
كعصفور في الزيت الحار
الوقت
ونحن...!
نكبة الحاضر والمستقبل تبتلع نكبة الماضي...!
"سارة" ابنة أخي ابنة الحياة كانت قد بدأت عملها كريادية شابة وكادت أن تطلق شركتها الخاصة كانت بضعة أيام تفصلها عن حلمها في العمل الحر والتسويق حتى أكلت الحرب كل جهودها سارة لم تخرج من ستة أشهر في مدينة رفح إلا مرة واحدة، لم تعرف شوارع مدينتها، لم تعرف لماذا أصبحت المدينة بهذه العتمة، تشبه جماهير الناس الغفيرة من نازحين وزائرين ومارة وكأن الحياة سحبت من وجوههم، يسيرون هائمين بعضهم يبحث عن أهله وآخرون يبحثون عن لقمة عيش وآخرون لم تعرفهم ولم تعرف وجه المدينة الذي بات يضم أكثر من مليون ونصف نازح من كل مناطق غزة، عادت سارة لعزلتها حيث تريد أن تعود الحياة النابضة بأحلامها الصغيرة وطموحاتها الفتية فربما كانت ستعرف أنها لازالت قادرة على الحلم بين أصوات القصف والانفجارات والجنون المتواصل دون توقف.!
صديقنا الفنان التشكيلي باسل المقوسي الآن في خيمة لا تقيه حر ولهيب الشمس ولم تقيه برد ومطر السماء، يجاهد كل يوم ليرسم ويبحث بخجل عن ألوان وسط الحاجة القاهرة للخبز والماء والهواء والبقاء على قيد الحياة، يجابه آلامه ليبقى الفنان بداخله بعد أن دمر المرسم الخاص به وأصدقائه الفنانين "محترف شبابيك" حيث أصبحت لوحاته جزء من حجارة المرسم الذي شهد معارضا فنية وبهجة ألوان وابداع على مدار سنوات وخطى خطواته الكبيرة ليصبح مكانا للإبداعات الشابة مع صديقه الفنان شريف سرحان وغيرهم من الأصدقاء والفنانين، الآن باسل يعلم الأولاد داخل الخيمة ليرسموا على ورق أبيض ما يعيشونه ويحلمون به وما يعبر عنهم، إنها محاولات الحياة التي لن تتوقف يوما لأي فلسطيني في ربوع بلاده المحتلة.
هبة أم لتوأم من غزة لم تجد ما تطعم به رضيعتيها عرفتها ورأيتها عبر الانستجرام عايشت كلماتها عشرات المرات فهي تلخص نكبتنا الحاضرة بحكايتها: "فقدت الاثنتين أنا.. مش تروح واحدة وتظل لي واحدة" ابنتاها التوأم ولدتا في الحرب هل تعرف ماذا يعني أن تلد امرأة في الحرب؟ ماذا يعني أنها تستجمع كل قوى العالم لكي تصمد ولا تفقد طفلتاها فزعا ورعبا بفعل براميل المتفجرات والأحزمة النارية حولها، ماذا يعني أن تنزح امرأة حامل بتوأم ولديها طفلات صغيرات أخريات، ماذا يعني أن تترك البيت الذي تجهز فيه سرير المواليد وتجهز به ملابسهم الجديدة وأغطيتهم وأمانهم وأمنهم، بيت تدفئهم فيه وتأكل لتطعمهم؟ هل تدرك ماذا يعني أن تترك البيت والملجأ مكرهة وتنزح لمكان غريب في العراء كيف ستصمد امرأة شابة في أشهرها الأخيرة دون أن تأكلها الحرب؟ ورغم كل هذا الموت والقهر تتلفع هبة بالقوة والصبر والجلد وتتماسك لأجل استقبال توأمها اللواتي حضرن في ولادة مبكرة رغما عنها، وتنجو الصغيرات وقتا من الزمن تحاول وتحاول الأم المكلومة لكي تبقيهن أحياء، إلا أن حليبها قد جف بفعل الطعام الشحيح الذي لا يتجاوز معلبات ومواد جافة، لا مياه نظيفة ولا حليب ولا أطعمة متوازنة، جفاف مدقع يدق معدتها ليخلو صدرها من الحليب، تركض هنا وهنا وزوجها الملتاع يبحث يقترضون الحليب المجفف.! هل تدركون معنى أن يصبح الحليب عصيا على التوفر كما الماء والطعام لطفلتين وليدتي الحرب.. مضغتهن الحرب ومتن جوعا...!!
19 ألف يتيم الآن في غزة
شيماء قرموط من جباليا البلد تنام على سرير المشفى وتتحدث بصعوبة بالغة بينما المتأمل لوجهها يرى بوضوح كيف احترق وجهها ورأسها وشعرها وقد غطت كل رأسها بالشاش الأبيض بينما كانت تجلس في بيتها توالى انفجار القذائف التي وصلت بيتها واحدة تلو الأخرى بشكل مفاجئ، ليشتعل أثاث المنزل، تقول شيماء بصوتها الواهن: "احنا 11 نفر في بيت واحد بيت أهلي حيث لجأنا إليهم بسبب الحرب من شدة القذائف من الدبابات الاسرائيلية التي أصابتنا احترق البيت واحنا فيه، حوصرنا وما قدرنا نطلع من البيت بسبب النيران والحرائق التي اشتعلت ظلينا نصرخ والنار ولعت فينا وبالبيت من 6 المغرب للثلاثة الفجر، ولم نستطع أن نسعف أحد ولم يتمكن أحد من اسعافنا أو انقاذنا من داخل البيت المحترق.!"
وتضيف شيماء بصوت واهن مكلوم:" أنا انحرقت وأولادي انحرقوا وطفلي الصغير صار يسيح قدامي في النار وما قدرت أعمله ايشي.!! ظلينا نصرخ لكن كل الجيران والمنطقة كانت القذائف بتضرب بكل مكان والكل صار يبعد ويهرب لحد ما اخوي قدر يوصل لبطانية وينقذنا من الموت، ظلينا شهر كامل نحاول نتعالج من مشفى لمشفى لحد ما وصلنا مستشفى الشفا، وهناك دخلوا الجنود بعدها وحاصرونا وأجبرونا مع انه احنا مصابين ومحروقين لننزح من المستشفى، اضطرينا ننزح مشي واحنا تعبانين وخلونا رغم أنهم شايفينا محروقين أنا وأولادي أكثر من 3 ساعات بالشمس لحد ما وصلنا الجنوب لكن احنا محتاجين نسافر للعلاج حالتنا بدها تدخلات طبية كثيرة مش متوفرة بغزة صارلنا بنعاني الآن أربع أشهر..!"
تسعة عشر ألف طفل يتيم في غزة استشهدت أمهاتهم أي قتلت ستة آلاف أم فلسطينية كما تقول الأمم المتحدة، غزة باتت مدينة الأيتام فالأمهات أصبحن لقمة صائغة لقنابل الجيش الإسرائيلي، يقتلون أرحامهن وييتمون أطفالهن، ويتركون العائلة بلا سند ولا قوة، كل الأمهات قتلن في بيوتهن وفي الشارع وفي الخيام وفي المشافي أين تسكن الأمهات؟؟!! إنهن يقطن في قلوب من تبقى ونجا بحياته، أين تبكي الأمهات الراحلات إنهن يبكين في السماء لذلك تظل الأرض مبتلة ببكائهن.!!
يا لنكبتنا عمن سأتحدث أم عمن كل القصص والحكايا تضج في رأسي، أعيد رسم الحكايات أحاول أن أرتب شيئا وألا أفقد أحد آخر، يا لنكبتنا كم كبرت أعمارنا عشرات السنوات فبدا الأطفال شبابا وبدأ الشباب عجائز أما العجائز فقد اختنقوا بعبراتهم ولوعتهم إذ شهدوا نكبة أخرى أكثر شراسة وقسوة في عمر تمنوا أن يرتاحوا ولو قليلا بعدما أكلتهم نيران الحرب ولم تبق سوى عظامهم الموجوعة.!
نكبة غزة لازالت تحرق حاضرنا
كتبنا كثيرا عن نكبة الـ 48 لكن لم نفكر يوما أننا سنعيشها وستكون أكثر قسوة وبشاعة نكبة 2023 والمستمرة حتى الآن نزح فيها أكثر من 2 مليون نازح من شمالها إلى وسطها إلى جنوبها، دمرت كل مشافيها مستشفيات حكومية وخاصة حتى مستشفيات الولادة لوحقت، استشهد ثلاثة وثلاثون ألفا و899 شهيد يا لجنون هذا العالم...! هذه نكبتنا الحاضرة التي لم تتوقف حتى الآن مستمرة وأرقام الشهداء تزداد وتتضخم حتى تصم الآذان والأعين ويتساقط الشهداء جماعات وعائلات أبيدت ومسحت من السجل المدني الفلسطيني لم يبق من ذريتهم أحدهم...!! ماذا عن ست وسبعون ألف مصاب وجريح و664 منذ بداية نكبة غزة 2023 وهنالك آلاف الإصابات الخطيرة والتي تنتظر على قائمة انتظار طويلة جدا للنجاة عبر التحويلات الطبية الخارجية التي تمضي كسلحفاة تحمل نعشا تلو نعش عوضا عن انقاذ حياتهم فإن حصارا ملعونا لازال يجعل غزة مقبرة للمصابين، ومقبرة للأحياء فلا معابر ولا فرص للنجاة تبدو في مشهد قاتم معتم دموي بامتياز، الوقت يمتد ويقارب على المئتي يوم من الحرب المسعورة والخسائر من لحمنا ودمنا وجدران بيوتنا ومستقبل أبنائنا، غزة المنكوبة ولازالت تبدو وحيدة تقع وتقف بينما بحرها بات بحر من الدماء المباركة، دمنا غالي كما باقي البشر دمنا غالي ونكبتنا مستمرة والناجي في غزة يشبه الغريق الذي لم يتنفس منذ السابع من أكتوبر لكنه لازال بطريقة ما على قيد الحياة/الأمل.
العام الماضي أحيت الأمم المتحدة للمرة الأولى في تاريخها في مقرها بنيويورك ذكرى نكبة الفلسطينيين التي بدأت في 15 أيار/مايو 1948 وهو ذات العام الذي بدأت فيه دولة الاحتلال الإسرائيلي نكبة جديدة أكثر بشاعة وتدميرا لكل مقومات الحياة في كل مدن ومخيمات قطاع غزة، إبادة للحياة وإبادة للتعليم وإبادة للحلم الفلسطيني، إبادة لنا ونحن لا زلنا على قيد الأمل...!
الصورة: للمصوّر - الصحفي عبد الرحمن زقوت.