خَلَعتُ أسمائيَ المُستَعارة: أنا صَحافية في سوريا الجَديدَة

"أنا صحافيّة" لم أكن أتوقّع يومًا أنني سأقولها في محافظتي بقلب شوارع سوريا وأنا أغطي حَدثًا ما، عقِب غياب الأمل بوجود حلول قريبة أو انفراجات خلال السنوات الماضية.. ولكن أخيرًا قُلتها مِن دون أي حسابات للمخاطر.

"أنا صحافيّة" قلتُها بِحرّية مِن دون خوف بعد أكثر من خمس سنوات على العمل الصحافي في الظل والخفاء خوفًا على سلامتي أنا وعائلتي وزملائي.

أعمل تحت أسماء مُستعارة تارة تُشبه اسمي الحقيقي لأواسي نفسي، وتارةً بعيدة عنه لإبعاد الشكوك، وبالرغم من أنني محرِّرة أخبار بدوام كامل وصحافية لسنوات فإنني لم أُفصح عن عملي حتى لأقرب الناس، لم أتغنَ بإنجازاتي على الملأ، لم أنشرُها على مواقع التواصل الاجتماعي، ومَن لم يوجد اليوم عليها فهو غير موجود.

قيّدتني المخاوف الأمنية سنوات، خوفًا من الاعتقال والاتهامات المختلفة، فالقوانين فضفاضة ويمكن تفصيل التُهم وسط كلّ هذه الفوضى بما يتناسب مع السلطات، كلّ هذا ترافقه قيود اجتماعية تخاف الصحافة والإعلام من جهة وتحاصر المرأة من جهة أخرى.

تنفُّس هواء حرّ عقب فقدان الأمل

 في الحقيقة، خلال السّنة الأخيرة فقدت الأمل تمامًا بالتغيير، وكنت أشعر أن عملي لا معنى له ومن دون فائدة، كان هذا حتى يوم السُقوط، هُنا شعرْتُ بأهمية ما كنّا نفعله نحن صحافيو سوريا وصحافياتها لنقل الحقيقة، رغم كل الصعوبات والتحديات من القيود الأمنية والمجتمعية إلى الإمكانيّات المتواضِعة وغياب المعدّات والتقنيّات والكهرباء، وسط أزمات اقتصادية متلاحقة مرّت على البلاد وأثّرت على الصحافي كغيره من السوريين.

ففي لحظة السّقوط، علِمتُ أنني أستطيع اليوم أن أعمل بِحُرّية، أصرّح عن نفسي، أدخل بين السوريين والسوريات وأغطي حياتهم وحياتهن، أتواصل مع زملائي وزميلاتي مِن مختلف أنحاء البلاد مِن دون خوف، نكسر الحدود المختلفة بيننا ونتقابل وجهًا لوجه بعيدًا عن العمل عن بعد.

وعلى الصعيد الشخصي، شَعَرت كسورية للمرة الأولى بشكل حقيقيّ أن لي وطنًا، خاصة أن سقوط النظام تزامن مع وجودي في الأردن لحضور مؤتمر أريج للصحافة، ورغم أنني مثل أي شابة أو شاب سوري أحلم بالسفر للخارج فإنني يومها أردتُ العودة بشدة، وتمنيت لو أنني في السويداء حيث مسقط رأسي، كانت المشاعر مختلَطة بين السعادة والرغبة الشديدة بالعودة في وقت لا أستطيع التصديق أنه لم يمرّ على سفري سوى يومين وسقط نظام دكتاتوري يحكم وطني لأربعة وخمسين عامًا. وعند عودتي ومع دخولي الحدود السورية شعرت أنني أتنفس هواءً حرًّا حرفيًا، وصَلنا نقطة العبور حيث أزيلت صور بشار الأسد جميعها وسط علم أخضر يرفرف، حتى لافتة رافقتكم السلامة كانت تحمل صورة للأسد، كنت أتساءل ضاحكة  وأنا في طريقي للأردن كيف سترافقنا السّلامة وأنت  تطغى بحكمك وفساد منظومتك؟

ولأول مرة منذ أعوام لم أَخَف مِن الحواجز العسكرية التي كانت تشكّل نقاطَ رعب بالنسبة لي، في كلّ مرة تُؤخذ هويّتي كنت أفكر أين سأرمي جوالي الذي يحمل ما يكفي لإدانتي رغم تأكدي من حذف أغلب الملفات والمحادثات قبل أي سفر خارج المحافظة؟ كان الطريق يمرّ وأنا أتخيّل سيناريوهات اعتقالي، وكيف سأوصل الخبر لعائلتي، لا أصدق أن كلّ هذا أصبح في الماضي، وعادت لنا حريّة التنقل والتعبير والعمل في الميدان.

فُرص بحَجم التحدّيات

واليوم، وبعد السُقوط، تنهال الفُرص على الصحافيين والصحافيات، فحرّية الصحافي أصبحت أكبر بكثير، والناس أصبحت أكثر انفتاحًا على وسائل الإعلام، في وقت تتوجه جميع وسائل الإعلام والوكالات لفتح مكاتب لها في هذه البلد، بعد 14 عامًا، هناك الكثير من الفُرص والعمل، لكن الحال ليس بالأفضل حتى بعد تكسير القيود الأمنيّة والاجتماعية، فلا يمكننا أن ننكر أننا في مرحلة صعبة ومستقبل غامضٍ ينتظر السوريين أولًا والصحافيين ثانيًا.

في الحقيقة، تواجه الصحافيين والصحافيات السوريين والسوريات اليوم تحديّات ظهرت بشكل واضح بعد السُقوط، ولعل أبرزها التحدّيات الاقتصادية والظروف المعيشة في بلد عاجز اقتصاديًا ويشهد حالة انتقالية تعمّها الفوضى، الأمر الذي سيعيق الصحافي عن أداء مهامه بكلّ تأكيد.

وعلى الصعيد المهني، يظهر التزام الحياد والموضوعية كتحدٍّ واضح يقف أمام صحافي تتملكه مشاعر مختلطة تجاه مواضيع تمسّه بشكل مباشر وغير مباشر.

غير أن الصحافي السوري اليوم يتعامل مع مواضيع حسّاسة، ويتوجه لجمهور غاضب وعنيف نتيجةَ عقود من القهر والقمع والنزاع والتشرد والفقد والحرمان من أبسط الحقوق، هذا الجمهور (الشعب السوري) الذي بدأ اليوم بالتعبير عن رأيه بشكل حقيقي وهو لا يمتلك ـ في الغالب ـ أسلوبًا للحوار وتقبلًا للرأي الآخر، ويخاف الاختلاف والتعددية محاولًا الدّفاع والحفاظ على نفسه وجماعته ليتحول التّعبير عن رأيه لخطاب كراهية يهدد السلم الأهلي والتماسك المجتمعي.

تواجهنا تحديات كبيرة وتقع على عاتقنا مسؤوليّة أكبر لنقل الحقيقة والحفاظ على السّلم وتفعيل دور الصحافة بالرقابة والمساءلة، لنصنع سوريا الجديدة.. سوريا لجميع السوريين رغم كل الصعوبات القائمة والمقبلين عليها.

أما أنا فودّعتُ أسمائي المستعارة آملةً ألا أحتاج أنا وزملائي أسماء جديدة مستقبلًا، وألا ترسم قيود جديدة تحدد عملنا ليصبح الإعلام السوري سُلطة رابعة فعّالة تعمل للسوريين والسوريات بمختلف بِقاع سوريا.

منار أبو حسون

صحافية سورية، من السويداء.

رأيك يهمنا