استِشراف "سوريا ما بَعد انتصار الثّورة"
شَهدت سوريا منذ عام 2011 ثورةً على كامل أراضيها، نتيجة القمع الأمني وأزمات تسبّب بها النظام البائد، مِنها السياسية والاجتماعية والإنسانية. بدأت الاحتجاجات الشعبيّة كحركة سلميّة مطالبة بالحرية والكرامة، لكّنها سَرعان ما تحوّلت إلى صراع متعدّد الأطراف. وفي ظلّ الانتكاسات والتحدّيات المستمرة، تَبقى آمال الانتصار الثوري قائمة، وما يليه مِن تحوّلات مُرتَقبة يستحقّ التحليل لاستشراف تداعياتها على سوريا والمنطقة.
أولًا: التحوّلات السياسية
يُعدّ انتصار الثورة السورية بداية لتحولات سياسية جوهرية. إذ يُتوقّع أن تتجه البلاد نحو نظام سياسي ديمقراطي يَضَع حدًا للحُكم الفردي الذي استمر عقودًا. سيُصبح الهدف الأساسي إعادة بناء المؤسسات السياسيّة على أُسس الشفافيّة والمساءَلة، مع تبنّي نموذج تعدّدي يضمن التمثيل العادل لكافة أطياف المجتمع السوري. وهذا ما أكدته عموم القوى السورية، فهناك معاناة تاريخية مِن الاستبداد وحُكم الفرد الواحد.
ومِن المتوقَّع أن تَشهد سوريا تشكيل حكومة انتقالية تَضّم مُمثلين عن جميع الأطراف السياسية، بما في ذلك القوى السياسية والمجتمع المدني، لضمان توافق وطني. كما ستكون هناك حاجة مُلحّة لإجراء انتخابات حرّة ونزيهة تُعيد الثقة بين المواطنين والدولة، وكمرحلة أولى تَحتاج الانتخابات مُراقَبةً دولية.
ثانيًا: التحدّيات الاقتصادية وإعادة الإعمار
ستواجه سوريا تحديّات اقتصادية ضخمة عقب انتصار الثورة، نظرًا لحجم الدمار الذي لَحِق بالبنية التحتيّة والقطاعات الإنتاجية. وفقًا لتقديرات الأمم المتحدة، قد تصل تكلفة إعادة الإعمار إلى مئات المليارات مِن الدولارات. لذا، سيكون جذب الاستثمارات الدولية والإقليمية أمرًا حيويًا لتحقيق الاستقرار الاقتصادي .وسيكون استثمار الموارد السورية والدعم الدولي هو سبيل التعافي.
من ناحية أخرى، ينبغي أن يُعاد بناء الاقتصاد السوري على أسس مستدامة تركّز على الزراعة والصناعة والتكنولوجيا، مع إعطاء الأولوية لإعادة اللاجئين إلى بلادهم وتوفير فُرص عمل لهم. كما ستلعَب المؤسسات الدولية، كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، دورًا محوريًّا في توفير الدعم المالي والفنيّ.
ثالثًا: التحوّلات الاجتماعية
لم تَكن الحَرب مجرّد صراع سياسي، بل خلّفت آثارًا اجتماعية عميقة تمثّلت في تفكك النسيج الاجتماعي، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة، وتفاقم الانقسامات الطائفية والعرقية. وبالتالي، ستكون إحدى أولويات المرحلة القادمة تعزيزَ المصالحة الوطنية وبناء الثقة بين مكونات المجتمع المختلفة، وتحقيق العدالة الانتقالية.
يتطلب تحقيق ذلك إطلاق برامج وطنية للحوار المجتمعي تُعزز قيَم التعايش والتَسامح. كما ستكون هناك حاجة ماسّة لدعم المجتمعات المحلية والمنظّمات الأهلية التي تعمل على تعزيز التماسك الاجتماعي وتقديم الدعم النفسي للمتضررين مِن الحرب.
رابعًا: التحدّيات الأمنيّة
على الرغم من انتصار الثورة، فإن التحدّيات الأمنيّة ستظل قائمة بسبب انتشار الأسلحة والمجموعات المسلّحة غير النظامية. لذا، ستحتاج الحكومة الجديدة إلى العمل على نزع السلاح ودَمج الفصائل المسلحة في المؤسسات العسكرية والأمنيّة الرسمية.
كما ستحتاج سوريا إلى التعاون مع المجتمع الدولي لضمان مكافحة الإرهاب وضَبط الحدود، خاصة أن سنوات الصراع جَعَلت البلاد نقطة عُبور للعديد من التنظيمات المتطرّفة، والمخدرات.
خامسًا: العلاقات الإقليمية والدولية
سيؤدي انتصار الثورة إلى إعادة تشكيل علاقات سوريا الإقليمية والدولية. فمن المتوقّع أن تسعى القيادة الجديدة إلى بناء علاقات متوازنة مع دول الجوار والقوى العالمية. سيكون التحديّ الأكبر هو تحقيق استقلاليّة القرار الوطني بعيدًا عن الهيمنة الخارجية التي تفاقمت خلال سنوات الحرب.
من جهة أخرى، ستشكّل عمليّة إعادة الإعمار والاستقرار فُرصة للدول الراغبة في المُشاركة بمستقبل سوريا. وقد يكون هناك اهتمام خاصّ مِن القوى الإقليمية مثل تركيا ودول الخليج، بالإضافة إلى القُوى الكبرى كالولايات المتحدة.
سادسًا: عَودة اللاجئين
تُشكّل أزمة اللاجئين السوريين واحدة مِن أكبر التحدّيات الإنسانية التي نتجت عن الصراع. مَع انتصار الثورة، سيكون هناك حافز كبير لعودة اللاجئين إلى وطنهم. إلا أن ذلك يتطلب توفير بيئة آمنة ومستقرة تضمن لهم حياة كريمة وفرص عمل.
ينبغي على الحكومة المستقبلية وضع خطة وطنيّة لإعادة اللاجئين تتضمن إعادة تأهيل المناطق المتضررة، وضمان حقوق العائدين في الحصول على السَكَن والخدمات الأساسية، فضلًا عن دعمهم نفسيًا واجتماعيًا.
سابعًا: العدالة الانتقالية
سيكون تحقيق العدالة الانتقالية مِن الركائز الأساسية للمرحلة المُقبلة. ينبغي محاسبة المسؤولين عن الجرائم المرتَكَبة خلال سنوات الحرب، بما في ذلك الانتهاكات ضدّ المدنيين. مع ذلك، يجب أن تكون العدالة الانتقاليّة أداة للتسامح والمصالحة بدلًا من الانتقام.
سيكون من الضروري إنشاء هيئة وطنية مستقلة للتحقيق في الجرائم والانتهاكات، مع تقديم تعويضات للضحايا وإعادة حقوقهم. كما أن كشف الحقيقة عن الأحداث المأساوية سيكون أساسًا لبناء مستقبَل يعتمد على المُصارحة والثقة.
ختامًا
يمثّل انتصار الثورة السورية فرصة تاريخية لإعادة بناء البلاد على أسس جديدة قائمة على الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمساواة. إلا أن هذا الانتصار لن يكون نهاية الطريق، بل بداية مرحلةٍ طويلة ومعقّدة تتطلب جهدًا وطنيًا ودوليًا مشتركًا لتحقيق التحوّلات المرتقبة.
على السوريين قيادة هذه المرحلة بروح من الوحدة والتعاون، مع الاستفادة من تجارب الدول الأخرى التي مرّت بظروف مشابهة. ورغم حجم التحديات، فإن إرادة الشعب السوري في التغيير تبقى الأمل الأكبر في تحقيق مستقبل أفضل.