في مُواجَهة الجَريمة: لِنَسْتَعدِ حيّزنا العام
مرّ أكثر من عشرين عامًا، ولا تزال تَسكُن ذاكرتي صورة تلك العائلة التي استحوَذت على جزء مِن الرصيف العام وحوّلته إلى ساحة خاصة لديوانها، مُجبِرة المارّة على المشي على الشارع، ثم قامت لاحقًا بتسييج الرصيف وضَمّه إلى ملكيّتها الخاصة. تعكس هذه الحادثة بوضوح علاقتنا المعقَّدة بالحيّز العام، الذي يعاني من انتهاكات مستمرة وتجاوزات متكررة، ناجمة عن شعور عميق بالاغتراب عن الحيّز العام كمساحة مَشاعٍ ومسؤولية مشتركة. ويعود هذا الشعور إلى تراكم تجارب تاريخية وثقافية، واجَهَ فيها الفلسطينيون مسألة "الملكية العامة" ضمن سياقات من المصادَرة والتهميش، ما جعل الحيّز العام يبدو كمنطقة رمادية، غير مَملوكة فعليًا للمجتمع ولا محميّة بفعاليّة من الدولة. هكذا، تحوّل الحيّز العام إما إلى فضاء مُستباح أو إلى مساحة غير مرئيّة في الوعي المجتمعي كملكية عامة جديرة بالحفاظ عليها.
يتجاوز مفهوم الحيّز العام تعريفه المَلموس كمساحات مشترَكة متاحة للجميع، كالشوارع والحدائق والمرافق العامة، ليشمل في السياق الفلسطيني أبعادًا أعمق ترتبط بمصادرة مساحات شاسعة من الأراضي وتضييق الحيّز العمراني، مما يحدّ من قدرة الفلسطينيين على توسيع بلداتهم أو تطوير أحياءَ جديدة لتلبية الاحتياجات السكانية المتزايدة. وكما يعرّفه د. عزمي بشارة، فإن الحيّز العام هو "نَتاج تصوّر لمجتمع لا يقتصر على كونه تجمعًا تراكميًا لأفراد، بل يعكس نشوء مفهوم صالح عام لا يتلخّص في مجموع المصالح الفردية". وهذا الحيّز ليس مشاعًا بالمعنى المجرد، بل يُفترض أن يكون مُلكًا للدولة أو الجماعة التي تضمن حمايته وحق الجميع في الوصول إليه. وبالتالي، يصبح الحيّز العام انعكاسًا للرؤية الاجتماعية والسياسية التي تحدد طبيعة العلاقة بين الأفراد والمجتمع ككل.
يُمثل التخطيط العمراني سياسة مركزيّة تحدّد شكل المجتمع ومستقبله. وفي السياق الفلسطيني داخل إسرائيل، تتجاوز السياسات التمييزية مجرّد عدم تخصيص الميزانيات لتطوير البنية التحتية في البلدات العربية، لتشمل أيضًا قمع حرية التعبير والمظاهرات على يَد الشّرطة. لا يُعتبر هذا القمع مجرّد انتهاكَ حقوق، بل يُعزز انفصال المجتمع عن الحيّز العام، الذي يُفترض أن يكون ساحة لتشكيل الحركات الاجتماعية والسياسية. وبدلاً من أن يكون الحيّز العام مساحة للتعبير والمطالبة، يتحوّل إلى عائق سياسي يعمّق من تهميش الفلسطينيين ويزيد انفصالَهم عن العملية السياسيّة وعن حيّزهم العام.
تتجسد حالة الاغتراب التي فرضتها إسرائيل بين العرب وحيّزهم العامّ في العجز المستمر عن تطوير الفضاءات العامة لتلبي احتياجات المجتمع بمعانيها المدنية والثقافية. يعكس هذا الشعور المتزايد بالغربة تفككًا في المنظومات المجتمعية وانعدامًا لقواعد السلوك المشتركة، ما يترتب عليه شعور متنامٍ بعدم الأمان في البلدات العربية في ظِل غياب سِيادة القانون. يسمح هذا الفراغ القانوني بانتشار استيلاء العصابات الإجرامية والمنظمات الخارجة على القانون على الملكية العامة، ما يُفقد الحيّز العام معناه وقيمته.
إحدى الظواهر اللافتة التي تعكس هذا التدهور هي توسّع "ثقافة الخاوة" أو فرض الإتاوات، التي لم تعُد تقتصر على استغلال الملكيات الخاصة، بل امتدت إلى استباحة الملكية العامة لأغراض تجارية شخصية. على سبيل المثال، يتم استغلال الأرصفة في كثير من المناطق لبيع السيارات أو ممارسة أنشطة تجارية، مما يعكس حالة فوضى تنظيمية ويؤدي إلى تدهور الحيّز العام. ويمتد الانتهاك ليشمل ممارسات سلبية يرتكبها بعض الأفراد غير المنتمين إلى دوائر الإجرام، مِثل إلقاء النفايات في الأماكن العامة والمفتوحة، ما يشير إلى تراجع الحسّ بالمسؤولية تجاه الحيّز العام.
في السنوات الأخيرة، شهدت البلدات العربية تصاعدًا حادًا في جرائم إطلاق النار، حيث لم يعد الاستهداف مقتصرًا على البيوت الخاصة فقط، بل شمل الشوارع العامّة، والمدارس، والحدائق، مُحولًا هذه الأماكن إلى ساحات مفتوحة للصراعات بين العصابات. يؤدي هذا العنف المستشري إلى تخويف التجار والمواطنين على حدّ سواء، ويعيق الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية، مما يجعل من الصعب على المجتمع إعادة بناء علاقته بالحيّز العام كمجال للتفاعل والتطوير.
إضافة إلى أن هذا الوضع يُعمق شعور المواطنين بالعزلة ويفرض حدودًا على حركتهم، مما يدفع البعض إلى الانعزال في البيوت أو التفكير في الهجرة إلى المدن المختلطة أو اليهودية، بحثًا عن بيئة توفر لهم الأمان والاستقرار.
تتجاوز آثار حالة الاغتراب هذه الأبعاد الاقتصادية والأمنية، حيث تؤثر أيضًا على هوية الفلسطينيين الثقافية والاجتماعية. إن فقدان الحيّز العام كمساحة للتعبير الفني والثقافي يُعزّز عزلة المجتمع ويقلّل فرص التواصل الاجتماعي. تتدهور الحالة الذهنية الجمعية، حيث يصبح الخوف والقلق من الجريمة والسيطرة على الحيّز العام جزءًا من الوعي اليومي للفلسطينيين، مما يعزّز الشعور بعدم الجدوى وفقدان الأمل.
بالذات في ظل سياسة الحكومة الحالية تجاه المواطنين العرب وانعدام "سيادة القانون " وارتفاع معدلات الجريمة في أوساطهم، تتجلى الضرورة الملحة لصياغة "تصوّر الصالح العام" ليشكل قاعدة قوية لإعادة هيكلة المجتمع وتعزيز تماسكه. يمكن أن يُسهم هذا التصوّر في بناء منظومات مجتمعية مستقلة تُعنى بتنظيم الحيّز العام كمساحة تخدم حاجات الناس، وتعيد الثقة بأهمية الحفاظ على الملكية العامة.
تتطلب إعادة الهيكلة المجتمعية رؤىً استراتيجية تعيد بناء العلاقة بين الأفراد وحيّزهم العام بشكل مستدام وفعّال. ينبغي على المجتمع الفلسطيني في الداخل أن يُعيد تعريف الحيّز العام كمَورِد مشترَك بين الجميع، وأن يعزز وعي الأفراد بأهمية الحفاظ عليه كرمز للكرامة والمشاركة المجتمعية. فالنظر إلى الحيّز العام كمكان يخص الجميع ويعكس القِيم المشتركة بين الأفراد يخلق أساسًا قويًا للانتماء، مما يعزز من قيمة الحياة العامة. ويمكن تحقيق ذلك من خلال سياسات التخطيط العمراني التشاركي، التي من شأنها إعادة تنظيم الحيّز العام لتلبية احتياجات المجتمع بشكل فعّال، ليصبح الحيّز العام جزءًا حيويًا من نسيج الحياة اليومية وموردًا يُسهم في رفاهية المجتمع.
لكن النهضة في العلاقة مع الحيّز العام لا يمكن أن تتحقق دون توفير ركيزتين أساسيتين هما: الأمن، والعدالة عامة وفي المسكن والتخطيط خاصة. إن تحقيق هذين العنصرين يشكّل قاعدة لاستعادة الثقة بالحيّز العام وتعزيز شعور الانتماء بين الأفراد. لذلك، يجب على المجتمع الفلسطيني أن يُظهر عزيمة جماعية لمواجهة التحديات من خلال التنظيم الجماهيري الذي يضغط على السلطات لتحسين حماية الفضاءات العامة من الانتهاكات، ويطالب بتطوير بنى تحتية تحترم احتياجات المجتمع وتحفظ كرامته.
يتطلب هذا المسار التعاوني إصرارًا على إجراء تغييرات عملية عَبر تعزيز التعاون بين أفراد المجتمع والسلطات المحلية لابتكار نماذج فعّالة للأمن المجتمعي الذاتي. يُمكن من خلال تبني سياسات وأنشطة واعية تدعم انخراط الأفراد في تحسين بيئتهم وتعزز من مفهوم المسؤولية الجماعية، بناء حيّز عام يُحتَرم فيه حق الجميع ويُساهم بفاعلية في تلبية احتياجاتهم، فيصبح مكانًا يُحاكي تطلعات المجتمع ويحقق رفاهه ويعكس هويته.
المحامية راوية حندقلو
مديرة غرفة الطوارئ لمواجهة الجريمة والعنف في اللجنة القطرية لرؤساء المجالس المحلية.