"كُلّ عظيمٍ على هذه الأرض وُلد بِحُزن عظيم"، قد تبدو هذه المقولة ثَقيلة في فِكرتها، لكنّها حتمًا مريحة في مَقصدها، إذ إنها تعطي الأرض طابعًا خاصًا يُحاكي في مضمونه أنها أكثر مِن مجرّد مكان نعيش عليه، فهي مكانٌ يعيش فينا، نستخلص من خلاله جَمال هذه الحياة وَسَط كلّ هذا الموت الذي يحيط بنا، وهذا ما يَدفعنا لعدم التجرّد مِن غاية وجودِنا على هذه الأرض التي لا تَستحقّ ما يحدث لها.

إن الزمن -بِحساب الدول- يساوي صفرًا، وعندما يفرُّ اللاجئون من الحروب المُميتة والمعارك الضارية، فإن أي أرضٍ يصلون إليها تكون لهم ملاذًا آمنًا. يواجه اللاجئ تحدّيات كبيرة جدًا، فهو خَرَج بنفسه فقط، تاركًا كلّ ما يَملُك خلفه، تاركًا كل شيء، تاركًا أرضه، ولعلَّ اللاجئ الفلسطينيّ خيرُ مثال على المعادلة التي تساوي صفرًا، فهو لاجئ ومقيم داخل بَلَده وخارجها، مُتمسّك بحقّه في الأرض قبل أن يُوهَم بالأمل، فهي تُشكّل رمزًا له ولهويته وتجذره فيها، وهو يحمل تاريخًا متأصلًا في ثنايا واقعه وموروثًا حضاريًا يرويه لأحفادِه مع تَعاقب السنين على مدار تلك المعادلة.

"الحقيقة أنهم لم يتبخّروا، لم يَحملوا حقائبهم، لم يُتَح لهم أن يَمسحوا دموعهم على الملأ، لم يَذهبوا طوعًا، بل اقتيدوا إلى العراء الدوليّ وأصبحوا لاجئين".. هكذا وَصَف الكاتب الإسرائيلي حاييم هنغبي الفلسطينيين بعد النكبة، ومنذ ذلك التاريخ المشؤوم، يُحيي الفلسطينيون داخل فلسطين وخارجها هذه الذكرى تعبيرًا عن الارتباط بأرضهم التي هُجّروا منها، وعدم التفريط فيها، وعَن التمسّك بهويتهم الوطنية وحقّهم في العودة إليها. وتُعْتَبر الأرض من أهم الجوانب التي تُشكّل اللاجئ الفلسطيني وانتماءه، حيث تُعتبر جزءًا أساسيًا من الثقافة والتاريخ، وتعد أيضًا مصدرًا لحقوقه القانونية والإنسانية، إذ تُعتبر الأرضُ مملكة اللاجئين التي فقدوها، وأصبحوا يَسعون جاهدين لاستعادَتها.

 فتَصَوُّر اللاجئ للكون والحياة هو تصوّر مُنبثق عن احتياجاته الأساسية، بحيث لا يأخذ ذلك التصوّر بمعزل عن ارتباطه بأرضه المُنْبَثّ في أعماقه، وإنما يأخذ من أرضه وطنًا ليتملى الحياة في كلّ شيء حوله، يناظرها بعيون منتقاة، يعمد إليها، فتثير في نفسه حقيقة هائلة خالصة رهيبة، تَصِله بذلك الكون عن طريق القوة التي منحها إياه وجوده وثباته عليها.

إن آمال اللاجئ كثيرة، ومخاوفه متعددة، لكن اللاجئ الفلسطيني على وجه الخصوص، وإن أعْجَزَه البقاء على هذه الأرض وتوافدت على حسّه طرقات الموت تنذره بأن هذا الأمل مستحيل - أمل العودة - راح يلتَمس البقاء بطرق أخرى؛ الامتداد بالنسل تارة، وتارة بمحاولة تثبيت الحقّ بتعاقب الأجيال وتوسيع الآفاق المتاحة، وأن يعيش قَدَره المقسوم له من الحياة سعيدًا، خاليًا من محاولات خَلع جذور ثباته بالوقوف بوجه الأحداث والمخاطر التي قد تؤدي إلى ذلك، فالتاريخ والحوادث والوقائع تدلّل على أن أهل فلسطين يقدمون التضحيات الجمّة في معركة الصراع مع الاحتلال الصهيوني برغبة جامحة، وبِنَفْس مطمئنة راغبة، وكأن التضحيات مُتعة ولذّة لا تضاهيها متعة أو لذّة أخرى.

وتشكل الأرض جزءًا أساسيًا من حقّ أي إنسان، فلكل فرد الحقّ في السَكن اللائق، والأمان، والموارد الأساسية للعيش، أما بالنسبة للاجئين؛ فإن الوصول إلى الأرض يعني الوصول إلى هذه الحقوق، لأنها لا قيمة لها بدون الأرض، لكن في الكثير من الأحيان، يُجبر اللاجئون على العيش في ظروف غير إنسانية، مما يهدد حقوقهم الأساسية، وتلعب منظمات حقوق الإنسان دورًا مهمًا في الدفاع عن حقوق اللاجئين وتوفير الدعم اللازم لهم للوصول إلى الأرض والمنازل، لكن دون جدوى.

وتُعتبر الأرض عنصرًا أساسيًا في حياة اللاجئين، حيث ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالهوية والأمان، والفرص، ويُساعد فَهم أهمية الأرض بالنسبة للاجئين في تعزيز الوعي حول القضايا التي يواجهونها، ويجب أن تتضافر الجهود المحلية والدولية لضمان حقوق اللاجئين الفلسطينيين في الوصول إلى حقّهم في الأرض، وتوفير الظروف المُلائمة لإعادة بناء حياتهم، وتنفيذ هذا الهدف هو خطوة أساسية نحو عالم أكثر عدالة.

ولا يمكن للاجئ أن يعيش في تصور خاطئ ما دام يملك أن يرى الصواب، ولا ينبغي أيضًا أن يكون تفكيره محصورًا في دائرة ضيقة مُنقطعة عن أهمية وجوده على أرضه، وإنما يجب أن ينتزع من ذلك الوجود حقّه رغم تَكالب قوى الشرّ أجمع، وهذا يتأتى بالابتعاد قدر المستطاع عن القلق العنيف الذي يزعزع استقراره ويعيق انطلاقه نحو حقّه بكل ثبات واستقامة، لأن الغاية من هذا الدّرب هي إعادة الحق.

وبهذا نرى أن القَدَر القاهر شكلٌ من أشكال الوجود، وبقدر ما حكمه يعلم الطريق إلى الإنسان، فإن اللاجئ لا يعرفه، لكن قد يتوقعه، بحيث لا يمكن الاعتراف أن ذلك القدر قد يأتي بصورة اعتباطية أو عَرَضية، ولا يصاحبها ارتباط أواصر الوجود بالمكان، ولا أفكار تندرج تحت ضالة المنفى المؤكد، وبذلك يرى اللاجئ قَدَره القاهر بشرود منتظم، تتزين فيه الآمال لتتوازن القوى المحرّكة لتقول: إن أرضًا كهذه تستحق شعبًا كهذا.

محمد أبو هشيم

كاتب ومترجم لاجئ من يافا، ويسكن في مخيم طولكرم 

رأيك يهمنا