"أصبحنا كَعُلبة السردين": عن أزمَة الأرض والسّكَن في النقب
"أصبحنا كعلبة 'السردين'، السياسات الممنهجة والمتبعة بحقّ بدو النقب تهدف إلى جمع أكبر عددٍ منهم على أصغر مساحة مُمكنة. هذه حرب شاملة على الأرض والمسكن"، يقول الناشط محمد أبو قويدر، من قرية الزرنوق مسلوبة الاعتراف، الّتي تعاني مِن نقص حادّ في أماكن السكن، وعمليات هدم مستمرة.
ويضيف أبو قويدر: "نحن ممنوعون من التجديد والبناء داخل المنازل، وقد يُستخدم ذلك كذريعة لهَدمها بالكامل. سكان القرية الّذين يبنون بيوتًا جديدة، يلجأون إلى استخدام أسقف من صفائح، كي لا تُكتشف عبر التصوير الجوّي. ابني في السادسة عشرة من عمره، ولا أعرف أين سأبني له منزلًا في المستقبل. لقد أمضينا أعمارنا في خَوف من الهَدم".
يتذكّر أبو قويدر جيدًا الهدم الأول الذي عاشه، عندما كان طفلًا في العاشرة من عمره، ومشاعر الخيبة الّتي شَعَر بها حينها. هذه التجربة، الّتي لم تنته، تكررت مع إخوته، حيث يروي كيف هُدم منزل أخيه قبل 12 عامًا، واعتديَ على والدته، الّتي وقفت بجسدها وحيدةً أمام الجرافة، محاولةً منع القوات من هَدم مَنزل ابنها. يصف أبو قويدر المشهد بالانتقام، ويقول: "هذا ما حدث قبل سنوات، فما بالُك بما يحدث اليوم في ظلّ الوضع الراهن؟ إنّ هدم المنازل في النقب، لا يختلف عن هَدم المنازل في قطاع غزة سوى في آلية الهدم؛ في الواقع، هي ذات السياسة والترويع".
كيف بَدَأت أزمة السّكن في النقب؟
باتَ البحث عن مكان للسكن والاستقرار بعد الزواج كابوسًا مطبقًا يعيشه آلاف الشباب في النقب. تُعتبر أزمة السكن والاكتظاظ السكاني من أبرز القضايا التي تعاني منها البلدات البدوية في النقب، في ظل النقص الحادّ في الأراضي المعدّة للبناء.
يتوزّع البدو في النقب على ثلاث مناطق مختلفة: إمّا في المدن السبعة التي أقيمت بعد انتهاء الحكم العسكري مِثل مدينتي رهط وحورة، أو داخل القرى التي اعتُرف بها بين عامي 1999 و2006، أو في القرى مسلوبة الاعتراف، الّتي يبلغ عددها 37 قرية. وفقًا لمروان أبو فريح، محامي ومدير مركز عدالة في النقب، يواجه أكثر من 300 ألف فلسطيني بدوي في كل هذه المناطق أزمة سكن حادة.
بَعد انتهاء فترة الحُكم العسكري، نقلت الدولة البدو في النقب، من مناطق "غير متطورة" إلى سبع بلدات جديدة أكثر تطورًا، لا تتلاءم مع نمط حياة البدو، الّذين يحتاجون إلى مراعٍ وأراضٍ زراعية، وذلك دون أي مراعاة لعاداتهم وتقاليدهم، ومن ثم تُركوا دون متابعة وتطوير، على عكس ما يَحدُث في البلدات اليهودية، ممّا خلق أزمة السكن. كما أنّ طبيعة التكاثر لدى البدو تساهم في زيادة الطلب على قسائم السَّكن غير المتوفرة أصلًا.
يقول أبو فريح: "في رهط وحدها، هناك نحو 8 آلاف شاب مُقبلون على الزواج ويبحثون عن قسيمة بناء للاستقرار.
تريد الدولة حلّ ضائقة السكن من خلال بناء عمارات سكنية، وهو أمر لا يتناسب مع طبيعة حياة البدو. وللحصول على شقة سكنية في هذه العمارات، يجب عليك الدخول في مناقصة مع أقاربك، ممّا يخلق نزاعات وخلافات بين أفراد العائلة الواحدة".
الأزواج الشّابة: صراع البقاء أو الهجرة
"تضطر الأزواج الشابة إلى الإقامة في الحيّز نفسه مع الأهل، فقد نجد على قسيمة أرض واحدة أكثر من ثماني عائلات، بعضها يصل عدد أفرادها إلى تسعين، يضيف أبو فريحة.
أمّا بالنسبة للقرى مسلوبة الاعتراف، فسكّانها يُعتبرون "غزاة" وفق القانون الإسرائيلي. وكما الحال في البلدات المعترف بها، لا توجد قسائم بناء كافية. بالإضافة إلى ذلك، تعاني هذه القرى من عمليات هدم مستمرة تصاعدت وتيرتها في عام 2024، لتصل إلى ما لا يقل عن ضعف ما كانت عليه في عام 2023، وفق أبو فريحة.
يصف أبو فريح ما يحدث بالهجرة الداخلية، حيث تلجأ بعض الأزواج الشابة إلى الانتقال من بلداتهم إلى المناطق اليهودية. بينما تضطر أزواج شابة أخرى في القرى غير المعترَف بها إلى الانتقال إلى القرى البدوية المعترَف بها، بسبب محاولات تهجيرهم والتضييقات المستمرة، مما يُفاقم الاكتظاظ السكاني في البلدات المعترَف بها.
يقول رشدي أبو الطيف (36 عامًا)، من رهط: "تزوجت قبل 16 عامًا، ومنذ حينها أعيش مع زوجتي وأطفالي الخمسة على قطعة الأرض نفسها التي يتواجد عليها أهلي وإخواني الأربعة وعائلاتهم. نحن نفتقد للاستقلالية".
يشرح أبو الطيف صعوبة الحصول على قسيمة أرض في النقب، فحتّى لو تواجدت، يكون الاختيار بحسب عَشيرتك وحجمها. كما أنّ دخول المناقصة للحصول على قسيمة أرض، مرتبط بدخولك مع أقاربك، ويتم إجراء "قرعة" للحصول عليها.
يَشعر أبو الطيف أنّه بين المطرقة والسندان، إذ يعيش صراعًا بين البقاء على أرضه في رهط والهجرة إلى بلدة يهودية، الّتي إذا انتقل إليها، سيواجه تحديًّا آخر وهو العنصرية.
يردف أبو الطيف: "منذ عام 2008 وأنا أنتظر حصولي على قسيمة أرض، وربما سأنتظر عشر سنوات أخرى، لا شيء يضمن لي حصولي عليها. لا أرى ضوءًا في آخر النفق، وإذا استمر الوضع على هذا الحال، سأضّطر للخروج مع عائلتي من رهط".
هَدْم حياةٍ لم تبدأ بعد..
تُشارِكني رنا (اسم مستعار)، في العشرينيات مِن عمرها، تجربتها مع الهَدم بعد زواجها بأشهر عدّة، قائلةً: "عشت في منزلي تسعة أشهر فقط. كانوا يأتون لتفقّد المنزل بين الفينة والأخرى، ليروْا إن كنّا قد هدمناه. في النهاية، حدّدوا موعدًا للهدم. منذ أن هُدم المنزل ونحن نعيش في منزل عمّتي، في غرفة واحدة. في فصل الشتاء، من شدّة المطر، يَسقُط علينا سقف الغرفة (المصنوع من صفائح)".
تجربة أركان (22 عامًا) من إحدى القرى مَسلوبة الاعتراف، لا تختلف عن تجربة رنا، فهذه هي التجربة الّتي تَجمع نساء النقب المتواجدات في بلدات ضاقت على ساكنيها.
تقول أركان: "حدّدوا موعد هدم منزلنا في يوم زفافنا، واضطر زوجي إلى دفع 80 ألف شيكل لتأجيل موعد الهدم ثلاثة أشهر أخرى. كانوا يتفقدّون المنزل من حين إلى آخر. في إحدى المرات، جاؤوا إلينا بلباس مدني، وكنت حينها حاملًا في طفلي الأول، متواجدة في حديقة المنزل أسقي الزهور، قال لي أحدهم 'عَ الْفاضي، لا تِسقيهم، رَح يموتوا'".
تتابع: "لم يتوقع زوجي أنّ الهدم سيحدث بالفعل. هَدَمنا منزِلنا بأيدينا لتجنب دفع الغرامات العالية، الّتي كنا سنضطر إلى دفعها في حال هدمته السلطات. بعد ذلك تشتتنا، اضطر زوجي للانتقال إلى شمال البلاد ليعمل ويدخر المال. ثم عشنا في منزل أختي وزوجها. لا توجد خصوصية، حتّى أطفالي لا غرفة لهم، ينامون معي على السرير نفسه. لا أريد قصرًا، كل ما أريده أن تُتاح لنا الفرصة للبناء دون هدم".
قد يبدو حلم أركان في بناء منزل خاص بها حلمًا بسيطًا، لكن في ظل السياسات الممنهجة الّتي تهدف إلى تهجير أهل النقب البدو وتركيزهم في أقلّ مساحة مُمكنة، يبقى حلم أركان حلمًا معلّقًا، مثل آلاف الأحلام الأخرى في صحراء النقب.